الإتفاق الإطارى بين قحت والمكون العسكرى فى الميزان
✍🏿: الجاك محمود أحمد الجاك
تابعت كغيرى من المهتمين مراسم التوقيع على الإتفاق الإطارى بين قوى الحرية والتغيير صباح اليوم الإثنين الخامس من ديسمبر ٢٠٢٢، وخرجت بملاحظات خطيرة رأيت ضرورة كتابتها فى عذا المقال.
أولا: بإستثناء حزب الأمة وإلى حد ما حزب المؤتمر السودانى، فإن القوى السياسية الموقعة على الإتفاق الإطارى هى مجرد أسماء ليس لها وزن وثقل سياسى حقيقى. وقد تم التوقيع فى ظل رفض الشارع وأغلب قوى الثورة الحية، ومؤكد سيترتب على ذلك تحديات كثيرة ستواجه هذا الإتفاق رغم تأييد ودعم المجتمع الدولى له، لأنه لا يعدو كونه صفقة بين النخب.
ثانيا: لقد برهن الإتفاق الإطارى على فشل وإخفاق أطرافه (النخب العسكرية والسياسية) فى توصيف طبيعة الصراع لعدم إمتلاك الإرادة لمخاطبة جذور المشكلة، وهو ما يؤكد صحة حديث رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال، القائد عبدالعزيز آدم الحلو عندما وصف موقف النخب السياسية بالسالب والضبابى تجاه القضايا التى تشكل جوهر الصراع فى السودان. فالتهرب من مخاطبة قضية جوهرية كعلاقة الدين بالدولة وتحاشى معالجتها بصورة جذرية وحاسمة يضع كل ما قدمته أطراف هذه التسوية فى خانة الحلول الصفرية بسبب تعمد تجاهل طبيعة الصراع وعدم مخاطبة جذور المشكلة. إن تسييس الدين وإستغلاله فى السياسة وفرضه كواحدة من محددات الهوية الوطنية والمبادئ الهادية لتوجهات الدولة، بالإضافة إلى فرضه كمصدر رئيسى للتشريع جعل من الدين أداة فى الصراع الدائر. وقد تضررت الأغلبية المهمشة فى السودان من إستغلال الدين فى السياسة منذ ما يسمى بإستقلال السودان، وبالتالى يعتبر تجاهل مخاطبة هذه القضية بصورة حاسمة بمثابة إصرار على فرض ثوابت وهوية الأقلية الحاكمة بالقوة وهو أمر مرفوض وسيجد مقاومة من الأغلبية المتضررة. فالجماعة المسيطرة ترفض فصل الدين عن الدولة لإعتبارات تتعلق بالمحافظة على إمتيازاتها ومصالحها فضلا رفض المساس ببنية الدولة القديمة التى تعبر عن هويتها وثوابتها.
عندما تصر الحركة الشعبية على علمانية الدولة، أو فصل الدين على الدولة فهذا الإصرار ليس من باب المزايدة السياسية أو محاربة الدين كما يدعى خصومها، وإنما هو موقف مبدئى نابع من فهم الحركة الشعبية العميق لطبيعة الصراع فى السودان وعلاقة تسييس الدين بأزمة الهوية وترسانة القوانين والتشريعات الدينية التى تحكم البلاد وتكرس لهيمنة الأقلية وإخضاعها وإذلالها للأغلبية. ولأن الدولة الوطنية الحديثة والتى نشأت بموجب معاهدة ويستفاليا (١٦٤٨) هيكليا هى دولة علمانية، ولأن العلمانية شرط ضرورى لبناء وتأسيس دولة قابلة للحياة (a viable state)، دولة حكم القانون (the rule of law)، دولة تسود فيها قيم الحرية والعدالة والمساواة. وحتى التحول الديمقراطى لا يمكن أن يتحقق إلا فى ظل دولة علمانية. إن الإصرار على عدم مخاطبة علاقة الدين بالدولة بصورة واضحة له علاقة وثيقة بأزمة الهوية كقضية محورية ومركزية فى الصراع الحاصل فى السودان وهو إصرار مهدد لفرص ومقومات الوحدة العادلة والوحدة الطوعية، وسيفرض هذا الإصرار طرح حق تقرير المصير كخيار حتمى وأخير، شاء من شاء، وأبى من أبى، وأعتقد أن هذه الفرضية هى ما تخطط لها نخب المركز وخاصة التيارات الإسلاموعروبية التى أسهمت فى خلق الوضعية التاريخية المأزومة فى البلاد.
ثالثا: من أبرز التناقضات هو أن الإتفاق الإطارى أعاد الإعتراف بقوات الدعم السريع وشرعنتها مرة أخرى بإعتبارها واحدة من الأجهزة والقوات النظامية فى جمهورية السودان. وذهب أبعد من ذلك إلى منحها إستقلالية عن القوات المسلحة هذه المرة بإتباعها للقائد الأعلى للقوات المسلحة وهو رئيس مجلس السيادة المدنى بموجب هذا الإتفاق. إن تعمد قوى الحرية والتغيير تكرار ذات الخطأ الذى إرتكبته بشرعنة قوات الدعم السريع فى الوثيقة الدستورية بإعترافها مرة أخرى بقوات الدعم السريع سيئة السمعة والتاريخ، وفرضها دستوريا يعنى أن النخب السياسية والعسكرية للجلابة ينظرون لقوات الدعم السريع (الجنجويد) بإعتبارها قوة إستراتيجية، وهذا الإعتراف والشرعنة يتناقض كليا مع الدعوة إلى دمج قوات الدعم السريع فى القوات المسلحة، وفيه إستحمار للشارع وتجاهل لأهم مطالبه (العسكر للثكنات والجنجويد ينحل). وواضح أن الموقعين على الإتفاق الإطارى يعتقدون فى قدرتهم على مغازلة الحركة الشعبية وخداعها بالحديث عن دمج قوات الدعم السريع فى القوات المسلحة، لأن الحركة الشعبية هى من إشترطت فى آخر جولة تفاوض مع الحكومة الإنتقالية حل او دمج قوات الدعم السريع كمدخل ضرورى لإصلاح القطاع الأمنى الذى يجب أن يسبق تنفيذ الترتيبات الأمنية وبناء جيش وطنى ومهنى واحد، وذلك بعد أن لاحظ وفد الحركة الشعبية إصرار وفد الحكومة المكون من قحت والعسكر قد جاء إلى المفاوضات بعقلية البشير ورئيس أركان جيشه الجنرال عماد عدوى على إقحام مناقشة الترتيبات الأمنية قبل أوانها (بس عينهم على الجيش الشعبى وسلاحو وما عايزين يلتزموا بترتيب ملفات وأجندة التفاوض المتفق عليهو، ولا فاضين يعترفوا بطبيعة الصراع ويخاطبوا جذور المشكلة) وهو ما أدى إلى فشل الجولة وإنفضاضها وتوقف المفاوضات. وما يقدح فى مصداقية وجدية قوى الحرية والتغيير والمكون العسكرى فى الحديث عن إصلاح القطاع الأمنى والعسكرى هو عدم تحديد سقف زمنى واضح لدمج قوات الدعم السريع فى القوات المسلحة، إذ ترك الإتفاق الإطارى قضية الدمج مفتوحا دون تحديد هل سيتم ذلك قبل الإنتخابات أم بعدها. واضح أن هذه الثغرة مقصودة لذاتها، ويمكن قراءتها مع ما ورد فى خطاب البرهان عندما قال: (العسكر للثكنات والأحزاب للإنتخابات) وهذا الكلام يكن قراءته فى سياق الشرط وهو ما يثير الشكوك فى جدية ومصداقية قحت والمكون العسكرى فى الحديث عن إصلاح القطاع الأمنى والعسكرى، فيما سكت الإتفاق عن توضيح الجهة التى ستقوم بتنفيذ إصلاح القطاع الأمنى. فمن واقع تجربتنا وفهمنا لعقلية قحت والمكون العسكرى لا يمكن الوثوق فى مجرد كلام إنشائى يكتبونه فيما يتعلق بدمج قوات الدعم السريع وإنسحاب الجيش من المشهد السياسى والذى يبدو أنه إنسحاب تكتيكى.
ختاما، إن معالجة مشكلة بحجم مشكلة السودان تتطلب إمتلاك الإرادة والشجاعة والإستعداد لإجراء عملية جراحية كبيرة، لكن يبدو أن الله قد إبتلى السودان بساسة ونخب أقل بكثير من قامة هذا الوطن.
There is no change until the the regime is changed