السودان ما بين التعليم العام والتعليم الديني وصراع الصوفية والفقه السني
✍🏿: كمال ضيفان بابكر
يقول المؤرخ محمد سعيد القدال : ظهرت المدرسة التاريخية السودانية مع بروز الحركة الوطنية ، وإتجهت في بداياتها الأولي نحو تجميع التراث حتي يساعد علي شحذ الشعور القومي ولكنها ظلت إجتهادات شخصية ومبادرات متفرقة، تستلهم مٱثر المهدي حينا، وتخوض في الماضي التليد حينا اخر، وتشرئب نحو دراسات التراث الإسلامي والوافدة من مصر. وكانت الثقافة العربية والإسلامية واحدة من معطيات تكوين المؤرخين السودانيين والمدرسة التاريخية، وكما كان للوثيقة العربية حضوراً باكرا في تاريخ السودان ،وترجع تاريخ الوثيقة العربية في السودان إلي قيام سلطنة الفونج وقيام سلطنة الفور، وذلك أن الوثيقة صارت بفضل هاتين السلطنتين أداة من أدوات الحكم والإدارة.
التشريع الإسلامي وغيره من الشرائع الأخري قابلة للتطور وذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع في مستوي كمالاته، وإنما شرع في مستوي نقائصنا بتدريجنا إلي كمالاته ، والتشريع الحكيم هو الذي يلبي حاجة المجتمع في الزمان والمكان المعنيين. وأن الدين قد كمل تنزيله ولم يكمل تبيينه والدين في حد ذاته لا يتطور وإنما التطوير في فهم الدين.
ويقول العالم مهاتير محمد: أن سبب إعاقه تقدم المسلمين في العالم وفي ماليزيا خاصه هو ذلك الحاجز قامت ببنائه الدوائر الدينية والعلماء بينهم وبين المعرفه والتي يعتبرونها لاعلاقة لها بالإسلام قط، بل تركوا كسب المعرفة في مجالات أخري لأنها لا تسهم في نظرهم في حياة الآخرة وهي من المشكلات الأساسية وأسباب التخلف والفقر في العالم الإسلامي.
قلب التعليم في السودان إلي تعليم ديني فقط
التعليم في عهد المماليك النوبية القديمة قبل الميلاد وبعد الميلاد كان مزدهر ومتطور وفي جميع نواحي الحياة العلوم ، الهندسة والعمران ،الزراعة، الصناعة….. وغيرها من العلوم المرتبطة بحياة وأمور الناس والحضارة النوبية إنموزجا ناجحا تم تبنيه في مستوي العالم إلي هنا إنتهي الإبداع والابتكار.
مملكة الفونج وعاصمتها سنار حيث تم تطبيق مفاهيم الشريعة تطبيقا حرفياً وسياسة العنف والغلبة هي السائدة وعبيد وأسياد وجلاد وجلادين وجمع الجبايات وغياب العلوم العامة عن هذه المملكة والإنحراف في تطبيق شرع الله وقد تبع سقوط مملكة الفونج ١٥٠٤-١٨٢١
العهد التركي المصري ١٨٢١-١٨٨٥ دخول المؤسسة الفقهية الرسمية واللغة العربية الفصحى والشريعة والنظم الأزهرية، ونقول إن التعليم في دولة الفونج والفور والعهد التركي المصري كان تعليما دينيا فقط محوره اللغة العربية والعلوم الشرعية ومؤسساته الكتاب والخلوة والمسجد والمسيد ومجالس العلماء والأزهر، ولأن التعليم إرتبط بالصوفية كانت الخلوة هي المكان الوحيد الذي يتم فيه التعليم،وترجع الخلوة في نشأتها إلي أواسط القرن الرابع عشر الميلادي عندما قدم غلام الله اليمني إلي دنقلا. والخلوة هي مؤسسة تعليمية كبري إلي جانب المسجد والمسيد في السودان وهي المكان الذي يؤدي فيه وظائف التعليم الديني عكس البلاد الٱخري حيث الإعتزال عن الناس بقصد الوصول إلى الحقيقة وتعني التقرب إلى الله وتأمل في ذاته.
وحاول الأتراك عمل نقله من التعليم الديني إلي التعليم العام فأنشأوا مدارس في الخرطوم، بربر، دنقلا، كردفان، كسلا، سواكن وسنار لكن التدريس كان لأبناء الأتراك والمصريين العاملين بالجيش والإدارة ومازال السودانيون تعليمهم ديني وفي الخلاوي.
وفي عهد الدولة المهدية زادت أهمية الخلاوي وأصبحت مصدراً رئيسياً لتعليم الصغار والكبار القران الكريم والحديث وادخلوا راتب المهدي في الأحياء وهناك مساجد مشهوره كانت تشد إليها الرحال منها مسجد المجاذيب بالدامر، مسجد الكتياب، ومسجد العمراب، مسجد أرباب العقائد في الخرطوم ومسجد الشيخ خوجلي ومسجد الشيخ إدريس بن الأرباب وغيرها.
أزهر السودان وتغذية الخيال الجمعي بالفكر الوافد وتجفيف النكهه المحليه:
بدأ الحكم الثنائي البريطاني-المصري عام ١٨٩٨ ومنذ الوهلة الأولى عمل البريطانيون بعد تجربتهم مع الثورة المهدية علي تقوية الفقه السني علي حساب التصوف وسعوا إلى تقليص نفوذ الطرق الصوفية فعززوا دور الفقهاء والعلماء علي حساب المتصوفة.
فإلي جانب إنهم أنشأوا المدارس والكليات والمعاهد التعليمية الحديثة مثال كليه تدريب المعلمين والقضاة بأمدرمان في عام ١٩٠٠ ومدرسة الصناعة بأمدرمان، وإفتتحوا كلية غردون التذكارية عام ١٩٠٢ والمدرسة الحربية (مدرسة الخرطوم الحربية) عام ١٩٠٥ وإفتتحوا مدرسة كتشر الطبية عام ١٩٢٤ ،إلي جانب هذه المؤسسات فإنهم هيأوا المناخ لتمدد الفقه علي حساب التصوف، فقد أنشأ الحاكم العام في عام ١٩٠١ مجلس العلماء ويسمى (هيئة العلماء – لجنة العلماء) ونواة للمعهد العلمي بأمدرمان لينظم التدريس في الجامع الكبير بأمدرمان.
الشاهد أن فكرة تشكيل لجنة العلماء لا يمكن أن تفهم بمعزل عن المقاومة التي وجدها البريطانيون من الثورة المهدية ولا يمكن أن تفهم بمعزل عن التقييم البريطاني للتصوف والطرق الصوفية بجانب الهدف المباشر لتأهيل عدد من العلماء السودانيين وزيادة فرص التعليم الديني.
وأيضا إنشاء المعهد كان لإيجاد البديل في السودان للأزهر الشريف يتوجه إليه السودانين بدلاً من السفر إلى مصر ، ولكن الهدف الخفي من إنشاء مجلس العلماء هو الإمعان في تقليص نفوذ قادة الطرق الصوفية وتقوية جانب المدرسة الفقهية المنافسة من خلال تركيز فكر سني معارض للصوفية وداعم لمركز علماء الفقه والسنة كغطاء ديني للسلطة البريطانية.
الشاهد أن تمدد المؤسسة الفقهية في السودان بدء يتصالح مع السلطة البريطانية وظل الفقهاء يجتمعون مع السلطان ،عملت السلطة البريطانية علي تزكية الصراع الخفي بين الطوائف والطرق الصوفية واظهرت الإحترام لأقطابها بل جذبوهم لحضور الحفلات الرسمية، وفي هذه الفترة وقبلها في عهد المهدية وعهد التركي المصري والدولة الفونجية حصل ( إخفاض للعقل السوداني).
ونقول لو كان الدين في مكانه الطبيعي والمقدس ولم يحصل له إستغلال وإدخاله في الحياة السياسية وفرضه كبديل للتعليم العام وإختيار منهج أو طريق ديني كما حصل أن تم أختيار الصوفية كمنهج وبرنامج في العهود المهدية، الفونجية، التركية – المصرية وتم تبديله بمنهج آخر في العهد البريطاني هو المنهج أو الفقه السني، وإعتباره هو الدين والمنهج والثقافة الرسمية للدولة.
ويظهر فرض التشريع الإسلامي على كل السودانين بغض النظر عن خلفياتهم الأيديولوجية أو الدينية أو العقائدية عندما تم تعيين الطيب هاشم مفتي على السودان والسودانين، وأيضا ابو القاسم أحمد هاشم شيخ علماء السودان بإعتباره عالم ورئيس علماء كل السودانيين وليس للمسلمين أو أو مسلمين السنين فحسب.