الجنجويد – مأزق البقر أم لعنة البشر! (1)

بقلم/ مراد موديا

الياواك (لقاوا)

(أهون لجمل أن يمرَّ من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله)
عبد العزيز بركة ساكن

تمهيد:
الحروب والصراعات التي تدور في السودان منذ ما يناهز السبعة عقود، تكاد ان تكون متصلة عدا استثناءات متفرقة حدثت نتيجة لاتفاقات “السلام” التي أشبه ما تكون ببركان لا يكاد يخمد ويهدئ حتى يعود من جديد ويتطاير حمماً مهلكة. هذه الصراعات والحروب لا يمكن إفراغها او تحييدها من دائرة حروب الهويات التي أثرت بشكل عميق ومباشر على طبيعة الصراعات والحروب في السودان وفي مآلاتها بذات القدر. ولا يمكن لعاقل يخاطر لحل جذور المشكل السوداني دون ان يخاطب قضية الهوية ومآلاتها في الحروب التي لا يزال المركز يصممها وينفق عليها ويديرها بعنصرية بغيضة ضد السكان الأصليين في كل أرجاء السودان، مما أدى إلى اشعال أزمة الهوية بشكل عميق وتغذية الكراهية بين الناس وتدويرهم في دوائر مفرغة تعتمد الكراهية كمعيار في حال اختلافات الطوية – مؤمن، كافر – مسيحي، مسلم، يهودي… او في حال الاختلافات الفيزيائية – اسود، ابيض… او الاثنية – افارقة وعرب…الخ هذه الأمور التي استعصى فهمها على عقول حكام الخرطوم فعميت عليهم الأنباء فصاروا في حالةً من الإبلاس والحيرة، جعلت حكام الخرطوم من المولاتوس يتساوون في العجز والحيرة وظهر فشلهم في تقديم رؤية واضحة المعالم لتشكيل هوية وطنية محترمة يتسابق السودانيات والسودانيين الى الدفاع عنها.

يجدر بالذكر أن الحركة الشعبية لتحرير السودان يعتبر التنظيم الرائد الذي قدم رؤية واضحة تعالج جذور مشكل الهوية ضمن جذور المشكل السوداني المعقد، الهوية السودانوية المتعددة التي تقوم على التنوع التاريخي والمعاصر ما بين السكان الأصليين أنفسهم من جهة وبين هؤلاء الذين قدموا الى السودان عبر هجرات بشرية متفرقة ولأسباب متباينة من جهة أخرى، وهم جميعاً يشكلون الهوية السودانوية للسودان المعاصر وهذه الهوية السودانوية بالضرورة لا تتناقض مع جذور هويتنا الافريقية التي تستمد قوتها وشرعيتها من عمق تاريخ حضارة وادي النيل العظيمة و الأجدر والأصلح لكل من هاجر الى هذه الأرض المباركة ان يعتز ويفتخر بأنه يعيش على هذه الأرض وبين ظهراني حفيدات وأحفاد الفراعنة السود.

الياواك (لقاوا)
لقد شهدنا كما شهد العالم أجمع الاجتياح الدموي الوحشي الذي خططت له ونفذته قوات الجنجويد (الدعم السريع) على السكان الأصليين في الياواك، التي لا تنتمي لمجموعات المولاتوس ” مدعي العروبة في السودان” ودعاة بعث قريش الجديدة، الذين يتمسكون بالعروبة كهوية واحدة لا تقبل التعدد ولا تتاثر باسباب تحولات التاريخ والبيئة التي تفرضها ضرورات الهجرة على كل مجموعة بشرية هاجرت من موطنها إلى ارض اخرى ، وبما أنَّ قناعتنا الراسخة انه لا يوجد من بين مدعي العروبة في السودان من هو عربيٌ خالص يمكن ان يشار اليه بالبنان او يُرى بالعين المجردة، او تستطيع حتى فحوصات ال DNA ان تثبت لهم عروبة خالصة اوًحتى بنسبة اقل بقليل من ال 50%. وفوق ذلك كله اصدقائنا وجيراننا العرب في غرب أسيا ودون استثناء لا يؤمنون حق الإيمان بعروبة هؤلاء المولاتوس السودانيين. و رؤية السودان الجديد التي طرحتها الحركة الشعبية لتحرير السودان هي الرؤية الوحيدة التي تعترف لهم و تتعامل معهم وفقاً لا دعائهم، باعتبار “العروبة ” مكون من مكونات الهوية السودانوية وعلينا الاحتفاء والاعتزاز بهذا التنوع وجعله مصدر ثراء نتساوى ونتعايش على أساسه.

لكن لا أذن صاغية وقلب واع، كأن في آذانهم وقرٌ او على قلوبهم الران. و لم يحظى السودان برحلً رشيد واحد من هؤلاء المولاتوس الذين أصروا وبطريقة مستميتة التمسك بهذه العروبة وفرضها على الجميع بالقوة وإن لم يقبلوا تكون الابادة هي مصيرهم الحتمي. وقبل ان نخاطب هؤلاء المولاتوس بما يحلوا لهم من شهوة الانتساب لى قريش، بني تميم، قحطان، البراعصة وبني صخر…الخ اهدي اليهم هذا المقتطف من مقدمة بن خلدون، وأدعو القراء والقارئات التأمل فيها الى ان نعود في الحلقة القادمة ونحلل مآلات هجوم الجنجويد على مدينة الياواك – لقاوا في جبال النوبة.

الفصل السادس والعشرون في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب
والسّبب في ذلك أنّهم أمّة وحشيّة باستحكام عوائد التّوحّش وأسبابه فيهم فصار لهم خلقا وجبلّة وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسّياسة وهذه الطّبيعة منافية للعمران ومناقضة له فغاية الأحوال العاديّة كلها عندهم الرّحلة والتّغلب وذلك مناقض للسّكون الّذي به العمران ومناف له فالحجر مثلا إنّما حاجتهم إليه لنصبه أثافيّ القدر فينقلونه من المباني ويخرّبونها عليه ويعدّونه لذلك والخشب أيضا إنّما حاجتهم إليه ليعمّدوا به خيامهم ويتّخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخرّبون السّقف عليه لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الّذي هو أصل العمران هذا في حالهم على العموم وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي النّاس وأنّ رزقهم في ظلال رماحهم وليس عندهم في أخذ أموال النّاس حدّ ينتهون إليه بل كلّما امتدّت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه فإذا تمّ اقتدارهم على ذلك بالتّغلب والملك بطلت السّياسة في حفظ أموال النّاس وخرب العمران وأيضا فلأنّهم يكلّفون على أهل الأعمال من الصّنائع والحرف أعمالهم لا يرون لها قيمة ولا قسطا من الأجر والثّمن والأعمال كما سنذكره هي أصل المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجّانا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل وابذعرّ السّاكن وفسد العمران وأيضا فإنّهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر النّاس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض إنّما همّهم ما يأخذونه من أموال النّاس نهبا أو غرامة فإذا توصّلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عمّا بعده من تسديد أحوالهم والنّظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد وربّما فرضوا العقوبات في الأموال حرصا على تحصيل الفائدة والجباية والاستكثار منها كما هو شأنهم وذلك ليس بمغن في دفع المفاسد وزجر المتعرّض لها بل يكون ذلك زائدا فيها لاستسهال الغرم في جانب حصول الغرض فتبقى الرّعايا في ملكتهم كأنّها فوضى دون حكم والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران بما ذكرناه من أنّ وجود الملك خاصّة طبيعيّة للإنسان لا يستقيم وجودهم واجتماعهم إلّا بها وتقدّم ذلك أوّل الفصل وأيضا فهم متنافسون في الرّئاسة وقلّ أن يسلّم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلّا في الأقلّ وعلى كره من أجل الحياء فيتعدّد الحكّام منهم والأمراء وتختلف الأيدي على الرّعيّة في الجباية والأحكام فيفسد العمران وينتقض. قال الأعرابيّ الوافد على عبد الملك لمّا سأله عن الحجّاج وأراد الثّناء عليه عنده بحسن السّياسة والعمران فقال: «تركته يظلم وحده» وانظر إلى ما ملكوه وتغلّبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة كيف تقوّض عمرانه وأقفر ساكنه وبدّلت الأرض فيه غير الأرض.” انتهى.

مراد موديا
باريس – 18/11/2022

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.