الكريسماس وإنتزاع حق الإعتراف والمساواة
أحمد الفاضل هلال
يحتفل الأشقاء من شركاء الوطن من كل الطوائف المسيحية، من الأقباط والكاثوليك… الخ في قادم الأيام بميلاد السيد المسيح: قدس الله سره، وفي هذه المناسبة الدينية المقدسة للإخوة المسيحيين نزف أجمل التهاني والتبريكات والدعوات على أن تسود قيم المحبة والسلام، وفلتكن الاحتفالات فرصة لعصافير البهجة أن تغرد بتهاليل وترانيم الحب والاحتفاء بالآخر واحترام الاختلاف.
ولقد كانت احتفالات الكريسماس تجري بشكل عادي وشعبي سلس، دون أي اعتبار لرمزيته المعلنة، حيث يتقاسم الجميع من المسيحيين والمسلمين الأفراح والأشواق وتبادل الزيارات والهدايا.
إلا انه وبعد سطو الجماعات الإسلامية على السلطة، بدأت هذه الجماعات الظلامية والماضوية في استعارة واختلاس بعض المفاهيم التحريضية والاستفزازية ضد شركاء الوطن في إطار تجزئة الهوية، وبدأ الحديث عن عدم ومولاة الكفار وتحريم التواصل والأكل معه وإلصاق تهمة الوثنية بمعتقداته، أو عدم التشبه بالكفار، وكل هذا الإسفاف من اللغو يستخدم كمادة دعائية لتحجيم الآخر في الحيز العام وقمع أي حيوية اجتماعية أو فعل جماعي أو فردي قد يتعارض مع الأيديولوجية السائدة، والتي تعمل على إعلاء مفهوم الأغلبية كبنية سياسية وفكرية لقمع مكونات (الأقليات) ولا توجد في الواقع، أغلبية بهذا التجريد إلا بتشوية أقلية ونسب كل ما يسئ من سلوكيات إليها زورًا وتلفيقًا للإقصاء من الفعل في الفضاء العام. إنه صراع الهيمنة على الحيز العام من خلال ادعاء الصوابية وتحرير المجتمع وتطهيره من الحساسيات بالتضييق والمحاصرة بالاتهامات التي لا تنتهي.
وفي هذا السياق.. يجب الاعتراف بأن الدين عمومًا، هو عامل قيمي وثقافي ولا يحتاج إلى دولة لكي ترعاه وتحميه وأن أي ديانة أو نظرية اجتماعية تحتاج فقط لمساحات ومجالات لحرية التعبير وحق الاعتقاد والإيمان الحر، بعيدًا عن تدخلات السلطة التقويمية والوصايا والأبوية. إن الدولة في الواقع ليست أكثر من مجموعة الأجهزة السياسية والقانونية والإدارية والمؤسسات والمنظمات التابعة للمجتمع، فالدولة ليست لها دين معين، فهي هذه الأجهزة التي لا تملك ضميرًا شخصيًا وأنها كجهاز قومي يحتم عليها موقعها واحتكارها لأدوات العنف أن تتخذ مسافة واحدة ومتساوية من كل المكونات، وفي هذا، عليها واجب ان توفر للمواطنين والمؤمنين وأصحاب الضمائر كل الحرية في ممارسة معتقداتهم وحق الاختيار دون الإلغاء، وإدراك أن العلمانية هي مجرد وصفة سياسية وقانونية وليست خيارًا أو مبدأ إقصائي قائم علي هوس شعبوي.
ومن المهم أن يدرك أيضًا كل من المسلمين والمسيحيين وكريمي المعتقدات بأن الصراع في هذا الوطن لا يدور حول الكفر والإيمان أو الشريعة والعلمانية، إنه صراع يدور في الواقع حول بناء أسس صلبة للدولة، إنه صراع حول القضايا المركزية، مثل مفهوم الدولة ونوعيتها وإعادة هيكلتها، حول قضايا التغيير وأكثر الطرق جذرية للوصول إلى دولة العدالة الاجتماعية، حول مساواة المرأة، والمساواة أمام القانون والمواطنة وحكم المؤسسات والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة.
إن كل الدساتير المؤقتة والانتقائية والتي هبطت ليلًا، قد حملت جملًا عديدة من التناقضات، فهي تناقض نفسها عندما تضع كلمة المساواة في متونها، وهي في نفس الوقت تصر علي جعل الدين مصدرًا أساسيًا للتشريع وهذا تناقض صريح مع مدنية الدولة، التي يجب أن تكون محايدة ولا تملك ضميرا خاصا.
وإذا كنا نتحدث عن وطن يسع الجميع بالتساوي، فإن هناك قضايا تضع الجميع أمام تحديات في الموقف من هذا الشعار، ولا يمكن أن يكون هناك وطن عندما تتجاهل وتلوز بالصمت في الدفاع عن القضايا المركزية وهذا يتطلب منا جميعًا اتخاذ مواقف صلبة أمام اللامبالاة والانتهاكات الجسيمة للحقوق. إن الأيمان يخص الفرد المعني، ولكن ما فائدة الإيمان إذا كان إيمانك لا يوقفك لرؤية الواقع المخزي ولا يدفعك للدفاع عن القيم الإنسانية في العدالة والمساواة والسلام والتضامن. إن كل الحجج اليوم محكها وعقلانيتها تكمن في إمكانية ومدى تحولها وتحويلها إلى لغة عمل مشتركة ونضال ضد الظلم والفقر والاضطهاد والتفاوتات الاجتماعية ونهب ثروات البلاد وإغماض العين عن الفساد الذي هو فرع أصيل لتراكم الثروة بالاحتيال. إن وساوس الليالي القلقة على الغد وضغط الحضارة والمعاصرة، تصنع حمولة ثقيلة على جماعات الدينية التي تستخدم المزايدة والمراوغة في الهروب من أسئلة الحاضر. لا مجال لهم أو حتى لغيرهم، ما لم يصبحوا أحد دوافع الحريات الاجتماعية والفردية والاعتراف بمتغيرات العصر. وفي الواقع، لا يستطيع أيًا كان سلخ هويتهم الدينية والشخصية، بل يجب عليهم ترك الإسقاط الذي لا يتطابق مع الأصل الديني وترك تبخيس معتقدات الآخرين.
في ذكرى الإحتفال بالكريسماس، نتمنى أن تمتد ظلال شجرة العيد لتغطي الوطن الجريح، بالمحبة والمساواة والعدالة والسلام. فالحياة في حد ذاتها ليس لها معنى ولكن البشر هم الذين يعطونها المعنى والاختلاف والإضافات الجمالية.
نأمل أن تتيح هذه المناسبة فرصة لتهوية غرف القلب ونفض غبار الأحاسيس لإعطاء فرصة لضياء القلب لرؤية بعض الآخرين الذين غدرت بهم التحالفات الخائبة. وأن يغشى بابا نويل في هذه المرة وهو محملًا بالهدايا النساء والأطفال والمسنين في معسكرات النزوح واللجوء الذين طال بقاءهم القسري. فالفرح لا دين له ولم يتحول بعد إلى سلعة في السوق الرأسمالية. إن الحياة لا تتوقف، وانكسار موجة واحدة لا يعني هزيمة المد وأن الجذر حالة من تكتيكات الحياة، وهكذا الحياة سلسلة من المعارك بمرارات الهزائم وشذرات الانتصارات.
كل عام والمواطنون المسيحيون سكر زيادة لهذا الوطن المتنوع وقوة دفع للتغيير الجذري وثورة ديسمبر المجيدة وعيد سعيد عليكم ومائدة مليئة بالديك الرومي والأسماك وبالرضي.
وكما تغنى المتغرد الخالد والمبدع مصطفى سيد أحمد:
غايتو أمشى في الدرب؛؛
البطابق فيهو خطوك صوت حوافرك.