عنصرية المركز الإسلاموعروبي ومخاطر تفكيك الدولة السودانية (٣)

✍🏻 عيسى مرفعين

 

عقلية الإنفصالين الشماليين وفشلها فى إدارة التنوع وقراءة الماضي.

فى المقاليين السابقين تناولنا مخاطر الإستهداف الممنهج على أساس العرق، الدين والجهة ومن ثم التأثيرات النفسية والإجتماعية التى تلحق بالضحايا.

كما وعدناكم فى هذا المقال أن نتناول عقلية الإنفصالين الشماليين التى صنعت و لا زالت تصنع حالة من إنعدام الثقة بين السودانيين و تفشى العنصرية وإنقسام الوجدان الوطني.
لان العقلية الإنفصالية والعنصرية فى الشمال كانت وستبقى مشغولة ببقائها، حتى لو تحوصلت لحين من الزمن سرعان ما تتكاثر و تنتشر فى جسد السودان المتهالك اصلا حتى تفتك به مجددا، هذه العقلية التى دوما ما تمجيد ذاتها، وإدعاء جدارتها وإنتصارها على الآخرين سوي كان بالخداع أو إعادة انتاجهم فى حقلها الثقافى، أو إقصائه تماما كما حدث بفصل الجنوب،
هذه العقلية أعجزت أن تقرأ من كتاب الديمقراطية أو إدارة التنوع أو حتى بحرية الآخر، وأجبن من قبول المنافسة الشريفة أو على قاعدة العمل والإنجاز، بل دائما يسعون على نظرية المؤامرة.

هذه العقلية لها خاصيتان: الأولى أنها ترفض فكرة التنوع و الإختلاف الثقافى، الديني والسياسي، والثانية أنها تميل إلى ممارسة الوصاية على الجميع، معتقدة عدم قدرتهم على تشخيص مشاكلهم واتخاذ قرارهم بأنفسهم. هذه هي المنطلقات التي إرتكزت عليها الشمولية التي حكمت السودان منذ عام 1956، و فصلت كل سياستها و خطابها على هذا النهج.

وركزت ذات العقلية على إقصاء الآخر و ابعاده. وبهذا التوجه الاقصائى أدخل السودان في أطول حرب فى القارة الأفريقية دفع السودانيين ثمنها غاليا، وأدت إلى تدمير الاقتصاد والبنية التحتية، وتفكيك المجتمع، فصلت اجزاء عزيزة من البلاد، و ارتكبت جرائم إرتقت لجرائم الحرب و جرائم ضد الانسانية، حتى تحول فيها حاكم البلد وزمرته لمجرمي حرب مطالبين دوليا، هذه العقلية العنصريه جعلت من المناصب السيادية و الدستورية رمز للشرف والكرامة لصالح حقل ثقافى محدد و لا يجوز لأي شخص من الهامش شغل منصبا سياديا إلا يكون مؤمنا بهذا التوجه و حتى التعددية الحزبية شريطة أن يكون الحزب المرخص مؤمنا بقداسة المشروع الإسلامي عروبي لذلك كان يوجد فريقين من الأحزاب السياسية في السودان أحزاب التوالي و أحزاب المعارضة إلى أن سقط نظام الجبهة الاسلامية.

الآن النظام العنصري و الحكم الشمولي يعيد إنتاج نفسه، بعد ثورة ديسمبر المنهوبة بإطلاق شعارات ومصطلحات رنانة بغرض استقطاب الشارع و احتواء الثورة عبر ارسال الاكاذيب الفارغة و تسويقها، وإجبار الشعب على أن يعيشوا في عالم وهمي مزيف حتى يعلنوا قبولهم و إيمانهم به، فى محاولة لتغبيش الوعي و مسح زاكرة الشعب السُّوداني و فصل الماضي الأليم من فشل عقلية الأنظمة الاستبدادية، حتى يأتى البعض ويقول نتجاوز مرارة الماضي لانه أصبح ماضيا ولا بد من الحديث عن الحاضر فقط!!، لان أصحاب هذا المنطق يخشون من تفكيك الماضي وفضح زيفه لأنهم يريدون أن ينتجوا حاضرا مشابها له. وهذا لا يقل خطرا من العقلية السابقة التى ما زالت قائمة بين رواد ذات المدرسة التي تخرج فيها الاسلاميين وبقية الأحزاب الطائفية رجعية المتخلفة عن الراهن وبعض أحزاب القومية العربية التقليدية من ناصريين، بعثيين، وفى الخ.

الان نشهد اتحاد جديد بدأ يتشكل فى نسخته الجديدة الذي تسيطر عليه شلة من الحرس القديم (دعاة الايدلوجيا الاسلاموعروبية) ما بين قحت المجلس المركزي و اللجنة الأمنية. ببساطة يقرر هؤلاء فى نسختهم الجديدة مستقبل السودان على الرغم أنف السودانيين، يقررون ماهي الاجسام الثورية وما هي الثورة المضادة، وما هو الموقف الصحيح من الخاطئ؟ و سوف تتشبث مجموعة الجبهة الثورية و جماعة اعتصام القصر بطلب الانضمام للإعلان السياسي، على الرغم من أنها لا تزيد الإعلان أو تنقصه بشيئا لأنها هى الاخري انتحرت سياسيا بدعمها للانقلاب 25 أكتوبر.

وعلى نفس النسق القديم يتمخض عن هذه التوليفة دستور انتقالي معيب من المدرسة ذاتها، الخلطة القديمة من الأفكار الوصائية والشمولية، و أن يقوم رئيس الوزراء المعين أو قحت بتعين نصف أعضاء البرلمان، بتنسق مع العسكر وتملى شروطها بأن هناك محرمات يجب عن لا تناقش داخل البرلمان مثل هوية الدولة، و علاقة الدين بالدولة وغيرهما من أفكار الخمسينات و السبعينات.

على الرغم من كل التجارب المرة التي عشناها بسبب إصرار هذه العقلية على إنكار الاختلاف والتنوع الثقافى والديني، وفرض الوصاية على إرادة الشعوب، انفصل جنوب السودان و الان شعوب النوبة و الفونج أصبحوا يعتقدون أكثر من اي وقت مضى عدم جدوي تغير هذه العقلية وأصبح تقرير المصير الخيار الافضل لهذه الشعوب.

الحركة الشعبية كتتظيم سياسي اجتهدت كثيرا فى تشخيص الأزمة و وضع كل الحلول لمعالجة الأخطاء الاستراتيجية التى وقعت منذ عام 1956، وقدمت مشروع سياسي كبير يعالج كل هذه التشوهات التاريخية يؤسس لسودان جديد يلغى كل الامتيازات الطبقية ويبنى دولة علمانية ديمقراطية قوية رائدة قابلة التطور من اول و جديد بعد ما تم إلغاء مفهوم الدولة بواسطة النخب السياسية التي تعاقبت على حكم السودان وحولت الدولة إلى مؤسسة عشائرية وعائلية لفئة محددة تخدم الدولة هذه الفئة إلى يوما هذا.

إن كوارث العنصرية والعقلية الشمولية بحاجة إلى مزيد من الدراسة، المراجعة و النقد بكل جرأة وعدم التردد بحجة أنه ماضي وقد انطوى، فإصرارنا على هذا الموقف السلبي من الماضي سيؤدي بنا إلى إعادة إنتاجه بصور مختلفة، لان عقلية الانفصالين الشماليين نابعة من الفكر الشمولي لا يقدم سوى الاستبداد، و الاستبداد يوطن للشمولية ويلغى الآخر و الآخر يرفض و يقاوم لإثبات ذاته، وبذلك سيظل السودان مقعد و يدور فى فلك الحروب و الصراعات المدمرة.

ورغم ذلك هناك بصيص امل لدي بعض الساسة والمتفائلين من هنا و هناك يعتقدون بان شمس السودان الغائبة ستشرق من جديد لكي تضيء لنا ظلمة الليالي السودان الحالكة، لكن هذا لن يحدث بالصدفة كما يعتقد البعض هذا يحتاج لفعل وارادة سياسية حقيقية ليس بشعارات مناهضةٍ للانفصال و داعية الحفاظ على وحدة تراب السودان بدون مخاطبة جذور الأزمة و معالجة الأوضاع و الخلل الهيكلي فى بنية الدولة السودانية.

نري بان الكرة الان فى ملعب الانفصالين الشماليين و الأيام كفيلة لكشف ذالك هل سيتوصلون إلى تسوية سياسية شاملة مع الحركة الشعبية و تفضي إلى سلام واستقرار دائم مستمر فى الدولة السودانية ام تدفع شعوب الأقاليم لاستعمال آلية الاستفتاء الشعبي داخل مناطق المحررة و سوف يتجه السواد الأعظم من ابناء هذه الشعوب داخل مناطق خارج السودان نحو تأييد الانفصال ومباركته.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.