كيف تم حكم السودان؟ (2): الكيزان ومشروع اسلمة وتقسيم الدولة
بقلم عثمان نواى
يبقى السؤال حول كيف تم حكم السودان قابلا للإجابة عليه من خلال النتائج التي نعيشها من اثار الدمار الذي خلفته ممارسات الحكم السابقة التي تضطر الأجيال الحالية التي تحلم بالحرية والديمقراطية لدفع حياتها ثمنا لتصحيحها اومحاولة النجاه منها كل يوم. نستطيع ان نرى الان ان الكيزان بحكم قرب فترة حكمهم هم الأكثر تاثيرا في واقعنا من حيث الجرائم وصناعة الازمات. ولكن لكى نفهم كيف حكم الكيزان السودان ولماذا حكموه, يجب ان نعود الى المقال السابق الذى ثبت سيطرة الفئات الاجتماعية القائدة من البيوتات الطائفية والقبلية على السلطة والثروة والدولة منذ الاستقلال. ومع توسع الدولة التي سيطرت عليها هذه القوى في التعليم ما بعد الاستقلال, اصبح هناك جيل من المتعلمين من الاسر الفقيرة وتحت المتوسطة التي كانت تتبع او توالى تلك القيادات القبلية والطائفية. كما ان الحواريين والاتباع للحركات الطائفية والدينية اصبح بعضهم يحمل شهادات قد تؤهله للخروج من قيود التبعية المالية والسيطرة الاجتماعية والاقتصادية لتلك القيادات التقليدية. ونسبة لعدم وجود بنية دولة حديثة مدنية مستقلة, وعدم وجود مشاريع فكرية او كيانات حزبية او مؤسسات مجتمع مدنى تقدمية وحديثة, ما عدا الحزب الشيوعى المحدود اجتماعيا وفكريا لاسباب عديدة, فان الخلفية الدينية والصوفية لكثير من أبناء الاتباع والحواريين والموالين للقيادات التقليدية وجدوا في مشروع الاخوان المسلمين الذى قاده الترابى في مطلع الستينات وسيلة لتوسيع قاعدة المشاركة السياسية والضغط الاجتماعى من اسفل الى اعلى في داخل سياقات السيطرة التاريخية للقيادات والبيوتات التقليدية الطائفية والقبلية. ولذلك فان مشروع الاخوان المسلمين في السودان كان مشروعا هادفا للثورة على القيادات التقليدية بطرح مشروع دولة إسلامية حديثة. حيث تكمن حداثتها في قدرتها على فتح مسارات المشاركة في الوصول الى السلطة والموارد خارج اطار البيوتات التقليدية المسيطرة. حيث اصبح أبناء الحوار, والانصار, العمال الفقراء في أراضي القادة التقليديين, والمجموعات المضطهدة المتعايشة تحت غطاء حماية تلك القيادات, اصبح هؤلاء الأبناء أخيرا قادرين على تنظيم انفسهم والقتال من اجل مكانة خاصة بهم. وكان الإسلام هو الماعون الأكثر اتساعا القادر على جمعهم في كيان “ما فوق قبلى” و “مافوق طائفى” الى حد كبير. لذلك كان مشروع اسلمة الدولة هو طريق لتوسيع قاعدة المشاركة في اطار المجتمعات التقليدية التي سيطرت عليها قيادات طائفية وقبلية لعقود طويلة وبمساعدة الحكم الغير مباشر للاستعمار. ولكن ماعون الدولة الإسلامية للكيزان كان مرحلة جديدة في صناعة الازمة السودانية ولم يكن جزءا من الحل او الإصلاح لهيكل الدولة المعطوب الذى تحدثنا عنه في المقال السابق. حيث ان مشروع الاسلمة قد وسع دائرة المشاركة السياسية والاجتماعية بين المجتمعات التقليدية المسلمة , ولكنه في ذات الوقت استبعد تماما المجموعات الغير مسلمة. ولذلك كان انفصال الجنوب الغير مسلم هو ثمن دفعه الكيزان بطيب خاطر من اجل تكوين دولتهم الإسلامية المتوهمة.
ولذلك في اطار التحليل للتركيبة الاجتماعية والاقتصادية في السودان, فان الكيزان استطاعوا صناعة خرق في تركيبة السلطة التقليدية في السودان وهيمنة الاسر الطائفية والقبلية, حيث صعد الكادحين من ذات المكونات الاجتماعية لهؤلاء القادة التقليديين الى السلطة عبر نظام الاخوان المسلمين. فما كان يسعى له الاخوان المسلمين هو صناعة الية تصنيف جديدة للمواطن السودانى مبنية على الانتماء الدينى للاسلام وبدرجة اعلى الانتماء للجماعة كجواز عبور لكى يحظى المواطن العادى ” المسلم” بفرص السيطرة والتمكين والترقى الاقتصادى. وبذلك كان ماعون الكوزنة أوسع من ماعون البيوتات القبلية والطائفية التي كان الانتماء لها لا يتم الا بالدم والوراثة والتزاوج. ولذلك كان معظم السودانيين وكثير من الكيزان خارج دائرة التصنيف هذه. ولذلك يجب الملاحظة الى ان كثير من قيادات الكيزان, واولهم الترابى نفسه تزوجوا من الاسر الارستقراطية التقليدية, وكان لهذا التزاوج دور مهم في فتح أبواب السلطة لبعضهم للدخول لدائرة القلة الحاكمة .
ويجدر الإشارة الى ان نظام الاخوان في السودان لا يجب التأريخ له من انقلاب الإنقاذ في 1989, فان الحقيقة ان زحف الاخوان المسلمين نحو السلطة بدا ما قبل ثورة 1964, ولكنهم نجحوا في التمكن منذ ما بعد المصالحة في عهد نميرى منتصف السبعينات. حيث ساعدتهم طفرة النفط في الخليج والحرب في أفغانستان وتقوية العلاقة مع أمريكا على تثبيت اقدامهم اقتصاديا وخلق موارد تمويلهم المستقلة عن هيكلة القوى الاقتصادية الاجتماعية التقليدية المهيمنة في السودان تاريخيا. ولذلك لم تكن الفترة الانتقالية بعد سقوط نميرى سوى فترة انتقالية للكيزان انفسهم لتثبيت فشل اخر حاكم وريث للبيوت التقليدية الطائفية وانهاء طموحات هذه الفئات في السيطرة الأحادية على حكم السودان.
عبر إزاحة حكومة الصادق المهدى بانقلاب الإنقاذ, اعلن الكيزان سيطرتهم على الجيش أيضا وليس فقط على الاقتصاد. وفى خطوات عنيفة واشبه ما تكون بالانتقامية كان عصر الكيزان الأول اشبه بعملية تفكيك التمكين التي يطمح البعض الى تنفذها ضدهم الان بعد سقوطهم. فقد فكك الكيزان بشكل كبير سيطرة القوى الاجتماعية التقليدية على مفاتيح الاقتصاد والجيش والدولة. وتمت عملية تمكين جديد لعناصر الحركة الإسلامية التي كانت تحاول في بدايتها التعالى على الفروقات الاجتماعية والقبلية والاثنية, ولكن مع توسع المشكلات المتعلقة بالدولة العميقة والمخاوف الكبيرة من المنافسة الداخلية. قاد الكيزان الحرب في دارفور من اجل التخلص من المنافسين على السلطة من أبناء الإقليم واخوان الامس, مثل خليل إبراهيم, فقد خشى الكيزان من إقليم دارفور وابناءه المتفقهين في الدين من الهيمنة على السلطة تحت غطاء الاخوة الإسلامية. حيث ان المهيمنين على السلطة من مناطق القيادات الطائفية والقبلية التقليدية السابقة لم يرغبوا في احداث تغييرات هيكلية تقلل من هيمنة أبناء مناطقهم او مشاركة مكاسب السلطة مع أبناء الأقاليم خارج دوائر السيطرة التاريخية جغرافيا. فقد استمرت دولة الكيزان في ذات ممارسات السيطرة على الدولة من اجل المصالح الخاصة وليس من اجل مصلحة المواطن, ومع تغير وجوه واسر وبيوتات الحكام, لم تتغير المصالح ولا الشهوة للمال ولا استغلال الدولة لتحقيق المكاسب الاقتصادية وتجاهل بناء دولة تخجم المواطن. ولذلك فان المنافسة على موارد الدولة المحدودة جعل القادة من الكيزان اكثر جشعا وطمعا من سابقيهم و كما انهم اكثر عددا, بسبب توسع دوائر المشاركة, فلم يعد الحكم في يد بيوتات قليلة ومحددة. ولذلك فان تقسيم كيكة نهب موارد الدولة الصغيرة جعل الاقتتال عليها عنيفا والفساد أوسع مدفوعا بمشاعر حرمان مكبوتة للحكام الجدد. ولذلك كان لابد من حصر الموارد الموجودة والمحدودة في الاخوان المسلمين, ثم اصبح انه يحب تلك الموارد في اطار الأقارب والاهل والمجموعات التي رزحت سابقا تحت استغلال قياداتها القبلية والطائفية.
وهنا أصبحت الاثنية والانتماء الاقليمى عاملا في لعبة السلطة بشكل اكثر وضوحا من اى وقت مضى في تاريخ السودان. فالحرب في دارفور لم يكن دافعها التحرير ولا الجهاد من اجل الإسلام , بل من المستحيل ان يكون هذادافعها, ولذلك كان دافعها هو ابعاد أبناء الإقليم من السلطة التي اقتربوا منها جدا بمساندة الترابى في العشر سنوات الأولى من الإنقاذ. ولذلك كان الكتاب الأسود هو مانفستو تمرد صدر من داخل قوى اقرب الى الحركة الإسلامية من اى توجهات سياسية او اجتماعية أخرى في الإقليم نفسه. ولذلك كانت مفاصلة الترابى في مطلع الالفينات, هي بداية شرارة مفاصلة تاريخية جديدة في السودان. حيث فشل الكيزان في امتحان توحيد السودانيين تحت لواء الإسلام نفسه, ناهيك عن توحيد السودانيين في اطار يتجاوز الأديان والاثنيات الثقافات. ولذلك كانت الإبادة والعنف الاثنى هو الممارسة التي لجا لها الكيزان للتاكد من التخلص من منافسيهم المحتملين. ولذلك فان السودان مابعد الكيزان ابرز وجهه الأكثر قبحا على الاطلاق, كدولة وكقيادة ومجتمع. ويجب ان نعترف بانتماء الكيزان لهذه الدولة المعطوبة هيكليا, وانهم بطريقة ما هم أيضا احد ضحاياها الذين تحولوا الى جلادين اشد قسوة ممن قاموا بازاحتهم من قيادات تقليدية. قبل ان نكره الكيزان, يجب ان نتعلم الدرس الأهم من تجربتهم, وهى ان اى عمليات اصلاح سطحية ومبنية على توسيع دوائر المشاركة السياسية فقط ودون تفكيك هيكلة الدولة المبنية على مصالح القلة, فان الدولة السودانية لن يتم إصلاحها ابدا. وتعلم هذا الدرس هو اللبنة الأولى في عملية بناء الية حكم صالحة لبناء دولة المواطنة. لكى لا يدفع الشباب ثمن فشل مشاريع الحكم السابقة وأيضا فشل محاولات اصلاح تلك المشاريع. وهؤلاء الشباب المستعدين للموت من اجل مستقبل أفضل سواء عبر التظاهر بتفاني في الشوارع لأربع سنوات متواصلة، او من خلال القتال في مناطق النزاعات او عبر المخاطرة بالأرواح والقفز الى بحار المجهول بحثا عن ضفاف اكثر حنوا وكرامة من ارض الوطن, هذه الأجيال هي التي تريد التغيير الحقيقى المستدام. و يظل الدافع واحد لكل هؤلاء الشباب, وهو البحث عن الكرامة والحرية والمستقبل الامن سواء فوق ارض الوطن او بين حضن ترابها شهداء او حتى كأغراب او مشروع مواطنين محتملين في بلدان أخرى.
[email protected]