الاتفاق الإطاري وخارطة أمبيكي: نفس المنهج والمَلْمَح!
الواثق كمير [email protected]
من فرطِ متابعتي للعملية السياسية الجارية، وفي أثناءِ تقليبي للدفاتر القديمة في المسرحِ السياسي السُّوداني، تبينّ لي بجلاءٍ أنه بالرغم من تغيُّرِ الظروف وتبدُّل الأوضاع، ظلّت الصفوة العسكرية والنخب السياسية تُعيد اجتراح نفس النهج في مقاربةِ قضية الحوارٍ الوطنيٍ الشاملٍ والعملية الدستورية لإرساء قواعد بناء دولة المواطنة. في هذا السياق، أزعمُ في هذا المقال أنّه بالرغم من اختلاف طبيعة النظام الحاكم، وتبدل خانات اللاعبين السياسيين، ظل المنهجُ الذي اختطته قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، مع القائد العام للقوات المسلحة وقائد قوات الدعم السريع، للوصول إلى الاتفاق الإطاري (5 ديسمبر 2022)، هو نفس المنهج الذي تبناه نظام الانقاذ في سنواته الأخيرة للتوقيع على “خارطة طريق” الآلية الأفريقية رفيعة المستوي، برئاسة ثابو أمبيكي رئيس جنوب أفريقبا السابق، بهدف “الحاق” القوى السياسية المعارضة ب “الحوار الوطني” الذي دعا له رئيس النظام في مطلع عام 2014. ورغماً عن ما وجدته من دعمٍ إقليمي ودولي، ظلت خارطة أمبيكي مجرد رسم تخطيطي “كروكي” حتى إندلاع ثورة ديسمبر 2018، فلم تُثمِر عن اتفاقٍ أوتسوية سياسية تنقل البلاد من حكم الحزب الواحد إلى نظام ديمقراطي مُتعدد. فما هو مصير الاتفاق الإطاري؟ سؤالٌ يحاول المقال الإجابة عليه.
بين خارطة أمبيكي والاتفاق الإطاري: المنهج والنتائج!
تكاثرت زعازع وتناقصت أوتاد نظام الانقاذ إثر انفصال الجنوب، وما تبعه من اشتعال الاحتجاجات ضد الأوضاع الاقتصادية في يونيو 2012، ومن ثمّ الانتفاضة الشعبية في سبتمبر 2013، مما أفرزّ واقعاً سياسياً جديداً. فتوسعت المعارضة السياسية وتصاعد العمل العسكري على النظام، بينما تبدى تنازع مراكز القوة داخل الحزب الحاكم وتوالت الانشقاقات وفصل القيادات، والتي لم تستثن مؤسسات الدولة حتى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية. فرضت هذه الظروف، في ظل حصار دولي وضغوطات إقليمية، على الرئيس المعزول أن يُطلقّ مبادرة الحوار الوطني، المشهور ب “الوثبة” في 27 يناير 2014، لكسرِ الطوق، محلياً وخارجياً، الذي يهدد سلطته. وجدت الدعوة إلى الحوار ترحيباً من المجتمع الدولي، ممثلاً في دول الترويكا (أمريكا وبريطانيا والنرويج) والاتحاد الأوربي، والمجتمع الإقليمي (الاتحاد الأقريقي ومجلس الأمن والسلم التابع له). ومع ذلك، تعثرت عملية الحوار في ظل الشد والجذب بين الحكومة والمعارضة مما أثار توجس المجتمعين الإقليمي والدولي، ودفع بهما للتدخل عبر وساطة “الآلية الأفريقية رفيعة المستوى”، برئاسة الرئيس ثابو أمبيكي، وفق قرار مجلس الأمن والسلم الأفريقي رقم (456) في 14 سبتمبر 2014، بغرضِ رسمِ خارطة للطريق تجمع كل الأطراف السودانية حول طاولة التفاوض والتوصل إلي تسوية سياسية شاملة.
استند منهج النظام الحاكم في التعاطي مع قضية الحوار على توجُهين مُتلازمين، أولهما: أن الحكومة تفاوض فقط الحركات المسلحة ومن تقبله هي من أحزاب المعارضة، وثانيهما: بقية قوى المعارضة الممانعة من “الحوار الوطني” فخيارها وحيد وهو اللحاق، كل بمفرده، بالعملية السياسية عبر الحوار مع آلية 7+7، (7 ممثلين للمؤتمر الوطني و7 من ممثلي المعارضة الموافقين على المشاركة) على أن لا تجلس الحكومة مع هذه القوى ك “كتل” (نداء السودان وقوى الاجماع الوطني). لم تُخِب الآلية الأفريقية ظنّ الحكومة في “خارطة الطريق” التي قدمها رئيسها ثابو أمبيكي، فوقعت عليها في أغسطس 2015، ومن ثم وقعت عليها أربعة أطراف من المعارضة وهي بالتحديد: الحركة الشَّعبية شمّال، حركة تحرير السُّودان/مناوى، حركة العّدل والمسّاواة/جبريل، وحزب الأمة القوّمي/السيد الإمام، في أغسطس 2015.
حددت خارطة الطريق أطرافها، على هوى حكومة المؤتمر الوطني، وتضمنت أمرين فقط، 1) عقد إجتماع في أديس أبابا بين آلية 7+7 والأربعة تنظيمات المُوقعة علي الخارطة بغرضِ بحث (الخطوّات التي ينبغي إتخّاذُها لتحقيق شُّمُول الحِّوار الوطني، و2) اتفاق هذه الأطراف ب(الحِّوار الوطني السُّوداني الذي دعّا له رئيّس الجُمهورية، وبدأ في أكتوبر 2015). ذلك، في الوقت الذي كانت قوى المعارضة تدعو إلى حِوارٍ (قوميٍ دسّتُوري) يُنهي حكم الحزب الواحد، وابتدارِ عملية دستورية تخاطب قضايا: السلام والوحدة الوطنية، والاقتصاد، والحقوق والحريات الأساسية، والهوية الوطنية، والحوكمة.
لم تفلح المساعي الحثيثة للإمام الصادق في اقناع ثابو أمبيكي، ومُخدمه مجلس الأمن والسلم الأفريقي، وحكومة المؤتمر الوطني، بفتح الباب لمشاركة قوى المعارضة الأخرى وإستيعابها في “الاجتماع التحضيري”، الذي يسبق مشاركتها في عملية الحوار الوطني. فأنهى مؤتمر الحوار الوطني جلساته وأصدر بيانه الختامي في 9 أكتوبر 2016، دون أن يعبأ بمشاركة القوى السياسية المعارضة. لم تمُر سنتان حتى أُسدل الستار على خارطة الطريق إثر الاجتماع التحضيري الذي دعا له أمبيكي في أديس أبابا، في 9 ديسمبر 2018، بعد الرفض القاطع لنائب رئيس المؤتمر الوطني (فيصل حسن) مشاركة ممثلي الأحزاب القادمين من الخرطوم، وأنه لن يجتمع إلا مع الأربعة تنظيمات الموقعة على الخارطة (لم يكُن تعبير 4 “طويلة” قد تم صكه حينذاك). عليه، انفض سامر الاجتماع التحضيري وعادت وفود المعارضة إلى الخرطوم، على رأسها السيد الإمام في 19 ديسمبر، بالتزامن مع إنطلاق شرارة الثورة وتصاعد المقاومة حتى تم سقوط النظام في 11 أبريل 2019.
وفي سبيل إدارة الانتقال والتحول الديمقراطي إثر هذا السقوط، وقعت القوى الموقعة على “إعلان الحرية والتغيير” على الوثيقة الدستورية، القائمة على “الشراكة” بين هذه القوى والمجلس العسكري الانتقالي (الجيش والدعم السريع)، والتي بموجبه تشكلت الحكومة الانتقالية الأولى برئاسة د. عبد الله حمدوك. لم تأت السفن بما تشتهي رياح التحول الديمقراطي المنشود إذ انقسمت قوى الحرية والتغيير على نفسها، وتصاعد الخلاف بين هذه القوى، وحركات الكفاح المسلح، من جِهةٍ، والقيادة العسكرية، من جِهىٍ أخرى، كما أسفرت الصراعات في داخل المكون العسكري عن وجهها. تضافرت هذه العوامل، مع اقتراب أجل تسليم الفريق أول عبد الفتاح البرهان (المكون العسكري) رئاسة مجلس السيادة إلى قوى الحرية والتغيير (المكون المدني)، وإلحاح هذه القوى على هذا التسليم، لدفع المكون العسكري للقيامِ بانقلابِ “فض الشراكة” في 25 أكتوبر 2021، وما تبعه من استقالة لرئيس الوزراء في مطلع يناير 2022.
وبعد فشل الاتفاق المُوقع بين القائد العام للجيش ورئيس الوزراء المُستقيل، تحول موقف قوى الحرية والتغيير-المجلس المركزي من المطالبة بإعادة الشراكة، بشرطِ استبعاد القيادات العسكرية الحالية، إلى الإعلان عن رفض الشراكة ومقاطعة الجلوس مع المكون العسكري. وعلى إثر مقاطعة هذه القوى للإجتماع التحضري للعملية السياسية، الذي دعت له “الآلية الثلاثية” في أبريل 2022، ومن أجلِ فكِ هذا الجمود السياسي تقدمت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي، خلال زيارتها للسودان في يونيو 2022، برؤيتها في مقاربة هذه العملية. مهدت رؤية مساعدة الوزير الأمريكي لنشأة مجموعة “الرباعية” (أمريكا، بريطانيا، الإمارات المتحدة، والسعودية) والتي نجحت في جمع قوى المجلس المركزي مع المكون العسكري، بطرفيه، وابتدار العملية السياسية بطرح مشروع الدستور المٌعد من قِبلِ تسييرية نقابة المحامين السودانيين. تواصل الطرفين وتبادل المذكرات بينهما، بدعمٍ من الرباعية والثلاثية، أثمر عن الاتفاق اِلإطاري الذي يهدِفُ إلى إنهاء حالة “الانقلاب” استعادة عملية الانتقال المدني الديمقراطي.
ورغماً عن تغيُّرُ الظروف السياسية، وتبدُلِ خانات اللاعبين السياسيين (ولو ظلوا هم أنفسهم)، يتشابه الاتفاق الإطاري في 2022، مع خارطة أمبيكي في 2015، في المنهج والملامح والملابسات. إبتداءاً لم ينفعل الشعب السوداني بخارطة أمبيكي كما لم يحفل بالاتفاق الإطاري، وكما وجدت دعوة رئيس نظام الإنقاذ للحوار “الوطني” استجابةً ومعارضةً، انقسمت القوى السياسية والمجتمعية، حتى داخل تحالف قوى الحرية والتغيير، حول جدوى الاتفاق الإطاري بين مؤيدٍ ورافضٍ له. حددت خارطة أمبيكي فقط أربعة تنظيمات بالإسم يقبل النظام وحزبه الحاكم الجلوس والتفاوض معها، على أنّ المساحة المُتاحة لبقية القوى السياسية تتمثل في الإنخراط المباشر في جلسات الحوار الوطني لتُدلي برأيها كما تشاء. وعلى نفس النهج، حدد الاتفاق الإطاري المشاركين في العملية السياسية وتصنيفهم إلى قوى الثورة وحركات الكفاح المسلح وقوى الانتقال، وتعريف مهام الموقعين عليه في تشكيل مؤسسات الانتقال. أما بقية القوى السياسية، غير الموقعة على الاتفاق، فبوسعها المشاركة في وِرش العمل التي تبِتُ في شأن القضايا الخمس الرئيسة حتى يتِمُ التوصل إلى الاتفاق النهائي، مع حق جميع القوى السياسية والمجتمعية المشاركة في “المؤتمر الدستوري” مجهول الأجل.
وكما رفَضّ المؤتمر الوطني التعامل مع، والإعتراف بالكتل أو التحالفات السياسية المُعارضة، خاصة قوى الاجماع الوطني ونداء السودان، باستثناء التنظيمات الأربعة الموقعة على خارطة الطريق، كذلك رفضت قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزى الحوار مع القوى المعارضة للاتفاق الإطاري ككتلٍ أو تحالفات (خاصة الكتلة الديمقراطية)، ووقعت أطرافها فرادى على وثيقة الاتفاق مع بقية التنظيمات السياسية والمهنية، والقائد العام للجيش وقائد الدعم السريع. لكن، رغم ذلك ظلت قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي هي من رتبّ للعملية السياسية التى ابتدرتها بورشة مشروع الدستور، المُعدة من قِبل اللجنة التيسرية لنقابة المحاميين، وهي من تُدير هذه العملية وتضبط بوصلة الكيانات الموقعة على الاتفاق الإطاري، كما كان المؤتمر الوطني يوجه دفة الحوار الوطني ويُحرِك خيوط الموالين له والمتوالين معه. وفي مجال الدعم الخارجي. كانت خارطة طريق أمبيكي مدعومة أفريقياً من المنظمة الإقليمية، الاتحاد الأفريقي، ودولياً من دول الترويكا والاتحاد الأوروبي، في مقابل دعم الآلية الثلاثية ودول مجموعة الرباعية للاتفاق الإطاري.
أزمة الحكم أم الدستور؟: ضرورة المؤتمر الدستوري!
بغض النظر عن التشابهات، فإنّ العِلة المشتركة بين خارطة أمبيكي والاتفاق الإطاري تكمن في إنشغالهما بالقضايا المتعلقة إما بشأن المشاركة في الحكم أو في سلطة ومؤسسات إدارة الانتقال، مع إغفال ملحوظ، ربما مقصود، لوضع القضايا التأسيسية الدستورية للدولة السودانية على رأس أولويات أجندة الحوار بين القوى السياسية. في ظني، قد ملّ السودان، وهرِمّ أهله من الاتفاقات والاتفاقيات والمواثيق التي درجت القيادات السياسية التوقيع عليها، لو كانت ثنائية أو مُتعددة الأطراف، لحل أزمة الحكم مما لم يُفض إلاّ لتعقيدات أكثر بما يُهدد وجود الدولة نفسها بدلاً عن إرساء قواعد بنائها. في رأيي، أنّه قد حان الآوان للانتقال من مُحاولة مُعالجة الأمور المتعلقة بمن يسوس ويحكُم بمعزلٍ عن مُخاطبة قضايا التأسيس والدستور. فإن اتعظنا بتجاربنا السابقة وكُنا حقيقةً نسعى إلى استقرار الحكم نفسه في البلاد، فما زالت عبارة “كيف، وليس من يحكم”، التي يرددها السياسيون قاطبةً، سارية المفعول.
إنّ الفشل الملازم لكل تجاربنا الانتقالية، منذ أن نال السودان استقلاله الوطني في 1956، في تحقيق التحول الديمقراطي واستدامة النظام السياسي التعددي، قد لا يستثني المرحلة الانتقالية الراهنة إن ظلّ الحوار السياسي يدور حول أمور الحكم والسلطة دون البتِ في القضايا التأسيسية للدولة السودانية. وعليه، فإنّه ينبغي أن تتوافق القوى السياسية والمجتمعية على التوجه إلى عقد المؤتمر الدستوري للنظر في، والحوار حول هذه القضايا الرئيسة، حتى يتجه السودانيون إلى انتخابات حرة ونزيهه وفق دستور دائم. ففي رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء المستقيل، قبل تشكيل حكومته الأولى، وقبل حتى الشروع في مفاوضات جوبا للسلام، قُلت له أنّ “ما سيتم طرحه على طاولة مفاوضات السلام هي نفس قضايا المؤتمر الدستوري. أفليس من الممكن سياسيا الجمع بين صناعة السلام والمؤتمر الدستوري في مفوضية واحدة؟ وذلك، بحيث يشرع في التفاوض حول الترتيبات الأمنية الشاملة بالتوازي والتزامن مع الحوار حول القضايا الدستورية القومية“ (الواثق كمير، “إلي رئيس الوزراء: كلمة المرور للعبور!”، سودانايل، 5 سبتمبر 2019).
بالطبع، لم يصل بعد الاتفاق الإطاري إلى نهايته المنطقية حتى نحكم بأنه سيلقى نفس مصير خارطة أمبيكي. فقد ينفض سامر الاتفاق، أو قد تتشكل على أساسه حكومة تقتصر قاعدة التأييد لها على مجموع الموقعين على الاتفاق. وربما السيناريو الأكثر ترجيحاً، هو التوافق على تشكيل حكومة الانتقالية المستندة على قاعدة أوسع تضُم قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية، على أقل تقدير. بجانب تصريف أعباء الحكم، تكون الأولوية والمهمة الرئيسة لهذه الحكومة ، والمٌحاسبة عليها سياسياً وأخلاقياً، هي تشكيل “اللجنة القومية للدستور”، من الفقهاء والمُشرعين وقيادات الرأي والمواطنين، للتحضير والإعداد لعقد المؤتمر القومي الدستوري. تُشارك في هذا المؤتمر كافة القوى السياسية والمجتمعية بكافة أطيافها دون إستثناء (إلاّ من أجرم وأفسد)، والحركة الشعبية شمال/القائد الحلو وحركة تحرير السودان/القائد عبد الواحد، والحزب الشيوعي وقوى المقاومة الشبابية، والمكونات الاجتماعية المختلفة، على أن تُطرح الوثيقة الدستورية المُتمخضة عنه في استفتاء عام لكل السودانيين. إنّ المؤتمر الدستوري سيجعل البلد تضعُ أقدامها على أول خطوة في طريق الاستقرار، يُمهد للبيئة المواتية ويُهيء المناخ للانتخابات، على أساسِ مشروع الدستور المُقر، والذي يحدد شكل الحكم الذي تقوم على أساسه هذه الانتخابات. في ظني أن مقاطعة ورش عمل القضايا الخمس، التي حددها الاتفاق الإطاري، قد تبدو مفهومة في سياق الصراع السياسي الماثل، بينما من العسير على القوى السياسية المُمانعة، من جِهةٍ، والقوى الداعية للتغيير الجذري، من جِهةٍ أخرى، رفض المشاركة في المؤتمر الدستوري. خلاصة الأمر أنه في حالة تكوين حكومة من الموقعين على الاتفاق الإطاري، أو في حالة تشكيل الحكومة من قاعدةٍ أوسع، أو حتى في سيناريو انهيار العملية السياسية وحدوث تغيير جديد في سلطة وهياكل الانتقال، يبقى المؤتمر الدستوري أيضاً هو المفتاح الوحيد لحل المُعضِلة السودانية، وإلاّ فلن تخرج البلاد من نفقِ الاتفاقات لتدخل في حالة الدائرة الشريرة مُجدداً.
خاتمة
أخفقت البرلمانات والجمعيات التأسيسية المنتخبة (1956-1986)، في أعقاب كل الفترات الانتقالية السابقة، في إنجاز المهمة الرئيس المُوكلة لها: كتابة الدستور الدائم للبلاد. بجانب ذلك، لم يخل أي ميثاق أو اتفاقية أو اتفاق سياسي من النصِ على عقدِ المؤتمر الدستوري. ومع ذلك، لم يُقيض له أن يقوم ولم يجلس السودانيون على طاوِلة واحدة للحوار حول قضايا التأسيس، ربما ما عدا مؤتمر “المائدة المستديرة” المُعنى بما عُرِف ب”مشكلة الجنوب” آنذاك. فمنذ دعوة د. جون قرنق للمؤتمر الدستوري عقِب انتفاضة أبريل 1985، وتضمينها في مُقررات مؤتمر كوكادام في مارس 1986، توافقت كل القوى السياسية المدنية في 1988، والمسلحة حينئذ (الحركة الشعبية)، على إنهاء الحرب الأهلية باتفاقية سلام عبر مؤتمر قومي دستوري يعقد في 18 سبتمبر 1989، لولا أن انقلبت الجبهة الإسلامية القومية على النظام الديمقراطي وحكومته المنتخبة. وفي 1995، كان المؤتمر الدستوري أحد أهم مُقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية (والذي كان نفسه بمثابةِ تمرينٍ للمؤتمر)، وتضمنته الوثيقة الدستورية الانتقالية في 2019، والاتفاق الإطاري نفسه في 2022. وللمفارقة، فقد ابتدرت قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي نفسها العملية السياسية الجارية بمشروع الدستور المُعد من قِبلِ اللجنة التيسرية لنقابة المحامين، والذي تأسس عليه لاحقاً هذا الاتفاق الإطاري. لا أظن أن رَهْن التوافق على قضايا التأسيس والدستور بالانتخابات، والتي يظل قيامها في رِحم الغيب في ظل ما تشهده البلاد من انقسام واستقطاب سياسي، هو الطريق الصحيح المُفضي إلى تحولٍ ديمقراطيٍ مُستدام بعد فشل كلِ الجمعيات التأسيسية المُنتخبة في تحقيق هدف صياغة الدستور الدائم.
فإلى متى يتِم ُالتهرب من استحقاق المؤتمر الدستوري؟
Toronto, 28 January 2023