ردا على حساسية وإنزعاج النخب من مفردة الجلابة وتقرير المصير

أنس آدم

إلى: أ. د عامر عباس حمد – وزارة التعليم العالي والبحث العلمي – سابقا

في البدء أرجو أن تتقبل سلامي وتحياتي لك. كما يسعدني أن أفيدك بأنني تلقيت الرسالة التي أرسلتها لى وإلى قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، ممثلة في القائد عبد العزيز آدم الحلو.

وفي هذه السانحة لابد من تقديم صوت شكر وإشادة مستحقة للشجاعة الادبيه التي تحليت بها والصراحة التى إتسمت بها وجهة نظرك حول مقالي الموسوم بعنوان (دولة الجلابة والتهرب من سؤال الهوية). بالطبع ، إطلعتُ باهتمام بالغ على ما ورد فى رسالتك . ذلك لأن الرأي الآخر والمختلف يهمني دائما وأبدا، ولأننا لا ندعي إمتلاك الحقيقة المطلقة ، فآراء ومواقف أصدقاء الحركة الشعبية وقوى التغيبر حول القضايا التي نطرحها محل إهتمام كبير عندنا . لإن قيمة الأقلام والكتابة حول قضية محددة تكمن في جذب ردود الأفعال و تبادل وجهات النظر المختلفه التي تبدر من القراء والمتابعين والمهتمين ، لا في التأييد الأعمى أو الصمت من جانب المعارضين. فلك مني خالص الود والتقدير عل ابداء الرأى و التنبيه .

فمن خلال إطلاعي على الرسالة أدركت أن لديك حساسية مفرطة حول مصطلح “الجلابة ” الذي ورد في أكثر من فقرة في مقالي ، بدءا من العنوان (دولة الجلابة والتهرب من مواجهة سؤال الهوية). فليس أنت فقط من أبدى رأيه المختلف تجاه المصطلح، فهنالك قراء كثر ومهتمين إستنكروا وطلبوا تقديم إضاءات حول مصطلح (الجلابة). لكن ما أعيبه فى وجهة نظرك هو وصفك للمصطلح ب “العنصري”. فقد ورد في رسالتك الآتي: (إن إختزال كل الأزمة في الجلابة وسيطرتهم تحليل خاطئ وزائف ومضلل، وفوق ذلك عنصري ويعيد إنتاج ذات الأزمة التي ناضل من أجلها الدكتور جون قرنق).

عزيزي أ. د . عامر دعني وفي عجالة أن أقدم بعض الإضاءات التى أرى أنها غاية في الأهمية حول مصطلح الجلابة لعكس فهمنا له كعامل فى توصيف الحركة الشعبية للأزمة السودانية على نحو سليم وصحيح. خاصة وأن تحليل الحركة الشعبية للازمه يرتكز على حقائق الواقع. إن مصطلح “جلابة” الوارد فى ادبيات الحركة الشعبية، و فى المنفستو الذي يعتبر المرجعية فى تشريح وتشخيص المشكلة السودانية لا يعني ما تقصده أو تفهمه أنت بإعتباره مصطلح يعنى العرب.

فالجلابة بحسب منفستو الحركة الشعبية هم مجموعة إجتماعية من “أفروعرب” نشأت وتطورت منذ القرن الخامس عشر، وهم عناصر من التجار الأجانب والتجار المحليين بما في ذلك تُجار العبيد، والذين أسسوا أنفسهم في مراكز تجارية أصبحت لاحقا مراكز وبلدات حضرية مهمة مثل: الدويم وأم درمان وسنار.. إلخ. والجلابة في حقيقتهم خليط من جنسيات – وقوميات أفريقة محلية، العرب المهاجرين، الأتراك، الأغاريق … الخ، الذين تفاعلوا وتزاوجوا في عملية تاريخية إمتدت لاربعه قرون في شمال السودان. إذاً، الجلابة جزئيا أفارقة وسودانيين ولكنهم إختاروا أن يعرفوا أنفسهم كعرب، بالرغم من أن بعضهم فاحم السواد . و لكن بسبب قوة موقعهم الإقتصادي والإجتماعي (مقارنة بالجماعات الأخرى) كان الجلابة أكثر تأهيلا لوراثة سلطة الدولة عندما منح السودان إستقلاله في عام 1956. بالإضافة الي حقيقة أن الجلابة قد تمت تنميتهم بواسطة النظام الإستعماري لتعاونهم معه ، وتم إعدادهم بطريقة مباشرة و غير مباشرة كخلف للإستعمار المباشر.

وبهذا الفهم، فإنه ليس صحيحا أن مصطلح ” الجلابة” هو توصيف تجاري كما أشرت في خطابك، وإنما هى طبقة – مؤسسة لا يمكن إغفالها أو تجاهلها عمدا ، أو نتيجة لعدم الإدراك عند تناول أو تشريح الجذور التاريخية للمشكلة السودانية. فالمركزية القابضة اليوم هى مؤسسة الجلابة التى ظلت تحتكر السلطة Monopoly of power على الدوام وما تزال تسيطر على مراكز إتخاذ القرار السياسي Political decision making centres وبالمقابل وضعت موانع هيكلية Strucural Barriers أبعدت بموجبها الأغلبية المهمشة من الشعوب ذات الأصول الإفريقية و حرمتها من حيازة السلطة والثروة . لذلك نجد جماعات عرقية محددة تسكن في هامش وأطراف الخرطوم وينتهى بها المطاف للعمل في أشغال وأنشطة وضيعة كما أشار القائد عبد العزيز آدم الحلو في الحوار الذي أجرته معه صحيفة الديلي نيشن الكينية (تقسيم العمل) . فبائعات الشاي والتسالي والفول المدمس- حراس البوابات- غسالي السيارات – ماسحي الأحذية (الورنيش)- و كل الأعمال الشاقة (عمال البناء ) .. إلخ هم من المكونات الإفريقية فقط . وهنالك مثل سوداني معروف – يأتى على لسان البعض – يقول: (الشغلة ما شغلتنا لكن الظروف جبرتنا) بمعني أن هنالك أناس محددين خلقوا لهذا العمل.

أما قولك بأن إستخدام مصطلح الجلابة فى كتاباتنا من شأنه أن يخصم من رصيد الحركة الشعببة، يكذبه تأييد ومساندة الآلاف من عضوية الحركة الشعبية والأصدقاء (لعلك أنت واحد منهم) و حلفاء الحركة الشعبية لطرحها المبدئى والثابت ، ومع ذلك نتفهم تلك المخاوف التى عبرت عنها بوضوح في رسالتك . لكن أؤكد لك أن الحركة الشعبية تمضي بخطى واثقة يوما بعد يوم ولعلك تدري ذلك جيدا وبمعطى الواقع الماثل أمامنا الآن.

أرجو أن أكون قد وفقت في تسليط الضوء بما يكفى على مفهوم مصطلح “الجلابة” ، مع علمى بأن خطابك نابع من باب حرصك الشديد على مستقبل الحركه الشعبية و الوطن . لكن الايام أثبتت أن طرح الحركه لاقى تاييدا كبيرا لشفافيته . ودامت الحوارات البناءة والنقاشات الهادفة،،،

في منحى آخر لا يختلف كثيرا عن الآراء الرافضة لمصطلح الجلابة ومنهج تحليل الحركة الشعبية للأزمة السودانية، فقد إطلعنا في بعض المنصات الرقمية وقروبات الواتساب مقالا بعنوان (مشروع إعادة بناء الدولة السودانية: ( نحو تقرير مصير النخب المركزية) . حاول فيه كاتب المقال الرد على ما جاء فى حوار رئيس الحركة القائد عبدالعزيز آدم الحلو ، والذى أجرته معه صحيفة الديلي نيشن الكينية ، انتقد فيه ما قاله بخصوص “حق تقرير المصير لشعبي النوبة والفونج” . حيث وصف المطالبة بحق تقرير المصير للشعبين بالهروب إلى الأمام . ذلك الحوار الذي قدم فيه الحلو ردود جريئة وشجاعة حول الوضع الراهن وجذور المشكلة السودانية التى تهربت من مواجهتها النخبة المركزية المستعربة في محاولة يائسة منها لإنكار حقائق الواقع . و أن الصراع أساسه أزمة هوية وطنية (صراع عرقى ) ، بدليل التفاوتات التاريخية بين مكونات المجتمع السودانى .. حيث يتجلى ذلك اختلاف درجات التهميش بين الشعوب السودانية. فإن المكونات الإفريقية بـ”جبال النوبة، دارفور والفونج” لا تزال قابعة فى قاع المجتمع بسبب التهميش المركب – و هو تهميش تتداخل فيه العوامل العرقية، الثقافيةو الدينية فوق العوامل الاقتصاديه . لذلك فإن حديث بعض النخب المركزية عن أن جميع السودانيين متساويين في التهميش ، على صحته من منظور اقتصادى، الا انه يُعد فى حد ذاته تجني على المكونات الإفريقية المسحوقه التى تعانى من التهميش المركب الذى وصفناه اعلاه . و ان حديث أولئك النخب فيه إصرار على مواصلة التهميش عند الاتيان بمثل تلك المقاربات المخلة بحقائق الواقع ، فى محاولتين المساواه بين أوضاع المكونات الإفريقية وبقية السودانيين في الشمال والشريط النيلي (مواطن الجزيرة وشندي ما زي مواطن كرينك فى دارفور والياواك في جبال النوبة والكرمك في النيل الأزرق) . فمن الأهمية بمكان تتبع خارطة التهميش لكونها تسهم في فهم تعقيدات الواقع ومعالجته. عوضا عن ذلك، فهناك إستهدافات ممنهجة طالت المكونات الإفريقية دون غيرها، بدليل الحروب العنصرية الطاحنة التى شنتها الدولة على مواطنى الجنوب الجديد – دارفور، جبال النوبة والفونج. مستخدمة ترسانتها العسكرية المتطورة والأسلحلة المحرمة دوليا.

لم يقف كاتب المقال عند حد إنكار واقع التفاوت في درجات التهميش، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بمحاولته اليائسة سلب حق تقرير المصير للشعوب المهمشة في الجنوب الجديد – عندما أكد القائد عبد العزيز آدم الحلو حتمية لجوء شعبي جبال النوبة والفونج لخيار الإستقلال فى حال عدم تطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة . و أن حجته كانت موضوعية و متصلة بفشل وتعنت النخبة المركزية في معالجة قضية علاقة الدين بالدولة. ومعلوم أن حق تقرير المصير ليس منحة، وإنما حق إنساني وديمقراطي للشعوب المطضهدة يمكن أن تمارسها في أي وقت ومتى ما أرادت ذلك في حال إحساسها بتمسك المركز بثوابت العروبه و الإسلام السياسى و استمرار التهميش والظلم و شروط الوحدة غير العادلة مع الإستهداف الممنهج لهويتها ووجودها. وهذا ما وقع على شعبي الفونج وجبال النوبة.

فالشواهد والوقائع شاخصة للعيان وتثبت ما ذهبت إليه الحركة الشعبية فى تشخيصها للأزمة ، بأن هنالك مكونات بعينها مستهدفة – و أن هناك عنصرية مزدوجة (العرق والدين) ضد الشعوب الإفريقية ويتجلى ذلك في معاناة الملايين من الشعوب الإفريقية التى تم تنزيحها من مناطقها وقراها الأصلية إلى معسكرات اللاجئين في (كينيا، يوغندا إثيوبيا، تشاد وغيرها من الدول) بحثا عن ملاذ آمن. بالتالي إن إدعاء أن جميع الشعوب السودانية متساوية فى درجة التهميش ما هو إلا محض أكذوبة ومحاولة خبيثه لخلط الأوراق لا تمت لحقائق الواقع بصلة.

خلاصة القول: يمكن قراءة رأي كاتب المقال في سياق مواصلة النخبة المركزية لإستراتيجية خلط الأوراق وتجنب معالجة القضايا المصيرية للإبقاء على الأوضاع المختلة كما هي، وهنا إستعاض الكاتب عن حق تقرير مصير للشعوب المهمشة بما يُسمى بـ (حق تقرير مصير النخب المركزية) وهذا يتنافى مع منطق الأشياء والنظرة الصحيحة للأزمة لأن هذه النخب في الواقع ليست متضررة من الوضع القائم إن لم تكن مستفيدة منه (الإمتيازات التاريخية)، فلا يستقيم أن ترفض حق تقرير المصير لشعبي النوبة والفونج ، وتحملهما في ذات الوقت مسئولية دفع فاتورة التغيير فى كل السودان!! إذاً الشعوب في الجنوب الجديد هي المتضررة (الفونج، جبال النوبة) من الوضعيه القائمه ، خاصة وأن إستهدافها من الدولة ما زال مستمرا بصورة شبه يومية من خلال القتل والإبادة والتنزيح وإحتلال الأرض . بينما ما تزال نخب المركز سادرة فى غيها، لذلك نرى أن للشعوب المهمشه الحق في تقرير مصيرها فى ظل تمسك دولة الجلابة والنخبة المركزية بما يُسمى بالثوابت الوطنية – (العروبة والإسلام).

تعليق 1
  1. عبدالحفيظ يقول

    مقال ممتاز ومقنع جدا لمن اراد ان يقتنع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.