نحو الآفاق المستقبلية للتسوية السياسية السودانية

✍🏿: برير إسماعيل

 

حول التسوية السياسية السودانية الجارية الآن و قرائن ملامح إعادة إنتاج الأزمة السودانية التاريخية عبرها ما لم يعد تحالف قِوى الحرية و التغيير المجلس المركزي النظر فيها قبل فوات الأوان مستفيداً من التجارب المريرة و المخيبة للآمال و الطموحات للتسوية السياسية التي جاءت بها الوثيقة الدستورية التي مكَّنت بدورها اللجنة الأمنية لنظام الجبهة الإسلامية القومية من إحكام قبضتها على مقاليد السلطة في السودان.

في البدء من حيث المبدأ لابد من التأكيد على أن التسوية السياسية جزءٌ أصيلٌ و هام جداً في مشوار النضالين السياسي المدني السِّلمي و السياسي/ المسلح.

التسوية السودانية المستقبلية لا مفر منها و لكنها ستكون محتاجة لتوافق ثوري و سياسي و كما أنها في حاجة ماسة لوحدة الحركة الجماهيرية للإلتفاف حولها لتحقيق الأهداف الإستراتيجية العليا التي ثار و ضحى من أجلها الديمسبريون و الديسمبريات عبر تراكم نضالي سِّلمي و مسلح ظلَّ ممتداً لعشرات السنين.

ليس هنا أدنى شكك حول الأهداف النبيلة للذين إختاروا التسوية السياسية الجارية الآن و لكن ستثبت التجربة العملية لهؤلاء الذين يريدون تجريب المجرِّب بأن التسوية السياسية السابقة قد ساهمت في مد عُمر نظام اللجنة الأمنية المسنود بأجهزته القمعية و بمليشياته العسكرية و في ذات السياق أثبتت التجربة العملية أيضاً أن الأهداف الإستراتيجية الكبرى للجنة الأمنية الممسكة بمقاليد السلطة هي تقسيم وحدة الحركة الجماهيرية و وحدة قواها السياسية و المدنيَّة المناضلة من أجل إقامة دولة المواطنة و هذا يعني ببساطة شديدة أن هدف اللجنة الأمنية الرئيس من التسوية السياسية الخالية من التوافق الثوري و السياسي و من السند الجماهيري الكبير هو تقسيم المقسم ثورياً و سياسياً و مدنيَّاً للإستمرار في السلطة.

تاريخياً في الحالة السودانية إرتبطت التسويات السياسية بالإستهبال و الإحتيال السياسين اللذين يُقدم عليهما دائماً الطرف الذي يكون ممسكاً بمقاليد السلطة في البلد لوحده قبل جنوحه للتسوية السياسية بصورة تكتيكية هدفها الأساسي ترتيب أوراقه التآمرية ضد المواطنين/ات المناوئين/ات لسياساته القمعية و الإجرامية.

بكل تأكيد نقول إنَّ السبب المركزي لجنوح السلطة الإنقلابية الحالية في السودان للتسوية السياسية تكتيكياً مرتبط بالأوضاع السياسية و الديبلوماسية الإقليمية و الدولية و بالضغط الذي تمارسه الحركة الجماهيرية الثائرة ضد ذات السلطة الإنقلابية.

يمكن للناس أن تتناول نماذجاً عديدةً للإحتيال و الإلتفاف السياسين اللذين أقدمت عليهما سلطة الأمر الواقع في السودان من خلال ذكرها لعدد من التسويات السياسية السودانية التي كانت غالبية مآلاتها النهائية صفرية بل سيلاحظ الثوار و الثائرات بأن هذه التسويات التاريخية قد ساهمت بدرجة الإمتياز في إعادة إنتاج الأزمة في البلد من جديد و لنذكر على سبيل المثال لا الحصر التسوية السياسية التي كانت بإسم إتفاقية أديس أبابا في عام 1972م و التسوية السياسية التي كانت بإسم المصالحة الوطنية في عام 1977م و التسوية السياسية التي كانت بإسم إتفاقية الخرطوم للسلام في عام 1997م و كُبرى التسويات السياسية السودانية التي كانت بإسم إتفاقية السلام الشامل COMPERHENSIVE PEACE AGREEMENT في عام 2005م و أخيراً التسوية السياسية التي كانت بإسم الوثيقة الدستورية في عام 2019م.

التاريخ المعاصر أوضح إحتيال و إلتفاف السلطة المركزية السودانية على أهداف الحركة الجماهيرية السودانية الثائرة و أبان ذات التاريخ العمل الذي قام به المحتالون الإنقلابيون لقطع الطريق على عملية التغيير التي تتناسب و حجم التضحيات العظيمة التي قدمتها الحركة الجماهيرية الأمر الذي جعل قِوى الثورة العريضة تتشكك في كل خطوة تُقدم عليها القيادة السياسية في إتجاه التسوية التي تجنح إليها سلطة الأمر الواقع المحتالة سياسياً و صاحبة السجل الإجرامي كما هو حادث الآن في السودان.

الكثير من التسويات السياسية السودانية الموغلة في خداع و إستهبال سلطة الأمر الواقع التي تمَّ ذكرها هنا ربما لم يتذكرها الجيل الديسمبري الحالي و لكن هذا الجيل الثائر لن يغفر و لن ينسى عملية الإحتيال السياسي العظمى التي حدثت له جراء التسوية السياسية التي جاءت بها الوثيقة الدستورية و من هنا جاء تشكيك الحركة الجماهيرية الثائرة مجدداً في التسوية السياسية التي ستُقدم عليها ذات القيادة السياسية التي جاءت بتسوية الوثيقة الدستورية التي كانت مآلاتها النهائية كارثية لجملة من الأسباب التي يصعب ذكرها في هذا المقال .

إنَّ الرفض المُسبب للتسوية السياسية الجارية الآن في السودان حق مشروع لكل مواطن و مواطنة و ليس بمنحة من أحد و هناك عشرات الأسباب الموضوعية لرفضها و لكن ليس من بين هذه الأسباب توجيه الإتهامات و الشتائم السياسية للآخرين الذين إختاروا التسوية السياسية مجدداً و بناءً على تقديراتهم السياسية التي لا يتفق معهم فيها الرافضون و الرافضات لذات التسوية التي بشَّر بها تحالف قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي في مؤتمره الأخير.

لم يطلب الذين إختاروا التسوية السياسية الحالية من قِوى الثورة العريضة الرافضة لها أن توقف كل شيء لتنتظر مآلاتها النهائية بل ليس من مصلحة دعاة هذه التسوية الجارية الآن في شيء و في ظل غياب السند الجماهيري الكبير و التوافق الثوري و السياسي على مستوى كل السودان الإقدام على أي خطوة سياسية مفادها أن توقف الحركة الجماهيرية نضالاتها في إنتظار ما تُسفر عنه مآلات التسوية.

الجدير بالذكر أن التسوية السياسية الحالية ليست بالشر المطلق لأنها ستوفر للحركة الجماهيرية الثائرة صاحبة الكلمة الأولى و الأخيرة في الصراع السياسي و الثقافي و الإقتصادي و الإثني و الديني …إلخ في السودان فرصة كبيرة لترتيب أوراقها الثورية و السياسية من جديد و سيكون المد الجماهيري الثوري كفيلاً بالقضاء على أية تسوية سياسية لا تستطيع أن تكون في مستوى تطلعات و آمال الحركة الجماهيرية و ستعمل الجماهير الثائرة على عدم تكرار النتائج الصفرية للتسويات السياسية السابقة و التي كانت آخرها تسوية الوثيقة الدستورية.

التسوية السياسية الجارية الآن إستخدمت فيها القيادة السياسية المعنية بها ذات المقدمات و الأدوات التي تسببت في حدوث المآلات الكارثية للتسويات السياسية التي سبقتها و من بين هذه المقدمات: قالوا لنا و قلنا لهم و إتفقنا على كذا و إختلفنا حول كذا في ظل غياب الطرف الرئيس الممسك بمفاتيح كل شيء.

كان لِزاماً على تحالف قِوى الحرية و التغيير المجلس المركزي إبتكار وسائل جديدة أكثر شفافية و وضوحاً تشارك عبرها جميع مكوِّنات قِوى الثورة العريضة قبل الدخول في تسوية جديدة مع ذات اللجنة الأمنية الإنقلابية الحاكمة الآن.

وفقاً للمقدمات السياسية الحالية التي أقدمت عليها قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي لن تكون التسوية السياسية الجارية الآن في مستوى طموحات و تطلعات و آمال الحركة الجماهيرية الثائرة و هناك قرائن كثيرة تؤكد بأن مآلات التسوية الحالية النهائية ستكون في صالح المنظومة الإنقلابية.

الحديث عن تحقيق العدالتين الإنتقالية و الجنائية عبر التسوية السياسية الجارية الآن حديث غير مفصَّل و كل المؤشرات تؤكد بأنه لن تتم محاكمة كبار القيادات العسكرية و الأمنية و الشُرطية التي إرتكبت عدداً كبيراً من الجرائم الجنائية و السياسية و الإقتصادية في حق البلد و في حق مواطنيها و مواطناتها ما دام ذات القيادات العسكرية و الأمنية و الشُرطية ستكون هي الخصم و الحكم في نفس الوقت.

لن تستطيع التسوية السياسية الجارية الآن حل مليشيا الدعم السريع و كما أنها لن تستطيع إعادة ترتيب أوراق الجيش السوداني العقائدي و المؤدلج لصالح الجيش السوداني المستقبلي المحترف و الذي يجب أن تكون له مهام قتالية محددة بناءً على القرار السياسي و السيادي في البلد حتى يكون هذا الجيش محترفاً و على مسافة واحدة من كل المواطنين و المواطنات في أجزاء السودان.

التسوية السياسية الجارية الآن وفقاً للمعطيات السياسية على الأرض و التي يملكها دعاة التسوية الجارية الآن لن تستطيع تسليم المطلوبين دولياً للاهاي لإسترداد حقوق ضحايا حروب الإبادات الجماعية و للوقوف مع أهاليهم و مع ضحايا جريمة فض الإعتصام و مع الضحايا في كل من الجنينة و فتابرنو و نيرتتي و كسلا و بورتسودان و مدني و المقينص …إلخ و أخيراً تسليمهم للمساهمة في تحقيق العدالة الدولية.

التسوية السياسية الجارية الآن لن تساهم في إعادة ترتيب أوراق المؤسسات العسكرية و الأمنية و الشُرطية لأن قيادات اللجنة الأمنية و قيادات مليشياتها المقاتلة لشعبها و المرتزقة خارجياً في اليمن على وجه التحديد برفقة الجيش ستظل مسيطرة على صناعة القرارات و على كل تفاصيل هذه الأجهزة العسكرية و الأمنية التي ستوظفها ذات اللجنة الأمنية لقمع المتظاهرين/ات ضد سلطة الأمر الواقع بصورة راتبة تحت سمع و بصر الذين سيوقعون على التسوية السياسية الحالية و الذين سيكونون في السلطة بطريقة صُورية مهما حسنت نواياهم و أخلصوا لقضاياهم و ستكون الأوضاع العامة في البلد كما كانت إبان فترة السلطة السياسية القائمة وفقاً للوثيقة الدستورية.

التسوية السياسية الحالية لن تستطيع إعادة القوات العسكرية السودانية المرتزقة في اليمن للسودان لأنَّ دول محور الشر العربي المتمثلة في السعودية و مصر و الأمارات و قطر لن تكون جادة في دعم عملية التغيير الحقيقي في السودان.

التسوية السياسية الجارية الآن لن يستطيع بموجبها الذين سيوقعون عليها و بسبب غياب الإجماع/التوافق الثوري و السياسي و السند الجماهيري الكبير إعادة الأموال التي تسيطر عليها المؤسسات العسكرية و الأمنية و الشُرطية التي أدلجتها الجبهة الإسلامية القومية إبان سنوات حكمها التي بدأت منذ إنقلابها في 30 يونيو 1989م و المستمرة حتى الآن إعادتها للحزينة العامة لتشرف عليها السلطة المدنيَّة الحقيقية في الدولة وفقاً لأولوياتها.

الخلاصات تقول فرض عين على كل مكوِّنات قِوى الثورة العريضة عدم رفض و شيطنة التسوية السياسية من حيث المبدأ لأنها الحل الوحيد للوصول لحلول سياسية دائمة في السودان إن كُنَّا نخوض نضالاً مدنيَّاً سِلِّمياً أو نضالاً سياسياً/مسلحاً ضد السلطة المركزية. و التاريخ النضالي السوداني المعاصر يقول لم يكن هناك رابح في الحرب و لم تستطع أية جهة سودانية مناضلة نضالاً مسلحاً حتى الآن تحقيق كل أهدافها عبر النضال المسلح بعد أن أضطرت بعض القوى السياسية/ المسلحة للجوء إلى النضال المسلح دفاعاً عن حقها في الوجود.

الخلاصات تقول فرض عين على كل القِوى السياسية و المدنيَّة المحسوبة على الثورة وقف التراشق و الإتهامات و الملاسنات السياسية فيما بينها لكي تظل أبواب الحوار بينها مفتوحة إلى الأبد لأن السلطة الإنقلابية الحالية سوف تواصل في عملية الإستثمار السياسي الرخيص في هذه الخلافات السياسية العبثية الدائرية. و في نفس الوقت لابد للجميع من أن يضعوا حدوداً فاصلة ما بين التقديرات السياسية الخاطئة لبعض القِوى المحسوبة على الثورة و بين خيانة البعض للأهداف النبيلة للثورة.

الخلاصات تقول ليس من الحكمة السياسية في شيء أن يتحدث الذين أعلنوا عن الخطوة الأولى نحو تحقيق التسوية السياسية أن يتحدثوا بشيء من الأستاذية و المرجعية العليا للإتفاقيات السودانية لأنهم قدموا أنفسهم كساسة يملكون الأقلام الحمراء لتصحيح إتفاقيات سلام جوبا و كان الأفضل لهم كساسة محترفين أن يتحدثوا عن نواقص الوثيقة الدستورية الكارثية التي أتوا بها و عن غياب آليات تنفيذها رغم عللها الكثيرة و عن غياب الجداول و السقوفات الزمنية لهيكلة المؤسسات العسكرية و الأمنية و الشُرطية و عن شرعنة مليشيا الدعم السريع في ذات الوثيقة و عن غياب العدالة طيلة الفترة التي حكمت فيها قوى الحرية و التغيير السودان و عن عدم تسليم المطلوبين دولياً و عن إمتلاك المؤسسات العسكرية لنسبة 82% من إقتصاديات البلد و عن عدم تكوين المجلس التشريعي …إلخ و إن كان لابد من حديث عن إتفاقيات سلام جوبا فالأفضل أن يتحدثوا عن تطبيق الإتفاقيات على الأرض و في أثناء هذا التطبيق الذي يجب أن تقوم به سلطة مدنيَّة حقيقية و ليست صُورية ستتم دون أدنى شكك معالجة أوجه القصور العديدة في الوثيقة الدستورية و في كل الإتفاقيات معاً لأن إتفاقيات سلام جوبا وجدت المشهد السياسي بسبب الوثيقة الدستورية المُعيبة عايراً و أعطته سوطاً بمعنى آخر أن الأصل الذي ساهم في عرقلة مسيرة الثورة كانت الوثيقة الدستورية.

إنَّ الحديث السياسي عن إتفاقيات سلام جوبا و بعيداً عن القيام بدور الأستاذية السياسية و المرجعية التاريخية المصححة للإتفاقيات السودانية سيساهم بالضرورة في توسعة دائرة الإلتفاف حول التسوية السياسية المستقبلية القادمة وفقاً لمقدمات و عِدة شغل سياسية جديدة و لكن يبدو أن المتحدثين في مؤتمر تحالف قوى الحرية و التغيير المجلس المركزي الأساتذة الأجلاء ياسر عرمان و الواثق البرير و طه عثمان و جعفر حسن لم ينسوا شيئاً و لم يتعلموا من تجاربهم السياسية بعد إستلامهم للسلطة الصُّورية بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية حينها إستثمرت اللجنة الأمنية الحاكمة الآن و إستثمر حلفاؤها في الداخل و الخارج معاً في الخلافات العبثية ما بين الجبهة الثورية و غالبية مكوِّنات تحالف قوى الحرية و التغيير عندما كان هذا التحالف مُوحَّداً و كانت النتيجة النهائية لهذه الصراعات السياسية الدائرية الخسران المبين لكل الأطراف المتصارعة و المحسوبة على الثورة.

الخلاصات تقول إنَّ التسوية السياسية السودانية المستقبلية قادمة و لكنها لن تكون كسابقاتها و سيكون عليها في الغالب الأعم إجماع ثوري و سياسي و إلتفاف جماهيري عريض و بالحد الأدني سيكون عليها توافق ثوري و سياسي و إلتفاف جماهيري عظيم ليقوم بدور الرقيب الحقيقي على كل خطوة تُقدم عليها الحكومة المدنيَّة القادمة.

الخلاصات تقول لن تعود الأوضاع السياسية السودان للوراء بفضل نضالات شعوبه الثائرة و إن طالت رحلة السفر في إتجاه تحقيق دولة المواطنة و لن تقبل الحركة الجماهيرية السودانية العظيمة بتسوية سياسية تكون لمليشيا الدعم السريع و لمليشيا الجيش الحالية و للأجهزة الأمنية و الشُرطية التي عملت الجبهة الإسلامية القومية على أدلجتها الكلمة الأولى و الأخيرة.

الخلاصات تقول إنَّ النصر أكيد و أنَّ الثورة السودانية ستظل مستمرة إلى أن تحقق كل الأهداف النبيلة التي ضحى من أجلها الشهداء و الشهيدات و الثوار و الثائرات و عليه لن تستطيع أية تسوية سياسية في السودان لا تستطيع أن تُلبي طموحات و تطلعات و آمال جماهيرها المليونية أن توقف قطارها .

برير إسماعيل

كارديف- 18 نوڤمبر 2022م.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.