دروب الحقيقة
بقلم: أحمد مختار البيت
مفارقات..كادقلي والزنازين، وتداعيات يحيي فضل الله
(1)
@ العزلة التي فرضت على جبال النوبة، لم تكن من قبل الإحتلال الإنجليزي وحده، بقانون المناطق المقفولة، بل ساهمت الجغرافيا والبيئة والفقر، في تلك العزلة غير المجيدة، وحرمت الآلاف مثلي، من معرفة وطنهم الصغير، والتجوال الحر في بيئاته الساحرة، ومناخاته المتعددة والتعرف عن قرب على إنسانه الطيب البسيط، أول مرة أزور مدينة كادقلي، كان في العام 1997م، ولكن من المفارقات المدهشة زرناها، مختطفون من جهاز أمن أبوجبيهة، سيء السمعة والممارسة، كانت البنادق مصوبة على رؤسنا نحن أربعة، الأساتذة ، صالح خليل، فيصل حميدان، وآدم عيسى، وكاتب السطور.
(2)
المفارقة الأولى أنني زرت كادقلي وأحببتها وتعرفت على معالمها وشخوصها، قبل أن أراها، من خلال تداعيات المبدع يحيي فضل الله العوض، التي أزعم أنني قرأت حلقاتها كلها في العام 1996م قبل أن تصدر في “كتاب” حيث كنا حينها في مدينة أم روابة الساحرة، نستقبل الباصات القادمة من الخرطوم، في شارع الأسفلت، في كل يوم ثلاثاء، موعد نشر التداعيات في الجريدة ، التي خصصها يحيي عن قصد، لمداواة جراحها و مأساتها بالكلمة، فهي مدينته التي أحبها وأدمن عشقها، وتماهى مع رموزها وشخوصها الملهمة والغامضة، توتو كورو، عبده جوطه، جيمس وآخرين، مازالوا في ذاكرة المدينة وأريافها، وأرواحهم تحلق ليلا كل يوم فوق بيوتها الوادعة، تذكر الاحياء منهم، أن لا ينسوا العدالة والحقوق، وما جرى في خور العفن… يحيي فضل الله، قدم لكادقلي، أكثر مما قدمته وزارة الثقافة والإعلام في الولاية، وجعل منها مدينة عالمية، يتمنى الجميع زيارتها، ولو كانت المناصب في بلادنا، تمنح بالجدارة والمعرفة المبصرة، والوعي والاستعداد، لكانت وزارة الثقافة والإعلام، حصرا للمبدعين يحيي فضل الله، وحماد يونس، وإبراهيم أزرق مكين، ومن المفارقات ثلاثتهم أصدقاء، ولهم اهتمامات واسعة بتراث وثقافات جبال النوبة وبالإبداع عموما. الرواية والتاريخ والشعر والمسرح والنقد، بما يؤهلهم لجعل كادقلي مركز و عاصمة للثقافة السودانية والتراث، وساحة للسياحة والحوار وادارة التنوع الثقافي في بلادنا ولكن…
(3)
وصلنا كادقلي ليلا، بعد رحلة شاقة ومضنية، للجسم والعقل معا، اجتزنا طرقا ترابية وعرة ومجهولة، لا تمر بالقرى والمدن، ولذلك قلت أن العملية كانت اختطاف وإرهاب، استوقفنا فيها تصرف أحد أفراد الأمن، الذي كان في حراستنا، في السيارة، واسمه عاطف أبيض، من قرية كرتالا، إن لم تخني الذاكرة، في الجبال الستة، كان متأثرا لدرجة كبيرة باعتقالنا، وهزه تصرف المواطنون في موقف مواصلات أبو كرشولا ، حين تجمع أقارب وأهل الاستاذ فيصل حميدان، مستنكرين إعتقالنا، وانفعلوا بشدة، لمنظرنا ونحن محروسين بالأسلحة والبنادق، كأننا أرتكبنا جرما، رغم أن المجرمين كانوا معروفين.
بعد فترة من تحركنا من أبوكرشولا، استسلم أبيض لقدره، و لأخلاقنا السودانية، وسلمنا بندقيته، لأنه كان يركب في حافة السيارة، وفي قريتهم الصغيرة في سفح جبل الدائر الجنوبي، توفقنا في منزلهم، واستضافنا في راكوبة متواضعة، وأكرمنا كعادة أهل القرى بالموجود. ولم ندر أين ذهب ضباط الأمن الذين كانوا معنا في السيارة، ولكنهم عادوا بعد فترة، قضوها داخل القرية، واصلنا بعدها الرحلة إلى المجهول، عبر هبيلا والسماسم، وتجاوزنا مدينة الدلنج، عبر غابات وطرق فرعية، حتى تلك اللحظة لم نكن نعلم وجهتنا، استقلبتنا زنازين أمن مدينة كادقلي في جنح الظلام، وجدناها مكتظة عن آخرها، كان في غرفتنا 13 معتقل، ينامون وقوفا على أرجلهم أحيانا، بعضهم متهم بالتعاون مع “التمرد” والتجارة في أسواق السمبك، وآخرين متهمون بالتستر على تحركات الحركة الشعبية واستضافة طلائعها في فرقانهم حول كادقلي، الغائب محمود، وحمدوك، ويحيي داؤود، وجان فنجان، وموسى المصارع من الريكة، وأحد أبناء المورو بصوته العذب. ومن المفارقات أن المجاهدين الذين كانوا يذهبون إلى جبهات الحرب، يعودون من هناك، وهم يغنون أغاني المتمردين الحزينة بالربابة، جليلة..يا جليلة… المهم كان المحبوسين يطلقون على مدير جهاز أمن كادقلي، الكروشابي (نكير) وحين يأتي أحيانا متفقدا المواطنين القادمين من مناطق التمرد، أو الذين يتم القبض عليهم في كادقلي وهم يتاهبون للعودة في طريقهم إلى قراهم التي تقع تحت سيطرة الحركة، تشعر بالمفارقة وتتذكر قانون المناطق المقفولة، والخواجة مستر صن.
( 4)
سمعنا وعشنا في تلك الزنازين أهوال وفظائع، تحتاج لمساحات أوسع من حيز هذا المقال، بقينا شهورا في معتقلات كادقلي، تحت ضيافة من وجدناهم قبلنا، ما بخلوا علينا بشيء، تقاسموا معنا المعاناة والتعذيب والعذاب واللقمة والآمال العريضة، والدعوة على الظالمين،فالمصائب تجمع المصابينا، ومن المفارقات العجيبة،التي تدعو للتأمل في الحياة، أن أنضم لنا في المعتقل شقيق المبدع يحيي فضل الله الأصغر ويسمى الفاتح، الذي كان مدخلنا لمعرفة كادقلي، في ذاكرة يحيي ومنه سمعنا تفاصيل أخرى عن شخصية صاحب التداعيات، والصدف والمفارقات في التاريخ لم تتوقف، كان بكادقلي عدد مقدر من قيادات الكيزان، في مواقع ومناصب مختلفة، عثمان قادم، الشيخ آدم الخليل، النور محمد يس، حماد على أحمد، ممن يعرفون أربعتنا، حق المعرفة، ويعرفون أهلنا، وقد يكونوا من الذين ساهموا في قرار اعتقالنا، وهم على علم، بأننا لا نعرف أي جهة في المدينة، يمكن أن تقدم لنا مساعدة، أو تمدنا بالضروريات الملحة، أو تخبر أهلنا وأسرنا بأوضاعنا المأساوية، إلا أنهم (تغابوا فينا العرفة) كما يقول المثل وتحاشوا حتى مجرد السؤال عن الجريمة، التي ساقتنا الى هذه الزنازين، و لكن العزاء أن الكيزان في كل السودان إخوان، وملة واحدة، يجمعهم الخبث وحب التآمر والغدر والخيانة وعدم الأمان.
(5)
داخل السجن، قيض الله لنا، من حيث لا نعلم، الأخ إلياس محمد باسو، جارنا في الحي، الذي لم أكن أعلم أنه التحق بجهاز الأمن، وأنه يعمل في كادقلي، وهو صغير السن، ولكنه تحمل بشهامة ونبل جديرين بالتقدير، توفير بعض مستلزماتنا الصغيرة، من صابون وغسيل واسعافات أولية، دون أن نطلب منه ذلك، حتى خفنا أن يسبب له ذلك مشكلات، نعرف أن عواقبها من الخطورة بمكان، ويمكن أن تصل حد الإعدام، مع أولئك القتلة، ولكن الفتى لم يكترث، لتحذيراتنا المتكررة، فالحافظ الله، وكانت وصايا أمه، التي ظلت تنقل عبره للوالدة أخبارنا باستمرار، حتى عودتنا من تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر، وكل الاحتمالات المتشائمة.
(6)
من شباك الزنزانة الشمالي كنا نتابع، ونشاهد تبلدية من زمن الصيف، فروعها كالضلوع على حد وصف الشاعر جعفر محمد عثمان، للتبلدية في معهد التربية بالدلنج، بعد نزول المطر، عطرتنا روائح الدعاش، وبدأت الأوراق تكبر رويدا رويدا، وتخضر كل يوم، حتى كست فروع وضلوع التبلدية، تأكدنا عندها أن موسم الخريف قد حل بهذه الديار، لأننا أحيانا لا نرى الشمس، لفترات طويلة، أو لا تفتح الزنزانة إلا ليلا، وحين قررت سلطة الخرطوم إطلاق سراح المعتقلين في كل السودان، تذكرونا أخيرا، خرجنا من زنازين المدينة بالحراسة، إلى مكاتب أمن الولاية، اشكالنا كأهل الكهف، شعورنا كثة، وأقدامنا لا تقوى على حمل أجسامنا، وأجسامنا ترفض ضوء الشمس وحرارتها، ولا نعرف الاتجاهات، ولا أي معلم في المدينة، ومن المفارقات أن وجدنا في مكتب مدير الجهاز الوزير حينها الاستاذ: الكوز حماد علي أحمد، وزير الصحة، وبعد مقدمات مدير الأمن وتهديده المغلظ، أبقوني في المكتب وحدي، قال الوزير حماد، وأنا أشبه بالخارجين من حفر الآبار والسواني، منهك القوى، ويغالبني النعسان، قال بأنه يريد أن يناقشني في الفكر القومي، وأفول نجمه، بموت جمال عبدالناصر، وأن المستقبل للحركة الاسلامية، قلت له وأشهد الله على ذلك وفي حضور مدير الجهاز، أنا مازلت معتقلا، ولا رأي لسجين، وأنت ترى الآن هيئتي، وأعاني في المشي ، ولكن أقبل التحدي، فلتعلنوا لندوة في ميدان عام، بالمدينة لحوار فكري وسياسي، أنا مستعد لذلك، فبهت الرجل، وحاول أن يخرج من الحديث بأنه أعد لنا وجبة إفطار في منزله، قبل أن نغادر إلى أهلنا، واذا كان ابنه ضابط القوات المسلحة، يمتلك فضل علي، غير هذه القصة التي سردتها، فليقلها، وأن لا يحدثنا عن الأخلاق، والتعامل مع الخصوم. خلال وجودنا في مكاتب الأمن دخل وخرج عبدالوهاب أدروب الذي ظهر في السنوات الأخيرة، ضمن مجموعات الشرق المعارضة، وقصته من المفارقات العجيبة، سنأتي لها في حلقة أخرى إن شاء الله، بعدها خرجنا من مكاتب الأمن، سألت عن السوق، وقلت لرفاق السجن، سنأنتظركم في الشارع، وأوصفت لهم المكان، قبالة الزنازين التي كنا فيها قبل لحظات، وهناك بدأت أتامل في المدينة ومعالمها، وأتلمس الاتجاهات والشوارع واتحسس حواس البصر والشم واللمس عندي، وأتذكر تداعيات يحيي فضل الله، قبل أن يصلني الأخوة ونغادر إلى الأبيض في طريقنا إلي أهلنا وأسرنا.
للقصة بقية.