تذاكى ومخادعة البرهان وحميدتي في العمليَّة السياسيَّة
الدكتور قندول إبراهيم قندول
[email protected]
نصوص الاتفاق الإطاري الذي تم التوقيع عليه يوم الاثنين الموافق الخامس من ديسمبر ٢٠٢٢م مليئة بالتناقضات والغموض من حيث الصياغة والمضمون، وتواجهه تحديات كثيرة منها: عدم تحديد كيفية وآليات التنفيذ والجهة المُنفِّذة له، فضلاً عن عدم توقيع الشهود الإقليميين أو الدوليين، أو على الأقل، أعضاء اللجنة الثلاثيَّة أو الرباعيَّة رغم الحضور الكثيف للأجانب الذي شاهدناه في قاعة الصداقة. يبدو، إذن، للبعيدين ويتوهَّم الذين وقعَّوا على الاتفاق أنَّه صناعة سودانيَّة بتسهيل أجنبي، وهم يخادعون الناس وما يخدعون إلا أنفسهم. المعارضون للاتفاق يرون غير ذلك، إذ يحسبونه املاءات خارجيَّة غير مقبولة. بل ذهب المتطرفون منهم أبعد من ذلك ووصفوه بقاذف الدين في “العراء، واحتجت فئة أخرى بأنَّه ثنائي واقصائي، الأمر الذى دحضه الفريق أول عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، عقب التوقيع بأنَّه مفتوح لكل “زول”! المتحدثون الباقون في مراسم التوقيع وصفوه في جملة واحدة بأنَّه حدث تاريخي هام.
هكذا نجح البرهان ونائبه حميدتي في توسيع الشُقة بين السياسيين السُّودانيين، ظاهريَّاً، منتظرين اللحظة الحاسمة للضربة القاضية على هؤلاء جميعاً. السؤال كيف ذلك؟ المتتبِّع الحصيف للأحداث يجد بلا جهد يُذكر أنَّ الرجلين، بصورة ما، إستطاعا بمكر شديد شراء ذمم شريحة كبيرة من قطاعات الشعب السُوداني بالشراء، ما عدا الشباب. بمعنى أكثر دقة، لجان المقاومة. يتجلى مكر الرجلين في مواقفهما عبر السنوات الأربع الأخيرة من تمثيليَّة إسقاط الإنقاذ في: إستدعاء المشير عمر حسن أحمد البشير ربيبه “حميدتي” من دارفور لما ضاقت عليه نفسه وأرض السُّودان وظنَّ أنَّه لا ملجأ له إلا إليه، ولكن إنقلب عليه “حميدتي” صوريَّاً، فقبض عليه وأودعه في مأمن. الفعل الذي يفتخر به “حميدتي” بأنَّه لو لم يقبض على البشير لسالت الدماء حتى الركب. يذكر “حميدتي” ذلك متناسيَّاً دوره في الإبادة الجماعيَّة في دارفور وإقليمي جبال النُّوبة والفونج الجديد، وأنَّ يديه ملطختان بدماء الأبرياء من كل مِلل السُّودان أثناء جريمة فض الإعتصام التي وقف العالم متحيراً بعدما شاهد السُّودانيين يصنعون التاريخ لأنفسهم.
ففي تلك الأيام العصيبة والثوار يفترشون الأرض في إعتصامهم أمام قيادة قواتهم المسلحة، إستدرج البرهان السيد إبراهيم الشيخ، رئيس حزب المؤتمر السوداني آنذاك، إلى داخل مكاتبها وقيل له كلاماً لم يفصح عنه حتى الآن. وبعد خروجه منها، عُقدت إجتماعات كثيرة في الخرطوم وأديس أبابا، إثيوبيا. وفي خطوة خطيرة للغاية قامت اللجنة الأمنيَّة بمسرحية مكشوفة تمثَّلت في إعتقال ياسر سعيد عرمان، ومبارك عبد الرحمن أردول (رئيس وفد المقدمة لحركة مالك عقار إير إلى الخرطوم) وآخرين وإقتيادهم، أو قل إن شئت، إبعادهم من السُّودان معصومي الأعين إلى مدينة جوبا، بجمهورية جنوب السُّودان، في ١١ يونيو ٢٠١٩م. المسرحيَّة بليدة بيد أنَّه لا يمكن أن يتم معاملة سياسيين معروفين بتلك الإهانة ما لم تكن هناك خطة مسبقة ظاهرها التمويه وباطنها الإبتزاز والشماتة. وما يدل على ذلك أنَّ هؤلاء شاركوا في المفاوضات مع ذات الحكومة التي إعتقلتهم، ثم تبوأ عددٌ منهم، إن لم يكن جميعهم، مناصب رفيعة في الدولة، وأصبح رئيسهم عضو مجلس سيادي لاحقاً. مهما يكن، لم يحن الوقت المناسب لكشف المعلومات الدقيقة عن تفاصيل هذه التمثيليَّة السمجَّة.
توالت المؤامرات على الشعب السُّوداني وثورته بواسطة اللجنة الأمنيَّة وحليفها الإستراتيجي غير الموثوق فيه “حميدتي” فنشطت الرحلات المكوكيَّة بين الخرطوم وإثيوبيا، إنبثقت عنها الوثيقة الدستوريَّة المعيبة والإتفاق عليها بتقاسم السلطة مع العسكر في ٥ يوليو ٢٠١٩م، أي بعد ٣٣ يوماً من جريمة فض الاعتصام، بصورتها المقلوبة، مثلما رفعها “حميدتي” ليرى الناس إنجازه! حينها تأكَّد لنا، ولا زلنا نعتقد أنَّ الحراك و”الثورة” العظيمة اُختطفت وإنتهت وكأنَّها لم تكن. نعم، إستطاعت اللجنة الأمنيَّة إفراغ حراك و”ثورة” الشعب السُّوداني من مفهوم ومضمون الشرعيَّة الثوريَّة، فخرج المجرمون كما الشعرة من العجين!
أثناء المفاوضات بين حكومة الأمر الواقع في الخرطوم مع من سموا أنفسهم بتحالف “نداء السُّودان” حيناً، و”الجبهة الثوريَّة” حيناً آخر، و”حركات الكفاح المسلح”، وما هي كذلك،
أطال التبرير لها دون الحاجة إلى ذلك. بيد أنَّه ترأس الجانب الحكومي المتآمر على الشعب الفريق “حميدتي”. وعندما تأكَّد البرهان وحميدتي من خضوع “حركات الكفاح المسلح” لخطتهما تم تقسيمها إلى مجموعات صغيرة لمناقشة قضايا السُّودان الكبيرة والكثيرة بالتجزئة إذ تم تقسيمها إلى خمسة “مسارات”. ماذا بعد؟ توجه القوم (حركات الكفاح المسلح بمسمياتها وآخرون) كالبيض بطائرة خاصة إلى الخرطوم، وما هي إلا بضع أشهر حتى تم تقسيمهم مرة أخرى إلى أشياعٍ وانقلب عبد الفتاح البرهان وحميدتي على من لم يكونوا من شيعتهما في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، بتحريض من الكيزان.
ولما غلبهما السيطرة على الوضع وتنفيذ مخططهما نتيجة للضغط الجماهيري والشعبي غير المحسوبين، لجأت قيادة الجيش والدعم السريع إلى مكيدة أخرى وهي دعوة أهل السُّودان إلى “توافق وطني”، فحشروا ونادوا، وتناسلت المبادرات اليمينيَّة إلى اليساريَّة ولم تفلح، لأنَّ البرهان وحميدتي لا يريدان تسليم السلطة للمدنيين. لقد صرَّح حميدتي بلسان المؤسسة العسكريَّة أنَّه لا يعقل تسليم السكين لأحد يريد ذبحه بها! الرجل محقٌ، فلن يجرأ إنسان على ذلك، حتى لو كان نبياً. وفي منحى آخر، وبسواس من الشيطان، أتى حميدتي بمبادرة أخيرة في محاولة يائسة وبائسة جمع لها بعض من سمَّتهم الإنقاذ بالأمراء من ولايتي جنوب كردفان وغرب كردفان لبحث مسألة “الصلح القبلي والتعايش السلمي”. المضحك والمبكي في الآن نفسه أنَّ خطوته تلك جاءت على أعقاب موقف النُّوبة الموحَّد ضد قوات الدعم السريع التي يتزعمها هو. إحتلت تلك القوات مدينة الياواك وأهلها نيام. ونحن نتساءل لماذا لم يعر حميدتي النُّوبة أي اهتمام من قبل؟ أليست قواته هي التي حاولت مراراً دخول مدينة كاودا بأمر من البشير والمجرم أحمد محمد هارون ليصلي فيها “صلاة الجمعة؟” بلى! أم أليست قواته بقيادة المدعو شيريا، ولولا تصدى القوات المسلحة لها بقيادة “جاو” لإستباحت المدينة ولسُحلت؟ بلى! أم أليس هو “شيريا” الذي قاد أكثر من ٤٠ عربة مدججة بالسلاح من الأبيض صوب جبال النُّوبة لضرب أهلها؟ بلى! أوليس هم نفس الناس الذين نقضوا صلح “سُورنيه وليس سُورني” بين المسيريَّة والنُّوبة في الياواك قبل عامين؟ بلى!
ما يفقع المرارة أنَّ جراح النُّوبة لم تبرأ ولم تندمل بعد من تداعيات أحداث “الياواك” ويأتي حميدتي بما هو أشد استفزازاً للنُّوبة، ويخاطبهم بكل عنجهية في قاعة الصداقة أنَّ الجسور فُتحت لهم ليصلوا إلى القصر الجمهوري وأنَّ الأمر فيه خيار وفقوس! ثم تساءل من الذي فتح الجسور في إشارة خبيثة إلى مجهول يعرفه هو، كما إعتاد أن يوهم الناس بأنَّ هناك طرف ثالث يخلق مشاكل السُّودان. ألم تكن أنت ثاني رجل في الدولة السُّودانيَّة؟ الآمر والناهي؟ بلى! إذن، نسأل نفس السؤال: لماذا منعت طائفة من الناس عبور الجسور بقفلها وأصدرت الأوامر بالسماح بالعبور لموكب واعتصام الموز، موكب الكرامة ١، ٢؛ ٣ إلخ، دون أن يعترض سبيلهم أحد بالغاز المسيل للدموع أو الرصاص الحي؟ … على أية حال، المحزن هو أنَّ أولئك الأمراء صفَّقوا وهلَّلوا وكبَّروا وقال بعضهم كلاماً لا يقوله إلا من يرضى بالذل والهوان. المعنى هنا دون مواربة أو شك أو تأويل “الأمير” مجازاً “حسن تيه كوكو” الذي تفوه “أنَّ المسيريَّة هم مصدر اقتصاد النُّوبة”!
عوداً إلى الاستهبال السياسي وتذاكي البرهان وحميدتي، طلَّق الرجلان كل حلفائهما طلاقاً مرجوعاً، وعادا إلى من إنقلبوا عليهم في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م وتم التوقيع معهم على الإتفاق الإطاري الحالي رغم المعارضة الشرسة من حلفائهما السابقين. وبعد حين سيتم الفراق بينهما والحلفاء الجدد، أعداء الأمس. وآخر من تم الضحك عليه ومخادعته هو العالم، والمجتمع الدولي وستتجدَّد دورة الجرثومة الخبيثة أو الدائرة الشريرة بوضع كل “البيض” في قفة واحدة ورميها بحجر كبير أو إسقاطها من علٍ لتكسَّر. يُعد تصرُّف الفريقين ذكاءٌ متواضع مفتعل ومستلفٌ من مؤسس الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان، الدكتور جون قرنق دي مبيور. هذا التشبيه يذكَّرني بما قاله يوماً الأستاذ “إستيفن ووندو”، ممثِّل الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان بواشنطن قبل إتفاق السلام الشامل. قال “ووندو” لبعض الجنوبيين وأعضاء الحركة الذين عارضوا التوقيع على الإتفاق على ورقة التعاون المشترك بينها وحزب الترابي في لندن عام ٢٠٠٣م. إذ برَّر “ووندو” أنَّ من النتائج الجيدة لذلك الإتفاق هو “وضع حسن الترابي في السجن”. وإستطرد قائلاً: “إستطاعت الحركة بدون أي جهد منها، في تحريض أبناء الترابي “للقبض عليه وحبسه وتم بذلك تحجيم تأثيراته السالبة. فإن لم تفعل الحركة ذلك لظل الترابي خارج السجن وزاد الحال سوءاً لأنَّه رجلٌ سيء (Bad man).
أما بالنسبة للحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان بقيادة القائد عبد العزيز الحلو، وحركة “جيش تحرير السُّودان” بقيادة الأستاذ عبد الواحد محمد نور، فلا تمر عليهما ألاعيب الكيزان في ثوب عبد الفتاح البرهان وحميدتي. فمصير الإتفاق الإطاري مجهول بيد أنَّ المتحدث الرسمي بإسم حزب المؤتمر السوداني المهندس نور الدين بابكر ذكر يوم الثلاثاء ٦ ديسمبر أي بعد يوم واحد من التوقيع على الإتفاق “أنَّ هناك عدم ثقة بين المدنيين والعسكريين”. أما الفريق البرهان فقد صرًّح مراراً أنَّ خروج المؤسسة العسكريَّة مرهون بالتوافق الوطني الشامل. وفي الخطاب قال البرهان “الجيش إلى الثكنات والأحزاب إلى الإنتخابات”. وبدون دراية صفَّق الحاضرون وطويلاً. أما حميدتي فقد “إعترف بالأخطاء وإعتذر” وإنتشى القوم الظالمون! أما في لقاء صحفي في القصر مع الصحفية المقتدرة “لينا يعقوب” حيث راوغ البرهان وتردَّد في إجابته عن سؤالها: “من سيكون القائد الأعلى للقوات النظاميَّة”؟ وإلحاقاً لما لاحظناه في وجه البرهان عند التوقيع، لقد كان مبتسماً وهو ممسكٌ بالقلم، ليس إبتسامة الفرح بالإنجاز لمصلحة الوطن، ولكن لنجاحه هو في خداع الكل، كل الوقت! ويُذكِّرنا المتنبي حين قال:
إذا رأيت أنياب الليث بارزة فلا تظنن أنَّ الليث يبتسم”.
وفي موضع آخر يقول:
“عليك هزمهم في كل معتركٍ وما عليك بهم عارٌ إذا انهزموا”