في رحيل القامة راسخ العلم وحكيم القوم.. الأب المربي جولي أرقوف بودا (2 من 3)

بقلم/ مراد موديا [email protected]

هذه الشِّيم والخصال جعلت منه استثناءً لربما احتاج النَّاس إلى قرن كامل، أو يزيد، لتجود عليهم الأرحام بشخص يجمع مثل هذه الخصال. ويا حسرةً على من تولوا أمر النَّاس في بلادنا، الذين إذا ارتقوا إلى سدة المسؤولية، حتى تبدَّلت وجوههم، وتغيَّرت مراكبهم، واصفرَّت ابتسامتهم، وتنكَّروا للضعفاء والمساكين من أهلهم وأقاربهم. ولا أدري ما الذي أقعدهم من أن يقتفوا ويتشبهوا بخصال الكرام، حتى ولئن لم يكونوا مثلهم، فإنَّ التشبه بالكرام فلاح. أستاذ جولي أرقوف رجل وقر في قلبه وروحه أصدق معاني الإنسانية، فعرف وضاعة وسراب الحياة الدنيا، فاتَّخذ منها جسراً متيناً عبر به حيث هو الآن في رحاب مولاه، وفي كنف رحمته التي وسعت كل شيءٍ، ووارف ظله الممدود. اللهم هذا ظننا فيه بما قدَّم، وهذه صلواتنا له بأن يكون في رحاب ومقاعد الصديقين عندك.
كاتب هذه السطور لم يتثن له لقاء الراحل العم الأستاذ جولي أرقوف إلا في أربع مهام، لكن سبقت سيرته هذه اللقاءات، ويا لها من سيرة. سمعت به من الرفيق القائد الشهيد أنقولو كناسا (محمد جمعة نايل)، قائد وبطل معركة تلوسي التاريخية الفارقة في مسيرة نضال شعبنا نحو الحريَّة، واستعادة أمجاد كوش ومروي العظيمة. حكى لي القائد كناسا عنه، وذلك بعد عودته من مؤتمر أما (النيمانج) الأول الذي انعقد في منطقة الكوك بالأراضي المحررة في الفترة ما بين 15-18 فبراير 2004م. هذا المؤتمر، الذي نجح بكل المقاييس، كان يمثل الإجماع الكبير، وبشكل منقطع النظير، من قادة الحركة الشعبية في المنطقة، وعلى رأسهم الشهيد القائد محمد جمعة نايل، والقائد الفذ الرفيق نصر الله خبر، أمده الله بوافر الصحة، والقائد الراحل الثوري الكبير العم والرفيق المك محمد فيري، والشهيد القائد العميد أحمد بحر هجانا، عليهما رحمة الله، والآلاف ممن حضروا هذا المؤتمر، أو أولئك الذين حالت بينهم الظروف المختلفة للحضور. فقد أجمعوا على حكيمهم وكبيرهم العارف بتضاريس وأمزجة قومه كمعرفته العميقة بتضاريس جغرافيتهم، وهو الحاذق في مخاطبة كبريائهم، فهو كان يعلم يقيناً أنَّ من أهله الأما منهم إذا اتخذوا موقفاً معيناً يتجمَّدون عليه، وقد تدور الدهور، وتتبدَّل الأحوال، وهم على ذات الموقف إلى أن يتبيَّن لهم باطله ببينونة كبرى. وأشبه ما في هذا الموقف مثلما يكون أحدهم كذلك الصخر العملاق من صخور جبل منطقته في جمود يصعب تحريكه. هذا الصنف من قومي، وفيهم أشباه في جميع شعوب النوبة الأخرى إذا ما اتخذوا موقفاً فردياً كان أو جماعياً، حتى انتظروا الآزفة يوم ترى الجبال تحسبها جامدة، وهي تمر مر السحاب. كانت حكمة أستاذ جولي إذا ما مست قلوب هؤلاء لينتها، ثمَّ أنارت عقولهم؛ ففي كلامه جواهر الحكم، ما ينزل على القلوب الغليظة الصلدة فيفتح فيها مسارب النور، وإنَّ من القلوب لما تتفتح بالكلم الطيب الحكيم فيخرج منها الخير، كما أنَّ من الحجارة لما يتشقق فيخرج منه الماء.

يقول القائد الشهيد كناسا (محمد جمعة نايل)، وكان يتكلَّم بفخر واطمئنان عظيمين عن نجاح هذا المؤتمر سالف الذكر، ثمَّ كان يتحدَّث بشكل خاص جداً بالجهود الحثيثة والآراء الصائبة التي قدَّمها الراحل جولي أرقوف لقيادة أما وقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان لإنجاح هذا المؤتمر التاريخي. ومن خلال كلام القائد كناسا الذي عبَّر عن امتنانه واحترامه العميقين للعم والأستاذ جولي أرقوف، وأثنى على جهوده الحكيمة في إنجاح هذا المؤتمر، علمت علماً يقيناً بالاحترام والتقدير العظيمين الذي كان يكنه القائد محمد جمعة نايل لهذا الهرم الكبير. وأعلم أيضاً أنَّ أعضاء القيادة العليا للحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان يعتبرونه، ويقدرون له مواقفه الحكيمة حق التقدير. ليس هذا فحسب، بل حتى الجيل الجديد من شابات وشباب المنطقة الذين التحقوا بالنضال بعيد توقيع اتفاق وقف إطلاق النَّار في إقليم جبال النوبة بوساطة أمريكية-سويسرية في يناير 2002م، حيث تدفقت صوب الأراضي المحررة أعداد هائلة من نخبة شابات وشباب النوبة خريجي الجامعات السودانية، وكان بعضهم مازال على وشك التخرج، إلا أنَّهم سارعوا في لهفة وشوق لا يوصف إلى الأراضي المحررة، وكانت رحلة أغلبهم تمر ببيت العم جولي أرقوف.

وقبل أن يدخلوا هذا البيت الكبير آمنين من أي خوف، ويطعمون من جوع بفضل خيره الوافر، كانوا يدخلون كالدماء الحارة الدافقة إلى قلب عمهم وجدهم الأستاذ الكبير فيجدون عنده الحفاوة، ويقوم بتيسير أمورهم، ويدعوا لهم بالأمان وبالنصر في قضية شعب النوبة العادلة، ومن ثمَّ بهدوء وثقة متناهية يتركون معه وصاياهم الأخيرة، ويغادرون صوب الأراضي المحررة، وكلٌ منهم آمن على سرِّه الذي أوفاه عند العم جولي أرقوف، وكلٌ منهم قد نهل من معين حكمته، وازداد من صادق دعواته. ويحدثني رفيق آخر بأنَّ نخبة من بنات وأبناء الدلنج انحازت لأطروحات الحركة الشعبية لتحرير السودان فقط بعد أن رأوا العم جولي أرقوف حين ذهب وترأس مؤتمر الأما الأول، الذي ذكرناه آنفاً، وعاد إلى الدلنج بعد النجاح الباهر الذي حققه كرئيس لهذا المؤتمر الذي أقيم برعاية القائد الشهيد محمد جمعه نايل. هذا يدل بأنَّ للرجل حواريين في المدينة يتوسَّمون فيه الخير، ويتبعونه حيثما أمَّم وجهه، لا أتباع إمعة، وإنَّما أتباع قدوة حسنة لعلمهم برجاحة عقله، وصواب خياراته في الأمور الجلل التي لا يهتدي إلى الحق فيها إلا أولو العزم من الرجال.

للحديث خلاصة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.