هل خاطبت التسوية السياسية تطلعات الشعب، أم طموحات النخب؟ (2)
مقبول الأمين (كوكامي).
هل طرح “التسوية السياسية” في الدولة السودانية تضمنت تطلعات الشعب، أم فقط مجرد طموحات النخب ؟ (2)
القراء الأماجد مواصلة للمقال السابق التى توقفنا، في ما ذهب إليه بورتون و الذي أضاف مفهومآ اخر لتسوية الصراع السياسي ألا و هو مفهوم تحول الصراع Conflict Transformation بمعنى تغير العلاقة بين الأطراف الصراعية و تحولها من مرحلة العدا إلى التفاهم و التعاون. و في هذه المقال سوف نتطرق الى ………..
ثالثا: الدبلوماسية الوقائية وصنع و حفظ و فرض و بناء السلام:
كثر استخدام هذه المفاهيم في الآونة الأخيرة في عمليات تسوية الصراع، خاصة ما يتعلق ببناء السلام و فرض السلام، في حين كان التركيز من قبل على مفهوم حفظ السلام فقط. و حتى هذا المفهوم لم يتضمنه ميثاق الأمم المتحدة عند وضعه، و كذلك مواثيق المنظمات الإقليمية كآلية لتسوية الصراع، وإنما تم استحداثه بعد ذلك من قبل المنظمة الدولية بسبب عدم كفاءة التدابير الأمنية الموجودة في الميثاق . لذا لا غرابة في أن يضع الأمين العام السابق للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي هذه المفاهيم في أجندته الخاصة بعملية السلام و التي كلفه بها مجلس الأمن عام 1993، و قدم تقريره بشأنها عام 1993.و يلاحظ أن كلا من هذه المفاهيم يشير إلى تسوية الصراع في مرحلة معينه من مراحله. و لعل البداية تبدأ بجهود الدبلوماسية الوقائية في محاولة لمنع الصراع، ثم بمرحلة صنع السلام التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالدبلوماسية الوقائية، و غالبا ما تكون متزامنة أو تالية لها، مرورا بمرحلة حفظ السلام و فرضه في حالة اندلاع الصراع و تصاعده، وصولا إلى مرحلة بناء السلام و التي تعنى بعملية حل الصراع و إزالة مسبباته و ليس الاقتصار على تسويته فقط و قبل الحديث عن العلاقة بين مفهوم تسوية الصراع و هذه المفاهيم، ينبغي أولا تعريفها، ثم محاولة معرفة العلاقة بينها و بين مفهوم التسوية، و كذلك المفاهيم الأخرى التي تم تناولها في المقال الأول.
(1) مفهوم الدبلوماسية الوقائية Preventive Diplomacy
يشير هذا المفهوم إلى الإجراءات والأعمال التي من شأنها أن تعمل على منع نشوب النزاعات بين الأطراف –أساسا –أو منع تصاعد النزاعات القائمة، أو وقف انتشارها و امتدادها عندما تقع. و تشمل الإجراءات من هذا النوع جميع الأساليب و الوسائل التي نص عليها الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة (الوساطة-التوفيق-المساعي الحميدة). و يلاحظ أنه منذ ثمانينات القرن الماضي لم تعد أنشطة الدبلوماسية الوقائية قاصرة على وسائل و آليات التسوية السلمية التقليدية، إذ امتد المفهوم ليشمل إمكانية استخدام الوسائل العسكرية، حيث أن جهود الدبلوماسية الوقائية تتراوح بين المكالمة المقتضبة، و قد تصل إلى حد تحريك القوات المسلحة، و هو ما فعلته الأمم المتحدة عندما صدر قرار مجلس الأمن رقم (795 ) لعام 1992 بشأن إرسال قوات دولية لجمهورية مقدونيا اليوغوسلافية السابقة على حدودها مع كل من ألمانيا و صربيا و الجبل الأسود. و يعتمد نجاح جهود الدبلوماسية الوقائية على ضرورة توافر مجموعة من الآليات التي تساعد على كشف بؤر الصراع قبل اندلاعه أهمها وجود شبكة إنذار مبكر Early Warning Network تقوم بجمع البيانات عن بؤر الصراع، و تقديمها إلى المنظمة الدولية المعنية من أجل سرعة التحرك. و يلاحظ أن مفهوم الدبلوماسية الوقائية يرتبط بصورة قوية بمفهوم منع الصراع، كما أنه يعد مقدمة لجهود صنع السلام، فضلا عن كونه يدخل في إطار التسوية السلمية للصراع
(2) مفهوم صنع السلام Peace-Making:
وفقا لتعريف أكاديمية السلام الدولية International Peace Academy، فإن مفهوم صنع السلام يعني الجهود المبذولة لتسوية الصراع عبر الوساطة أو المفاوضات، أو الأشكال الأخرى للتسوية السلمية، و هذه الأنشطة تكون محصورة-عمليا-في المستوى السياسي و أحيانا تكون بمثابة مجال مساعد Field Adjustment لعمليات حفظ السلام. وكما يتضح من التعريف فإنه-غالبا-ما تأتي عملية صنع السلام في مرحلة تالية أو متزامنة تقريبا مع جهود الدبلوماسية الوقائية، أو بمعنى أخر فإن جهود الدبلوماسية الوقائية تبدأ-غالبا-قبل اندلاع الصراع، أو في حالة وجود بوادر له، في حين أن عملية صنع السلام تبدأ-غالبا-مع اندلاعه بهدف منع تصعيده أو انتشاره إلى المناطق المجاورة؛ و من ثم فإن عملية صنع السلام-شأنها في ذلك شأن الدبلوماسية الوقائية-ترتبط أساسا بجهود منع الصراع.
(3) مفهوم حفظ السلام Peace-Keeping:
بالرغم من شيوع كلمة حفظ السلام وورودها أكثر من مرة في ميثاق الأمم المتحدة ، إلا أن التوصل لتعريف محدد للمصطلح يعد غاية في الصعوبة بالنظر إلى التطور الكبير الذي حدث في حجم القوات -مناطق تركزها – التفويض – المهام المنوطة بها. و نظرا لاتساع نطاق التفويض الممنوح لها صارت هناك عدة طرق للتعريف، فوفقا لأكاديمية السلام الدولية، فإن مفهوم حفظ السلام يعني احتواء، الوساطة، الفصل بين أطراف الصراع من خلال تدخل طرف دولي ثالث بصورة مباشرة و منظمة، حيث يتم استخدام قوات متعددة الجنسيات لذلك الغرض تضم قوات عسكرية –قوات شرطة-مدنيين من أجل استعادة السلام. و يكاد يتفق هذا التعريف مع تعريف الخبراء العسكريين الأمريكيين مثل Quinn، و الذي يركز في تعريفه على الطبيعة الدفاعية (غير القسرية) لهذه القوات من ناحية، و إمكانية تغيير التفويض الممنوح لها من ناحية ثانية، فوفقا لكوين فإن مفهوم حفظ السلام يشير إلى العمليات غير القمعية بالأساس التي تتم من خلال قوات الأمم المتحدة أو غيرها من المنظمات المعنية، التي لا يحق لها استخدام القوة إلا في حالات الدفاع عن النفس، و هدفها مراقبة و تسهيل التوصل إلى اتفاقيات بناء الثقة من أجل تسوية الصراعات، و يتم نشرها بناء على موافقة كل أطراف الصراع الرئيسية، و يمكن لهذه القوات في فترة لاحقة –و لأي سبب من الأسباب –أن تقوم بعمليات قتالية عندما يسمح لها بذلك من قبل الأمم المتحدة أو المنظمة المعنية ليس بهدف الدفاع عن النفس، و لكن من أجل تحقيق المهام المنوطة بها. و تهدف عمليات حفظ السلام – في الأغلب الأعم-إلى تحقيق عدة أمور أهمها:
أ-السعي لوقف النزاع المسلح حتى يتم إيجاد مناخ مستقر يمكن أن يتم التفاوض في إطاره، لذا فهي تشكل إضافة للوسائل التقليدية السلمية في تسوية الصراع، أو مكملة لها.
ب-أنها تستخدم كرادع ضد أي طرف يقوم بأي خروقات بعد توقيع اتفاقات وقف إطلاق النار، سواء تلك التي يتوصل إليها الطرفان قبل وصولها، أو التي تتم تحت إشرافها.
ج-مراقبة انتهاكات الحدود، و العمل كقوة عازلة بين أطراف الصراع، كما يمكن لها –في حالة الصراعات الداخلية-المساهمة في الحفاظ على النظام الداخلي خلال الفترة الانتقالية. و لقد شهدت مهام حفظ السلام تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة، حيث لم يعد دورها قاصرا على النواحي العسكرية فقط، و إنما صارت لها مهام ذات طبيعة-إنسانية-خاصة في بؤر الصراع كما حدث في رواندا-بوروندي-الصومال-ليبيريا في تسعينات القرن الماضي.
ويتوقف نجاح عمل هذه القوات على ضرورة وجود تفويض واضح بشأن مهامها من ناحية، و تعاون الأطراف المختلفة معها من أجل تنفيذ المهام المنوطة بها من ناحية ثانية، و ضرورة توفير الدعم اللوجيستي و المالي لها من ناحية ثالثة. إلا أنه من الملاحظ أنه منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، لم تعد عمليات حفظ السلام-خاصة التي تتم من خلال الأمم المتحدة-تتقيد بالشروط التقليدية السابق الإشارة إليها، لا سيما تلك المتعلقة باستخدام الحد الأدنى من القوات بسبب الطبيعة الدفاعية لها، و كذلك ضرورة موافقة الأطراف المتحاربة و تعاونها، إلا أن تجاهل هذين الشرطين-تحديدا-يجعلها دائمة عرضة للمخاطر المختلفة خاصة من أطراف الصراع المعارضة لوجودها. و من هنا يلاحظ أن مفهوم حفظ السلام يرتبط بعملية تسوية الصراع منذ بدايته أو عند تصاعده، و من ثم فإن هدف هذه القوات هو إدارة الصراع من أجل التوصل إلى تسوية سلمية، أما التسوية العسكرية (استخدام القوة العسكرية) فإنها تأتي عند تفاقم الصراع، حيث يكون دور هذه القوات في هذه الحالة فرض السلام، ثم يتم التوصل إلى تسوية سياسية بعد ذلك.
(4) مفهوم فرض السلام Peace Enforcement:
يرتبط مفهوم فرض السلام-أساسا-باستخدام القوة العسكرية في عملية التسوية، و يتم اللجوء إليه في حالة الصراعات التي تصبح فيها مهمة حفظ السلام غير عملية، خاصة إذا تعرضت القوات الدولية للهجوم من قبل طرف أو عدة أطراف من أطراف الصراع، كما حدث مع بعثة الأمم المتحدة في الكونجو (1960)، و الصومال(1993)، و قوات الجماعة في ليبيريا(1990). و هنا لا بد من الإشارة إلى نوع مهمة القوات الدولية (حفظ سلام-فرض سلام) في القرار الصادر بشأنها من المنظمة المعنية. و بصفة عامة فإن الاختيار بين هاتين المهمتين يتوقف على نمط الصراع من ناحية، و التغيرات التي تطرأ عليه من ناحية ثانية. لذا يلاحظ ارتباط مفهوم فرض السلام بنمط التسوية السياسية و العسكرية من ناحية، و نمط إدارة الصراع من ناحية ثانية.
(5) مفهوم بناء السلام Peace Building
هناك شبه اتفاق بين الخبراء العسكريين على أن مفهوم بناء السلام يرتبط بعمليات إصلاح البنية التحتية، و بناء المؤسسات في الدولة أو الدول محل الصراع و مخاطبة جزور الأزمة؛ من أجل إيجاد الظروف الملائمة لتحقيق السلام و ضمان عدم العودة إلى الصراع مرة أخرى، مثل حالة كمبوديا و الصومال و السودان.و يلاحظ أن هدف عملية بناء السلام هو السعي لحل الصراع من كافة أبعاده الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و الإنسانية، و عدم الاقتصار-فقط-على التسوية من الناحيتين السياسية و العسكرية، و هو يعتبر من المفاهيم الحديثة نسبيا، و تكمن أهميته في أنه يستكمل الحلقة المفقودة فيما يتعلق بدور المنظمات الدولية –خاصة الأمم المتحدة-في مجال حفظ السلم و الأمن الدوليين من ناحية، و دورها في المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية من ناحية ثانية، حيث كان التركيز في الأغلب الأعم على المجال الأول. و هناك اتجاه يربط بين جهود الدبلوماسية الوقائية، و عملية بناء السلام على اعتبار أن الأولى تسعى للحيلولة دون اندلاع الصراع من الأساس في حين أن الثانية تهدف إلى الحيلولة دون العودة إليه ثانية. و من هنا يلاحظ أن مفهوم بناء السلام يقابل مفهوم حل الصراع السابق الإشارة إليه، كما أنه يرتبط – كذلك – بالتسوية السياسية الشاملة و ليست التسوية الجزئية التي تقتصر- غالبا- على التسوية السياسية أو العسكرية، و المصلحة الرايجة من التسوية السياسية هي تحقيق تطلعات الشعب من حرية سلام و عدالة.
نواصل……………