عنصرية المركز الإسلامو عروبي و مخاطر تفكك الدولة السودانية(2)

عيسى مرفعين

 

الأثار الاجتماعية و النفسية الناجمة من الحرب العنصرية و الصراعات العريقة ضد اقاليم الهامش.
فى المقال السابق تناولنا الحملة الممنهجة التى تتعرض لها اقاليم الهامش و انقسام الوجدان و المشاعر الوطنية والاستثمار على هذا الانقسام فى تجيش والتهشيد العنصري.
فى هذا الجزء من المقال ، نستعرض الأثار النفسية و الاجتماعية التى خلفتها هذه الحروب باعتبارها الجوانب الاخطر و المسكوت عنها دوما، و هذا ما يدفعنا لمناشدة كل الكتاب و المهتمين بعلم النفس و الاجتماع لبحث التعميق فيها وكتابة بحوث و دراسات مختصة لمعرفة الآثر النفسي للضحايا، خاصة ان الجانب النفسي يعتبر غرفة التحكم السلوكي فى تشكيل الوعي في الاتجاهات السياسية، خاصة عندما تكون الحرب عنصرية و ضد مجموعات محددة و الان اكتشفت تلك المجتمعات خطر إلغائها وإنهائها من الوجود.
في بلد مثل السودان, الذى شهد أطول حرب أهلية فى افريقيا، منذ العام ١٩٥٥م اي قبل سنة من استقلال السودان، حيث قاتل فيها الجنوبيين ما يقارب 50 عاما حتى ضاعت آمالهم في الخلاص و المصالحةالوطنية و قرروا الإبتعاد و الاستقلال عام 2011, و لا يزال يعانى ما تبقى من اقاليم هامش السودان من نفس الاسباب التي دفعت الجنوب الي الانفصال وهذه الاسباب تزداد يوماً بعد يوم, حتى صار في كلّ أسرة شهيدين أو أكثر, و اعداد كثيرة من المفقودين، والنازحين و اللاجئين، داخل و خارج السودان. مثل هذه الحروب تترك آثار عميقة وجراح لا تندمل و ألم لا ينتهى.

كنا شهود عيان عندما اندلعت الحرب الثانيهة فى جبال النوبة ٦ يونيو ٢٠١١م شهدنا آلاف الأسر من كادقلى و الدلنج نزحوا من بيوتهم مرغمين بسبب إنتمائهم العرقي و السياسي تاركين ممتلكاتهم وذكرياتهم وبيوتهم تنهب فى وضح النهار و تكررت هذه الإحداث فى مدن كثيرة و رأينا استهداف المدنيين ، الذين تعتبرهم الخرطوم أعداء محتملين لسلطتها فى المركز، و سقط اعداد كبيرة من المدنيين الأبرياء امام ابصارنا بنيران الجيش السوداني ومليشياته ، هذه الجرائم ترتقي لمستوي جرائم الحرب وهذه الفظائع ومعاناة خلفت صدمة واسعة النطاق وضغوطًات نفسية وعاطفية و إجتماعية كبيرة للضحايا و أسرهم.

توثيقا لهذه المعاناة كنت باحث اجتماعي لاحدي المنظمات الدولية (Nonviolent Pece Force) قسم الحماية Protection فى معسكر ايدا للاجئين كنا نرصد تحركات اللاجئين و معاناتهم اثناء عبرهم الحدود سيرا على الاقدام حيث كان الأطفال و النساء و العجزة أكثر عرضة للمخاطر فى ظروف بالغة الخطورة و كانت تحاصرهم الطائرات الانتنوف والقصف الأرضي من ناحية ، وامطار الخريف من ناحية أخرى و منهم من انفصل من ذويه و منهم من فارق الحياة فى منتصف الطريق، هناك اسرة مكونة من تسعة أفراد لم يبقَ منهم سوى أم و طفلين ،يعيشون وحدهم يتجرّعون مرارة الأيام وذكرياتٍ التي قضوها في ذاك البيت الجميل مع بعضهم كاسرة مثالية فى قرية كرجي بمقاطعة امدورين، و أسر اخري تشردت و انهارت المجتمعات التى كانت متماسكة بوحداتها الأسرية و نظامها الاهلي الان تقطعت بهم السبل وأصبحت الهواتف النقالة الوسيلة الوحيدة للتواصل مع أسرهم، أبنائهم وأحبابهم رغم أن هذه الهواتف لا تستطيع إيصال المشاعر والمعاناة الحقيقية لكل منهم لكنها اخفى قدرا, فهناك من لا يمتلكون تلك الهواتف او الشبكة الانترنت فى التواصل لاشفاء القليل من معاناتهم، و اخرين نزحوا فى داخل مدن السودان يعيشون المآسي بأنواعها المختلفة، و اللاجئين خارج السودان أرواحهم لا تزال تعيش بين أسرهم في الوطن وأجسادهم في الغربة تعانى الوحدة فى مجتمعات لا ينتمون إليها و فى بعض الاحيان يعتبرونهم عبأ اجتماعيا واقتصاديا عليهم.
تجربتى الثانية تاتى فى نفس السياق داخل المناطق المحررة كباحث اجتماعي، و هنالك أسرة كبيرة فى هيبان مكونة من ام و اب و سبعة أطفال كانت بالأمس القريب يُضرب بها المثل فى كرمها وطيبتها لكن فى حادثة مجزرة هيبان لم يتبقى من هذه الأسرة غير الأم و الاب فاستشهد كل الأبناء فى غارة جوية واحدة، فى أفظع و أبشع انواع الجرائم ضد الانسانية ولاتزال هذه الصورة تسيطر على عقول سكان مدينة هيبان و جبال النوبة بصفه عامة،.
وحتى كتابة هذا المقال لم تتعافى هذه الأسرة المنكوبة من صدمة الحادث الأليم و لايزال أصدقاء الأطفال واقرانهم يتسألون عن تفسيرًا منطقيًا للواقع الأليم الذي وُجدوا فيه؟ و لماذا حدث ذالك!؟ وهناك أسر كثيرة منهم من فقد الابن و الابنة او الاب بسبب قصف طيران الانتنوف، الميج، الساخوي و صوارويخ الشهاب.
و الامهات يتتضرون الألم يزرفون الدم ووالدموع حتى صار الأمهات في جبال النوبة كجثث .
هؤلاء الامهات يعيشون ظروف ماساوية بسبب تركهن أبنائهم بدون رجعة, وهنالك العشرات من القصص الماساوية التي لا تُحصى ، وكلها توضّح المآسي التي يعيشها أهلنا فى جبال النوبة، النيل الازرق و دارفور, جراءالحرب العنصريةالتى تدار ضدهم من مركز السلطة فى الخرطوم،و صارت المأساة جزء من حياتهم ، وما عاد يهمهم الفرح بشئ فالأعياد و المناسبات تأتي بدون طعم ، بل فقط تقلب لهم المواجع و الجرح القديم المتجددة، يتذكّرون أولادهم وأخوتهم و آبائهم يزكرون تلك الأيام الخوالى عندما كانوا فى بيوتهم الدافئة يملؤون حياتهم بالأفراح المحبه، و الان لا يستطيعون حتى زيارة قبور أبنائهم الذين استشهدوا فى ريان شبابهم، ولا أحد يعرف متى تتوقف هذه الحرب!؟ و متى تتوقف دموع الأمهات!؟.

هذه الحروب و الصراعات العريقة التى يشنها المركز الإسلامو عروبي تأثرت بشكل كبير فى المجتمعات، الأسر والافراد، بالأخص الشباب و المراهقون فيقع التأثير الأكبر عليهم سلبيًا على الصعيد السلوكي، حيث إن الشاب او المراهق يعيشون مرحلة الثورة والانقلاب على الواقع وبالتالي فان هذه الحرب العنصرية قد تزوده بصورة قد تكون مشوهة عن الثورة المنشودة.
الاخطر من ذالك هناك جرائم ارتكبت باسم الدين، اخري بدافع اللون و العرق، هناك فتاوي جهاد ضد شعب النوبة و حتى الان لن تلقى هذه الفتاوى بمعني انها ساريه المفعول، فطبيعي نشاهد عمليات القتل و التنكيل و سياسة الأرض المحروقة، التطهيرالعرقي مستمرة إلى يوما هذا.

يجب على كل النخب السياسية فى السودان باحزابهم و طوائفهم الإجابة على السؤال الجوهري ما هي جريمة ابناء الهامش؟ هل المطالبة بالحقوق الأساسية للحياة الكريمة جريمة؟ ماذا يقولون للامهات الذين فقدوا أبنائهم و ازاوجهم و يتألمؤن بصمت؟ و ماذا ان تساؤلات الأطفال لفهم ما يدور حولهم من موت ضياع فرص التعليم و التنمية؟ ماذا قدمت هذا النخب لوحدة السودان من أساسه!؟.

الحركة الشعبيه لها مشروع وطني كبير متمثل فى ( رؤية السودان الجديد) و متجسد فى المنفستو و الدستور، تري فيه إعادة هيكلة الدولة السودانية باسس جديدة و يجب ان يقبل السودانيين أنفسهم و يعترفوا بالتنوع التاريخي و المعاصر و إدارة التنوع الموجود في الدولة السودانية و صيانة حقوق الإنسان الأساسية و بناء دولة علمانية قوية قابلة على الحياة و إزالته كل مسببات الحروب فى السودان. و لا زالت الفرصة مواتية بوجود الرعيل الأول من المناضلين أمثال القادة عبدالعزيز الحلو، جزيف توكا، جقود مكوار، عزت كوكو و اخرين من الحرس القديم يميلون أكثر لوحدة السودان و أكثر تعاطفًا وانفتاحًا مع الغير وتفهمًا على طبيعة الصراع السياسي فى الدولةالسودانية، لان وعيهم السياسي القومي تشكل فى زمن و ظروف مختلفة.
بالمقابل هناك جيل جديد التحق بركب الثورة و النضال بعد اتفاقية وقف اطلاق النار بسويسرا 2001 و اخرين بعد الحرب الثانيه 2011 و حتى الان لازال الشباب يتوافدون إلى معسكر الجيش الشعبي، هذا جيل تعرض لكافة أشكال العنف و الإساءة و الاضطهاد هى الاخري شكلت فيهم وعي السياسي الانفصالى، و هذا الجيل يشكل حضور كبير في كل الاصعدة سوي كانت فى الخدمة المدنية، العسكرية او الحياة السياسية، لا تربطهم اي مشاعر أو وجدان مشترك مع ابناء الوسط و الشمال النيلى.
كنا نعتقد بعد سقوط نظام البشير فرصة تاريخية لتوافق، ان الحكومة الانقالية فى السودان تتوصل على تسوية سياسية شاملة و معالجة جذور المشكله السودانية مع قيادة الحركة الشعبية المعتدلة ذو التوجه القومي قبل فوات الأوان، و قضية فصل الدين عن الدولة أو العلمانية هو الحد الادنى لانصاف الضحايا الذين اهدرت أرواحهم و اغتصبت أراضيهم باسم الدين، لكن يبدو أن التيار الانفصالي الشمالي الذى فصل الجنوب لايزال يتحكم في خيوط اللعبة و المشهد السياسي و الان يعمل بكل جهد على فصل جنوب الجديد.
فى المقال القادم سوف نتناول عقلية الانفصالين الشماليين.
و لنا عودة…….

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.