جبال النُّوبة في سنوات الجمر الملتهبة (4 من 4)

 

الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]

على أيٍّ، فلقد شفى نفسي وأبرأ سقمها شروع بعض الكتَّاب من أبناء المنطقة من النُّوبة في تدوين ما فعله الأرذلون من أنصار النظام “الإنقاذي”، ومن ﴿ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون﴾ (المطففين: 83/14)، وبئس العمل الكسوب. وكان من الواجب علينا أن نذكر عدداً منهم في هذه الصفحات، وهم يقفون على أرض صلبة من الانتماء الصحيح للأمة، والثقة الكاملة بالنَّفس، دون أيَّة مُسكة من غرور أو استنكاف (تكبُّر) على حقيقة جهود الآخرين وإضافاتهم في سبيل القضيَّة النُّوبويَّة. ففي العام 2003م نشر منير شيخ الدِّين كتاب “الغائصون في دماء أمة: خبرة ومشاهدات في سجون الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة”، وفي العام 2001م قام الراحل سليمان موسى رحال بتحرير “الحق في أن أكون نوبويَّاً: قصَّة شعب سوداني يكافح في سبيل البقاء”. وقد نُشر الكتاب إيَّاه باللغة الإنجليزيَّة بعنوان (The Right to be a Nuba)، كما نشر كاتب هذه السطور كتباً عديدة عن تلك الأحداث وغيرها في مؤلَّفات عديدة باللغتين العربيَّة والإنجليزيَّة، وقد تمَّ نشر خمسة منها في الخرطوم بواسطة دار المصوَّرات للطباعة والنشر والتوزيع.

وفي هذه العجالة نود أن نذكر السفر القيِّم الذي نشره الدكتور قندول إبراهيم قندول عن “الفكي علي الميراوي.. من صور البطولة في جبال النُّوبة”، والذي نشرته دار المصوَّرات للطباعة وللنشر والتوزيع بالخرطوم العام 2021م. لقد خصَّني صديقي الدكتور قندول بالاطلاع على تأليفه الثاني هذا قبل إيداعه إلى الناشر، فله مني أجزل الشكر وعظيم التقدير. ولعلَّ أهميَّة الكتاب تكمن في أنَّه يعتبر مرجعاً أكاديميَّاً لطلاب العلوم السياسيَّة والتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرها من العلوم الإنسانيَّة الأخرى، وذلك لمن يود أن يستزيد أو يستكثر علماً إلى معارفه عن نضالات النُّوبة في جبال النُّوبة في القرن العشرين المنصرم. والكتاب إيَّاه من الكتب الذي يستوجب قراءته على مدد متقاربة حتى تُنقش فوائده في الفؤاد، وتُعقل فرائده في العقل؛ فكم من كتابٍ قد تقرأه ثلاث مرات أنفع من ثلاثة كتب تقرأ كلاً منها مرة واحدة.

حال شعب النُّوبة في المطالبة بالاعتراف بثقافاتهم ولغاتهم كحال أي شعب أصيل يعيش في حدوده الجغرافيَّة ومحيطه التاريخي، وأقرب مثال إلى ذلك ما حاق بشعب فلندا الأصلاء. إذاً، ماذا جرى لهم؟ في العام 1899م أخذت العبارات المؤثِّرة في ترنيمة فنلاديا (Finlandia) للشاعر سيبليوس، التي غنَّاها في سبيل حركة استقلال بلاده، وهو يمتدح شعباً يتأهب للفكاك من أغلال الاضطهاد، تغوص في أفئدة الأمَّة، وذلك بعد مضي أكثر من خمسة قرون تحت سيطرة السويديين والروس. أما اليوم فإنَّ الفلنديين قد أخذوا يستيقظون من سبات عميق ظلَّ يكتنف تاريخهم. من القرن السادس عشر الميلادي حتى الستينيَّات من القرن المنصرم تعرَّضت شعوب سامي الأصلاء في شمال إسكندنافيا إلى حملة منظمة للانصهار الإجباري، وهي الحملة التي تمَّ تصميمها لاستئصال لغاتهم وثقافتهم وأديانهم. إذ تمَّ تدمير أماكنهم المقدَّسة، ومصادرة أراضيهم، وأُخِذ أطفالهم عنوة واقتداراً إلى المدارس الداخليَّة، بل تمَّ عرض بعضهم في “حظائر بشريَّة”، وتمَّ استغلال الآلاف منهم في تجارب المقاييس في التشريح بواسطة علماء يبحثون عن أدلَّة في الدونيَّة العنصريَّة. هذه المحن – كما وصفها بعض النشطاء – بمثابة الإبادة الثقافيَّة المدعومة من قبل الدولة، والتي سوف يتمُّ تقديمها لمفوضيَّة الحقيقة والمصالحة المستقلة، التي شكَّلتها رئيسة الوزراء الفلنديَّة سناء مارين. اذ أنَّ الهدف من المفوضيَّة هو جمع التجارب التي تعرَّض لها شعب السامي من قبل الدولة الفلنديَّة ومؤسَّساتها المختلفة، وإتاحة هذه المعلومات للعامة من النَّاس. ففي حديثها لصحيفة بريطانيَّة قالت السيِّدة مارين: “إنَّ فهم ما تعرَّض له شعب السامي من تجارب يمكِّنا أن نجد لها حلولاً للمستقبل.”

الجدير بالذكر أنَّ أهالي السامي قد عاشوا في إسكندنافيا لأكثر من ألفين عام. وفي حياتهم التقليديَّة كانوا يعتاشون على الصيد، بما في ذلك صيد الأسماك، ورعاية الرنة (نوع من الأيائل). وفي القرن السادس عشر أخذ السويديُّون والنرويجيُّون والدنماركيُّون يستوطنون في المنطقة بحثاً عن الثروة المعدنيَّة والأراضي الزراعيَّة، وشرع شعب السامي يفقدون أراضيهم رويداً رويداً. ومن ثمَّ أُجبِروا على التعبُّد في كنائس الوافدين الجدد، وشرعت الدولة السويديَّة في استئصال عاداتهم، منها – على سبيل المثال – طقوس عزف الطبول الشاماني. استمرَّت هذه الكثرة الكاثرة من هذه السياسات التعسفيَّة حتى بعد نيل فلندا استقلالها من روسيا، وكذلك حتى بعد الحرب العالميَّة الثانية العام 1945م، حيث كان يتمُّ إرسال جيل من شعب السامي في فلندا إلى مدارس داخليَّة حتى تتم تنشئتهم كفلنديين، وأُجبِر كثراً منهم على تبنِّي أسماءً فلنديَّة، ثمَّ كان الأطفال يتعرَّضون إلى العقوبة إذا تحدَّثوا بالساميَّة، أي لغة الأم، حتى فقد جيل كامل لغته الأصليَّة.

فبرغم من أنَّ ثقافته أخذت تمر بمرحلة الإحياء حاليَّاً، لكن ما زال شعب السامي البالغ تعداده 10,000 نسمة يتعرَّض دوماً إلى العنصريَّة في فلندا، حيث يتمُّ وصفه بأنَّه شعب غير مهذَّب، ويتصرَّف كالأطفال، ومدمن للخمر، وكثير الشكوى. هناك كذلك اشمئزاز حين يعرض التلفاز القومي برنامجاً أو فيلماً يمجِّد الشخص الساموي بزيِّه القومي ذي الألوان الصارخة المتنوِّعة. بيد أنَّ أكبر المشكلات تكمن في استمراريَّة التوغل في مناطق السامي، وقد تحصَّلت عددٌ من شركات التعدين على عقود للتنقيب في إقليم السامي في العامين السابقين، وهناك ثمة خطط تنمويَّة لإنشاء أكثر من إثني عشر طاحونة هوائيَّة في الإقليم، والتي بلا شك سوف تطرد حيوان الرنة، الذي يعتبر مصدر غذائهم. ليس الغرض فقط من المفوضيَّة إيَّاها هو إخراج الحقيقة، وتحديد اللوم، بل اتِّخاذ المسؤوليَّة في المستقبل.

إذاً، ما الذي يسبِب كل المشكلات التي تؤدِّي إلى هذه النزاعات الدمويَّة؟ لا ريب في أنَّ الطغيان في السلطة السياسيَّة، أو حكم الديكتاتوريَّات سواء أوليغاركيَّة مهيمنة، أو حكم عسكري أوتوقراطي، أو نظام أيديولوجي وحداني، يؤثِّر على الاقتصاد وسلوكيات الشعب ومناهج التعليم والمعرفة والقيم الدِّينيَّة والأخلاقيَّة. وفي هذا الشأن يظل كتاب “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” لعبد الرحمن الكواكبي (1854-1902م) مرجعاً هاماً في الدكتاتوريَّة وعدم العدالة، الذي خصَّ به الإمبراطوريَّة العثمانيَّة (التركيَّة)؛ كذلك يظل كتابه إيَّاه ذا نفوذ عند الإصلاحيين في العالمين العربي والإسلامي. وكان الكواكبي يرى أنَّ الله خلق الإنسان حرَّاً قائد العقل، فكفر وأبى أن يكون عبداً قائده الجهل، ويرى أنَّ المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوَّة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأنَّ تراكم الثروات المفرطة مولد للاستبداد، ومضر بأخلاق الأفراد. والكواكبي هو الذي ولد في سوريا وتوفي فيها في ظروف غامضة.

الجدير بالذكر أنَّ غياب الوعي بأسس القضايا الاجتماعيَّة، والتهاون بقيم الحساسيَّة الثقافيَّة، وحرمان شعوب بعينها من العدالة والمساواة يشي بكوارث سياسيَّة وأمنيَّة في المنظور العاجل أو الآجل. لا غرابة، إذاً، حين اهتمَّ البريطانيُّون بالقضايا الثقافيَّة والإثنيَّة والتعدُّديَّة، حتى أمسوا في شيء من الحساسيَّة شديد، واستحدثوا ألفاظاً وتعابير عند مخاطبة الحقائق والقضايا الاجتماعيَّة والثقافيَّة الأكثر أهميَّة، وبخاصة فيما يتعلَّق بالعرق والعنصريَّة والعدالة الاجتماعيَّة والنوع أو الجندر وهلمجرَّاً، حتى لا يثير المفهوم الخطأ حفيظة الأغيار، ومن هذه التعابير مثلاً “الصواب السياسي” (Woke – political correctness). الحدث العنصري – كما جاء في تعريف لجنة تقصِّي الحقائق في مقتل الشاب الأسود ستيفين لورانس في لندن على يد فتية بيض عنصريين العام 1993م، والتي ترأسها القاضي مكفيرسون – هو أي عمل يمكن أن تدركه الضحيَّة أو أي شخص آخر بأنَّه عنصري؛ علاوة على هذا التعريف، فهناك مفهوم جريمة الكراهيَّة المرتبطة به. تأسيساً على ما ذكرناه أعلاه، فإنَّ العدالة هي أساس السَّلام في المجتمعات. إزاء ذلك أنشد عماد إبراهيم النابي يحث القائمين على أمور العباد وشؤون البلاد على العدل في الحكم فوق الأرض، ويحذِّرهم من عاقبة الحكم تحت الأرض، والابتعاد عن غرور الدنيا:

إذا حُكِّمتً فوق الأرض فأعدلْ فإنَّ الحكمَ تحت الأرض قاسي
وإن أغراك في الدنيا نفـــــــوذٌ فلم تدم النُّفوذُ ولا الكـــــراسي

قد يتساءل سائل – كما كان يتبادر إلى أذهان كثرٍ من النَّاس – لم اندفع أهل الهامش من مناضلي الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وانخرطوا في النضال المسلَّح دون إعطاء العمل السياسي السلمي فرصة؟ الإجابة على هذا التسآل الذي ظل يردَّده بعض أهل السُّودان بين الفينة والأخرى تتمحور في الأسباب الآتية:

(1) لقد شرع المهمَّشون في العاصمة القوميَّة في المطالبة بحقوقهم السياسيَّة منذ تأسيس الكتلة السوداء العام 1948م بواسطة الدكتور محمد آدم أدهم، وكانت الكتلة الخلف المباشر لمنظَّمة سُمِّيت “جمعيَّة الوحدة السُّودانيَّة”، التي تأسَّست العام 1942م، وكانت المسألة في الأمر ترياقاً ونكاية للتوجُّه العروبي الذي غلا فيه أهل المركز. وبدلاً من إنصافهم بتحقيق مطالبهم الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة العادلة تمَّ نعتهم بالعنصريين، وأقنع الحزبان الطائفيان السلطات الاستعماريَّة عصرذاك بهذا الزعم، ومن ثمَّ تمَّ التجديف مع هذا التيار مصداقاً لمزاعمهما. بناءً على ذلك تمَّ التضييق على الدكتور أدهم، وحرمانه من ممارسة العمل السياسي ومزاوله مهنته الطبيَّة.
(2) لم يجد أهل الهامش في الرِّيف السُّوداني على طول وعرض البلاد أذناً صاغية لمطالبهم الدستوريَّة التي رفعها ممثلوهم في البرلمان في الحقب المختلفة إبَّان الحكومات الوطنيَّة؛ سواء كانت هذه الحركات المطلبيَّة في جنوب السُّودان، أم جبال النُّوبة، أم النيل الأزرق، أم دارفور، أم إقليم البجة حتى نفد صبرهم.
(3) ما أن حقَّق أهل الجنوب ما ناضلوا من أجله عسكريَّاً، حتى أدرك أهل المناطق المهمَّشة الأخرى بأنَّه لا سبيل إلى الحصول على مطالبهم إلا عن طريق حمل السِّلاح، وتبنِّي النضال الثوري المسلَّح.
(4) الانقلابات العسكريَّة التي يقوم بها ضباط الجيش من أهل الخرطوم أو الجزيرة بين الفينة والأخرى تُوصف بأنَّها حركات وطنيَّة؛ أم حين يقدم عليها عسكر ينتمون إلى الغرب أو الجنوب تنعت بأنَّها حركات عنصريَّة، حتى الانقلاب الذي قاده المقدَّم حسن حسين عثمان في 5 أيلول (سبتمبر) 1975م، وهو الانقلاب الذي كان من ورائها الحركة الإسلاميَّة، وُصِف بأنَّه حركة عنصريَّة بعد فشله.
(5) لقد هدَّد الرئيس المخلوع عمر حسن أحمد البشير في لحظة عنفوانه المعارضة بأنَّه لا يتفاوض إلا من يحمل السِّلاح، وكان هذا القول تصريحاً بوَّاحاً لمن ابتغى الحقوق، وسعى إليها سعياً حثيثاً أن يحمل البندقيَّة، وينازل النظام في ساحات الوغى؛ أي بمعنى آخر إنَّ السلطة لا تستجيب للدعوات السلميَّة مهما كانت مشروعيَّتها وأسلوبها المنطقي في ممارسة الحقوق الدستوريَّة.

إلى جانب عدد كبير من الكتب والمقالات التي حبَّرناها، والمحاضرات والسمنارات والورش التي قدَّمناها أو اشتركنا فيها، والتي يضيق بنا المقام هنا عن ذكرها كلها، إلا أنَّنا فعلنا ذلك ليس لأنَّنا ابن من أبناء المنطقة فحسب، بل تكريماً لنضال هذا الشعب النوبوي العظيم، وتبياناً لبسالته في مصارعة طغيان أكابر الخرطوم، ثمَّ إظهاراً لما أبانه هذا الشعب الأبي من مروءة تستحق الإجلال والإكبار معاً. تلك هي حال الشعوب التي يقهرها السلطان العنيف، ويملك عليها أمرها، فيدفعها إلى ما يريد هو لا إلى ما تريد هي، ويصدُّها عمَّا يريد أن يصدُّها عنه. هذه الشعوب تُساق إلى الحرب كارهة، وقد فُرض عليها القتال وهو شيء مكروه لها ﴿كُتب عليكم القتال وهو كرهٌ لكم﴾ (البقرة: 2/216)، حتى باتت تخوض غمرات هذه الحرب الضروس وهي زاهدة فيها. وحسبك أن ترى ما يحدث من الفظائع، وما يقترف من الآثام في حق الشعب المغلوب على أمره، دون أن تصنع شيئاً. إزاء ذلك كان عزانا والنُّوبة يلقون ما يلقون من ألم أن نخفِّف عنهم بطيِّب الكلم بعد أن عجزنا أن نرفع عنهم البلاء، وقد حاولنا أن ننسج من الفأل أثواباً لتفرحهم، وتكون لهم نوراً في أحلك الظُّلم، والفأل قول أو فعل يُستبشر به، أو كما أنشد جهاد جحا:

خفِّف عن النَّاس ما يلقون من ألم فإن عجزت فأخرج طيِّب الكلمِ
وأنسج من الفأل أثواباً لتفرحهم وكن كنور لهم في أحلك الظُّلمِ
لا يسعد النَّاس في قولٍ وفي عملٍ إلا امرؤٌ طيِّب الأخلاق والشِّيَمِ

تعليق 1
  1. خميس عثمان عباس يقول

    منذ أمد بعيد تركت الإطلاع لكن عبركم بدأت اطالع كتباتكم لأنها تتسم بالحياد في تناول قضيه شعب النوبه. وفيما يتعلق بالشان السوداني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.