في رحيل القامة راسخ العلم وحكيم القوم.. الأب المربي جولي أرقوف بودا (1 من 3)

بقلم / مراد موديا

بشروق شمس صباح الجمعة الموافق 13 يناير 2023م أفل قمر وتوارى عن عالمنا منارة العلم وجبل الحكمة الراسخ، وغار نبع الإنسانية والحب الخالص. لا شك في أنَّ رحيل العلماء والحكماء لهو من المصائب العظيمة التي تصيب الشعوب والأمم، وبذهابهم ينقص العلم، وتنحسر منابع الحكمة، وتبقى البشارات فيما تركوا من حكمة وعلم وحب لعمل الخير وذرية صالحة، ليكونوا بذلك كالنجوم الهادية إلى سواء الطريق في زمان تكاثرت فيه أعاصير الفتن، وتزعزعت فيه أوتاد الأخلاق والإخلاص. الأستاذ والمربي العظيم جولي أرقوف بودا الراحل عنا بجسده، والباقي بيننا بعلمه وحكمته، وسيبقى بين الناس لأنَّه علم وعمل بما علم فأحسن العلم والعمل، ويصدق فيه قول أبي إسحاق الألبيري:
وَتُفقَدُ إِن جَهِلتَ وَأَنتَ باقٍ وَتوجَدُ إِن عَلِمتَ وَقَد فُقِدتا
وسنظل نصلي من أجله بوفاء وإخلاص هذه اللحظات والأيام، وما بقي فينا لسان رطب ينطق بالحق ويلهج بذكر الحق، فهو رجل بدَّد بشعاع علمه ظلمات الجهل وأخمد بحكمته براكين الفتن، وروَّض بوقاره النفوس الجانحة إلى الشر، فأصبحت بفضل ترويضه لها جانحة لطباع الإنسانية السوية تحب الخير وتدل عليه. الأستاذ الفاضل جولي أرقوف كان مأوى دافئاً للكل، فهو رجلٌ انعكس شعاع ونور جوهره على مظهره، فكساه حلة من حلل ملوك كوش العظماء، وألبسه تاجاً من حب النَّاس، رجل عرف قدر نفسه فسخرها عطاءً وكرماً دون خوف أو مسغبة، رجلٌ نفذ نور الحق إلى قلبه فَخُلِّص من بؤر الكراهية والعداء، فتجلى في أحسن تقويم. ونسأل الله أن يرفع مقامه في جناته، كما رفع مقامه في هذه الحياة الدنيا، فقد أحبه الله وأصبغ عليه من العلوم وجعل له القبول والحب عند النَّاس، والقبول عند النَّاس هبة ربانية من أوتيها فقد أوتي خيراً وافراً، القبول وحب النَّاس لا يمكن أن يشتريه الأغنياء بمالهم، ولن يناله أهل السلطة بسلطانهم.
لعلَّ جولي أرقوف – كما حُدثتُ عنه – كان أباً وجداً للكل، ومربياً وأستاذاً للجميع. فقد أخبرني صديق عزيز وأخ فاضل ورفيق نضال صنديد، وهو من مدينة الدلنج ومن شبابها الواعدين، وبرغم من أنَّه يعتبر من الناحية العمرية كواحد من أحفاد العم أستاذ جولي أرقوف، إلا أنَّه كان يناديه بهذا اللقب الساحر (عمي أستاذ جولي)، وأكَّد أنَّ كل الشابات والشباب في المدينة، أو الخرطوم، أو حتى في الأراضي المحررة، كانوا ينادونه بعمي أستاذ جولي. والأكثر سحراً ودهشة من ذلك سمعت بأذني من بعض من أعرفهم معرفة جيدة، وهم قد يعتبرون من الجيل الذي يعقب جيل عمي جولي، وفقاً لنظام تسلسل الأجيال عند شعب أما (النيمانج)، إلا أنهم ينادونه أيضاً بعمي أستاذ جولي. وقال محدثي الشاب: “لقد ترعرعنا في هذه المدينة الجميلة مدينة الدلنج، ووجدنا الكبار من الآباء والأهل وسكان المدينة نساءً ورجالاً لا يتجرأ أحدهم أن ينطق باسم عمي جولي مجرداً هكذا، إلا وسبقه إما بعمي جولي أو أردف الاثنين وناداه بعمي أستاذ جولي.” وسر هذا التوقير والاحترام العظيمين، إنما هو انعكاس لتواضعه الجم، والتقدير والحكمة الراجحة التي كان يعامل بها عمنا جولي أرقوف الصغار قبل الكبار، فهو الذي كان يستمع إلى محدثيه بقلبه، وعندما يخلصون من كلامهم إليه في أي أمر كان، فإذا بدرر الكلم والحكمة تنساب من لسانه، وتتسرب كلماته إلى قلوب مستمعيه كما يتسرب الماء في شقوق أرضٍ هامدة أهلكتها انقباض المطر؛ فكلامه عليل كما النسيم، خفيف الظل ولطيف كما الفراش.
ويخبرني محدثي عن حكاية شقيقته الطالبة في إحدى مدارس الدلنج، وهم يسكنون في ذات الحارة أو الحي (حي أقوز) الذي يقع فيه منزل عمنا الأستاذ جولي أرقوف. إذ يقول إنَّه ذات مرة وأثناء اليوم الدراسي، حيث يجب أن تكون كل الطالبات في الفصول، وإذا بعمي جولي يصادف أختي في الشارع وهي تحمل حقيبتها في طريقها إلى البيت. تفاجأ عمي أستاذ جولي وناداها تعالي يا بتي، وهي بدورها لم تخف أو ترتعب منه كما يرتعب بعض الطالبات والطلاب من مدرساتهم أو أساتذتهم، بل أقبلت إليه في اطمئنان، فسألها أستاذ عمي جولي لماذا أنت خارج المدرسة؟ فقالت له بصدق بأنها “اتشاكلت” (تشاجرت) مع إحدى زميلاتها فطلبت منها المعلمة أن تذهب وتأتي بولي أمرها، فرد عليها عمي أستاذ جولي يلا نمشي المدرسة ونشوف المشكلة شنو ونعالجها!! ولفائدة القارئ أستاذ جولي وقتها كان مديراً للتعليم في الدلنج، ذهب معها وإذا بالمعلمات والمعلمين وحتى الطالبات يتسابقون لتحيته.. مرحب، سلام عليكم، اتفضل عمي أستاذ جولي.. فيرد عليهم جميعاً، بدءاً بحفيداته الطالبات وبناته وأبنائه المعلمات والمعلمين بتحية أحسن منها عليكم السَّلام تفضلوا إنتو وشكراً ليكم، وطلب مقابلة الأستاذة المعنية بمشكلة أختي فأكدت له أنَّها تشاجرت مع إحدى زميلاتها فطلبت منهم الاثنين أن يأتين بأولياء أمورهن. وبعد الاستماع إلى حديث المعلمة قال لها عمي أستاذ جولي: “البت دي أنا جدها، وولي أمرها.” فقد حلَّ المشكلة وتحمَّل مسؤولية النصائح التي قدمتها المعلمة حتى لا تتكرر المشكلة، وبدوره طلب من أختي أمام المعلمة أن تلتزم بنصائح معلماتها، وأن تحسن معاملة زميلاتها في الفصل، ومن ثم شكر المعلمة، وخرج بهدوء من المدرسة مشياً على قدميه ليباشر عمله كمسؤول أول عن التعليم في مدينة الدلنج. ليس هذا فحسب، بل كان هرماً تعليميَّاً في إقليم جبال النوبة (جنوب كردفان)، وأحد أبرز وأميز المربين والمعلمين على عرض البلاد وطولها.
ويحكي لي رفيق آخر، أن بيت عمي أستاذ جولي أرقوف في مدينة الدلنج كان عبارة عن برلمان قومي لشعب النوبة، وذلك لتنوع المشارب السياسية والأيديولوجية لمن كانوا يقصدون بيته للاستجمام قادمون من الخرطوم، أو ولايات السودان الأخرى، وهم في طريقهم إلى مناطقهم المختلفة في جبال النوبة. فقد كان مشهداً متكرراً أن تجد في بيته ناس الحزب القومي السوداني بمختلف تفرعاتهم، وناس المؤتمر الوطني، وأحزاباً أخرى. إذ يقول محدثي: “كنا نحن ناس الحركة الشعبية لتحرير السودان مستلمين البيت والصالون الكبير وأيام الحملة الانتخابية؛ ناس عمك إبراهيم نايل إيدام وجماعته قاعدين في الجانب الثاني من البيت؛ وقت الأكل بجيبو لينا عدد من صواني الأكل في الصالون دا لناس الحركة الشعبية؛ وناس عمك إبراهيم نايل وجماعته برضو عدد من الصواني؛ وبرضو تلقى ناس الحزب القومي السوداني موجودين، وعدد من الضيوف العاديين في طريقهم لزيارة أسرهم في مختلف أنحاء الجبال.” ثم يضيف محدثي قائلاً: “كان بالنسبة لينا في الحركة الشعبية بيت جولي كان الدار بتعنا، وكل الضيوف البجونا في الدلنج ضيافتهم بكون عند عمي أستاذ جولي”، ويواصل بصوت حزين وكأني به لا يستطيع مواصلة الكلام معي فيقول: “ما في يوم لا بالليل ولا بالنهار باب بيت عمي جولي بتقفل أو بتقطع من الأكل والشراب، وما في يوم شفت الصالون بتاع البيت فاضي من الضيوف.” اللهم أفتح له بيتاً عندك، وأرزقه من خيرك الذي لا ينقطع، وظلَّه بظلك الممدود.

للحديث بقيَّة،،،
باريس، 26 يناير 2023م

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.