تحيُّز الدولة السُّودانية لحقل الثقافة (العربية – الإسلامية) – (2) – حول ردود الأفعال.
عادل شالوكا
قرأت ردود الأفعال على المقال الأخير الذي كتبناه تحت عنوان: (الدولة السُّودانية وتحيُّزها لحقل الثقافة (العربية – الإسلامية) – (1). وهو المقال الأول وستعقبه مقالات أخرى. وفي المقال دعوة صريحة للحوار الشفَّاف والجاد. البعض وصف المقال بأنه يخدم أجندة إنفصالية مثل حديث لـ(رشا عوض) في تسجيل صوتي – ولكننا نفتح هذا النقاش بغرض إبراز المُشكلة الحقيقية كما هي – وبعدها التحاوُر لإيجاد الحلول التي ينبغي أن تبدأ بحوار جدِّي حول طبيعة المُشكلة وجذورها. ولن تستطيع أي قوى على وجه الأرض منع المواطنين من تقرير مصيرهم أو الإنفصال إن هم قرَّروا ذلك بقناعاتِهم التي سيصلون إليها حتماً إذا لم تتغير بنية الدَّولة السُّودانية وأُعيد هيكلتها.
تقول الأستاذة (رشا عوض) – إن ما كتبناه يُقلِّل فُرص العمل المُشترك من أجل التغيير – ولكن على (رشا) أن تراجع جميع الإعلانات السياسية التي وقَّعتها الحركة الشعبية مع قوى سياسية مُختلفة، كل ذلك كان في إطار إيجاد الحلول للمشكل السُّوداني عبر حوار جريء وبمُخاطبة المشكلات بمُسمياتها الحقيقية – وفي رأينا نعتبر إن هذا هو الطريق الوحيد والصحيح لبناء وطن يسع الجميع.
الحركة الشعبية في تاريخها الطويل منذ تأسيسها في العام 1983 لم تتبنَّى الأجندة الإنفصالية ولكنها تركت الخيار لشعب جنوب السُّودان لتقرير مصيره، وقد قرَّروا الإنفصال في العام 2011 لقناعتهم بعدم جدوَى الوحدة في ظل وجود العقليات الإقصائية في الدَّولة السُّودانية. كان المؤتمر الوطني هو (رأس الرمح)، والآخرون قبلوا بأن يكون دورهم هو (التواطوء) مع هذه التوجُّهات .. وكان الإنفصال.
تقول (رشا) إن منهج الثنائيات (عرب – زنوج) في تفسير الصراع السُّوداني تم تجاوزه – وتحاول أن تقول إن السُّودان الآن فيه واقع جديد. وهذا غير صحيح – نحن عبَّرنا عن حيثيات حقيقية تدور الآن في السُّودان ولا تستطيع (رشا) إنكار ذلك أو الرد عليها بالنفي، فهي حقائق دامغة. ولكنها أقحمت قضايا أخرى مثل (المصالح، البترول، التعدين في الذهب، وغيره .. وغيره). وهذا بلغة الرياضيين يسمَّى بـ(تشتيت الكورة) فعادة عندما تُطرح القضايا الجوهرية يلجأ من لم يعجبهم ذلك إلى صرف الأنظار عن القضايا الرئيسية وطرح قضايا أخرَى – وهذا في الفلسفة يُسمَّى (مُغالطة منطقية – Fallacy). والمُغالطة المنطقية هي خطأ في التبرير Reasoning . وذلك بوجود عيب في جزء من أجزاء عملية (البرهنة) المنطقية أو قصور في (المقدمات) لإستخلاص (نتائج) لا ترتقي المُقدِّمة لإستخلاصها. لأن المُحاججات تتألف من مُقدِّمات (إستدلالات) ونتاج. المُحاججات التي تحتوي على إستدلالات سيئة، أي إستدلالات فيها مُقدِّمات لا تعطي الدَّعم الكافي للإستنتاج، تصبح بالتأكيد (مغالطات). وفي هذا النوع من المُغالطات تقوم المُحاجَجة على محاولة التأثير في المُستمع بمعلومات لا صلة لها بالقضية محل النقاش (بغض النظر عن صحَّة هذه المعلومات أو عدم صحَّتها)، وهذا نمط شائع من المُغالطات.
فما يُحسب في صالح (رشا عوض) إنها إعترفت بوجود مُشكلة في السُّودان، ومظالم تاريخية لا بد من التعبير عنها بصراحة – وهذا جيِّد ويؤسِّس لحوار جدِّي وموضوعي – ولكن لا يمكن أن تستدل بفشل تجربة جنوب السُّودان للتأكيد على فشل أي تجربة أخرى قادمة، وذلك لإختلاف السياقات التاريخية والإجتماعية والسياسية. وربطت ما يحدث الآن بأمراض التخلُّف وغير ذلك من أمراض (السُّودان القديم) – حسب تعبيرنا نحن. وقالت إن ما ذكرته أنا ليس هو العامل الوحيد ولكن هنالك عوامل أخرَى مُعقَّدة – على حد قولها – ولكنَّنا هنا نتحدَّث عن جذور المشكلة السُّودانية – أي الأسباب التي شكَّلت هذا الواقع الماثل أمامنا الآن. بعدها يُمكن (لاحقاً) نقاش العوامل الأُخرى التي تعرفها (رشا).
برَّرت (رشا عوض) لمسألة الديمقراطية الجزئية في السُّودان وقالت إن الديمقراطية حتَّى في فرنسا يمكن أن تكون جزئية. سنترك هذا جانباً – ولكن ما قصدناه نحن في مقالنا (محل النقاش) إنه طالما لم يقوم أي برلمان سوداني منذ 1953 على تمثيل حقيقي للسُّودانيين، فلا يُمكن أن يتم البت في أي شأن قومي من المفترض أن يُعبِّر عن جميع السُّودانيين مثل (النشيد الوطني، شعارات ورموز الدَّولة، … إلخ) – وسنأتي لقضايا أخرى (شبيهة بهذه) في المقالات القادمة.
ما سمَّته (رشا) بالإحتجاج المُسلَّح – وهو ليس إحتجاج مُسلَّح بل كفاح مُسلَّح – كان آخر خيار للمُهمَّشين في السُّودان بعد أن فشلت كل الجهود السِّلمية عبر تنظيمات الهامش مثل (مؤتمر البجا، تجمع الأحزاب الجنوبية، إتحاد عام جبال النوبة، إتحاد عام جنوب وشمال الفونج، جبهة نهضة دارفور، … وغيرها من التنظيمات المطلبية). وعندما تم قمع هذه التنظيمات ورفض مطالبهم كان الخيار الأخير لهم هو حمل السِلاح ومُقاومة الحكومات المركزية. ولو لا حمل السلاح وصمود الهامش في وجه الآلة القمعية للمركز لكنا الآن لاجئين في دول الجوار، وحينها ربما لن نجد من (رشا) أي إدانة للحكومة، نقول هذا لأننا لم نرَ منها أي موقف تجاه مثل هذه القضايا سوَى رفضها لما ذهبنا إليه في مقالنا.
وما ذهبت إليه (رشا عوض) بخصوص إن الكفاح المُسلَّح أتَى بنتائج كارثية غير صحيح لأن الذين تم تقتيلهم وحرق منازلهم وممتلكاتهم في (لقاوة) لجأؤوا إلى مناطق سيطرة الحركة الشعبية – فالحركة الشعبية أقامت سودان جديد يعتبر نموذج للسُّودان (الذي نُريد) وهو فضاء مفتوح للجميع لزيارته مثل زيارة (حمدوك، مُنظَّمات الأمم المتحدة، قوى سياسية، ناشطين سودانيين، .. وغيرهم). فلا زال حتى الآن المواطنين يقتلون في مناطق سيطرة الحكومة على أساس العرق (في مناطق الهامش)، أو بالقمع ومُصادرة الحريات ومُصادرة حق الحياة أثناء المُظاهرات والمواكب السلمية (في بقية المُدن).
تحدَّثت (رشا) عن الحركة الدِّيمقراطية العلمانية التي من المفترض أن تقف ضد الجرائم المُرتكبة بإسم (الثقافة العربية – الإسلامية). وهذا جيِّد إن حدث، ولكننا لم نرَ أي حراك مثل هذا، ولم نرَ لهم أي وقوف ضد المُمارسات والإنتهاكات والإبادة التي تتم في هامش السُّودان في مناطق مثل (بورتسودان، كسلا، الجنينة، كادقلي، الدمازين، ولقاوة، … إلخ) – بل لزمت هذه القوَى الصمت الخجول والمُتواطيء. وحتى (رشا عوض) – الدِّيمقراطية العلمانية – لم نرَ لها أي مقال أو حديث يُندِّد بمثل هذه المُمارسات.
أما حديث البعض عن تسهيل غزو السُّودان ودور بعض الكيانات الإجتماعية فيه، فيُمكن الرجوع إلى كتابات (مكي شبيكة – محمد سعيد القدال). لأننا لم (ننجر) ذلك من بنات أفكارنا – هذا التَّاريخ برغم تزويره ولكنه يحتوي على بعض الحقائق. ونُكران دور الجامعة العربية – والدُّول العربية في نكبات السُّودان لا يحتاج منا إلا أى رد أو تعليق. وسنكتب لاحقاً عن تدخل الدول العربية حتى في الحرب الأولى عبر جنود وخبراء تم قبض بعضهم (عراقيين) خلال معارك تُلشي في جبال النوبة في العام 1993. كما كان لهم دور كبير (دعم عسكري) في عمليات النيل الأزرق (الكُرمك – قيسان) عام 1987 وغير ذلك من الأدوار.
ما قرأته من ردود الأفعال حول المقال يؤكِّد الرفض لأي حديث عن الحقائق وحول التاريخ. وكيف سنجد تفسير للأزمة القائمة والتَّدهور المُستمر (سياسياً، إقتصادياً، إجتماعياً) بدون الرجوع للتاريخ، وكذلك تفسير الحروب المُستمِرَّة وتحوُّل السُّودان الى دولة طاردة، هاجر أكثر من ثمانية ملايين من أبنائِها إلى خارج البلاد، أما البقية فقد تشرَّدوا داخل وطنهم كنازحين !!. كيف سنفهم جذور المشكلة السُّودانية دون البحث عن الخلفية والمُمارسات التاريخية التي شكَّلت هذه المأساة ؟. ما نراه الآن ما هي إلَّا آثار لعهد العبودية والإسترقاق، وذلك لعدم الأمانة في التعامل مع الواقع، والتمسُّك بثوابت العروبة والإسلام (والتي نفسها ترتبط بذلك العصر الظلامي) في دولة متنوِّعة مثل السُّودان.
كيف لا نتناول التاريخ من منظور (الإستعلاء – والدُّونية) والواقع يشهد على هذا الإستعلاء، بل إدِّعاء النقاء العرقي والتفوُّق والعنصرية التي يُعانيها الزنجي (ذو اللون الداكن) في السُّودان. مُحاولة إنكار الحقائق لا تأتي إلَّا من عقلية ملتوية فكرياً، ومثل هذه العقلية لن تنتج سوَى المزيد من الصراع والتشظِّي.
الكراهية والعُنصرية وصلت في السُّودان حد التطهير العرقي وجرائم تتنافَى مع الفطرة الإنسانية السوية. القتل والإغتصاب وسياسات الأرض المحروقة والإحلال والإبدال للسُّكان. هل تطالبنا (رشا) وغيرها بان نسكت على ذلك ؟!. والعقلية التي فصلت جنوب السُّودان هي ذاتها التي تسعَى الآن لفصل (الجنوب الجديد) – مش أخير نطعن في الفيل مُباشرة ؟. هذا العقل المشوَّه والمنكفي على ذاته والذي يرفض رؤية الحقائق الماثلة أمامه لن يقود السُّودان إلى السلام والإستقرار.
إن محاولة خداع وتضليل البُسطاء بإستخدام مُفردات مُفخَّخة وتعبيرات غامضة لن تجدي بعد اليوم. فبدون الإعتراف بالمشكلة الحقيقية لن توجد حلول. ولا يُمكن تضليل هذه الأجيال الموجودة الآن والتي وعت تماماً بالمُشكلة السُّودانية. لا يمكن تفضيل مُهاجرين على السُّكان الأصليين وفرض ذلك بالقوَّة إن كُنَّا نريد السلام والإستقرار (نموذج عرب تشاد والنيجر في دارفور) وغيرها من الأمثلة. إستقرار الدَّولة لن يحدث إن كان ذلك على المستوى الفوقي فقط بتجاهل المستويات الدنيا. ولن يحدث في ظل ثوابت (العروبة والإسلام) وقوانين الشريعة الإسلامية وتوجهات مناهج التعليم والإعلام المرتكزة على هذه الثوابت. هذه الثوابت التي تُفرِّق بين المواطنين على أساس العِرق والدِّين هي الثوابت التي يُدافع عنها عبد الله علي إبراهيم – الشيوعي – (بوعي) عندما تلتقي مواقفه بمواقف المؤتمر الوطني. ولو كانت هنالك أدلة على إنتهاكات الحركة الشعبية سنُقارنها بإنتهاكات الحكومات المركزية منذ العام 1955 حيث لم تطلق أسيراً واحداً من قوى المقاومة المُسلَّحة بجنوب السُّودان، وكذلك من قوات الجيش الشعبي لتحرير السُّودان منذ العام 1983.
برَّرت (رشا عوض) – وهو موقف غالبية القوَى السياسية التي تريد (هبوطاً ناعماً) – لرفض الإقرار بـ(العلمانية) صراحة لوجود الدَّولة العميقة وقُدرتها على تجييش وتعبئة السُّودانيين بإستغلال الدِّين، وذلك برغم إيمانها بضرورة بناء الدَّولة العلمانية، وأن تكون (العلمانية) مبدأ فوق دستوري. فسؤالنا للأستاذة (رشا) ما هو المخرَج الآن ؟. هل نقبل بنصوص (ملولوَة) – حسب وصفك – في الدَّستور ؟. وهل يؤسِّس ذلك لسلام شامل وعادل ودائم ؟.
ختاماً: الثنائيات التي ترفضونها موجودة حالياً في السُّودان وهي المُرتكز الرئيسي للصراع، لم نخترعها، ولكننا كشفناها للجميع، وأعتقد إنه من الأفضل توصيف ذلك بصورة صحيحة (كما هو). ونحن نتَّبع نهجاً يقوم على (الحقائق فقط) لبناء وطن مُعافَى – وبأسُس جديدة .. وهذا ما ترفضونه أنتم.
ولنا عودة ..