جبال النُّوبة في سنوات الجمر الملتهبة (2 من 4)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
شهدت جبال النُّوبة في بداية حكم الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة في السُّودان أسوأ أحوالها في المجازر البشريَّة التي تقشعر منها الأبدان وترتعد لها الفرائص، وقد اعتبرت السلطات النُّوبة مجرمين دون التفريق بين الجيش الشعبي لتحرير السُّودان من جهة، والمواطنين العزل من جهة أخرى. إنَّ اصطباغ المواطنين كلهم أجمعين أبتعين بطلاء واحد هو ما يقود إلى النتائج المأسويَّة. إذ ليست هناك ثمة مادة في القانون الإنساني تحظر مصادقة المتَّهمين، أو التعامل معهم، أو من تعتبرهم الدولة متمرِّدين أشراراً، لأنَّ القانون يسمح للمتَّهمين باصطحاب أصدقائهم أو أقاربهم حين يمثلون أمام القضاء. ومن هنا يمكن الفرق بين الأنظمة الديمقراطيَّة من جانب، والتسلُّطيَّة من جانب آخر. ففي الأنظمة التسلُّطيَّة فإنَّ الشك وحده يكفي لقتلك، ولكن لا يحدث ذلك في الحكومات الديمقراطيَّة. تجدر الإشارة إلى أنَّ الجيوش تُنشأ لتقاتل جيوشاً أمثالها بحيث يتقارب العدوان، ويفصل بينهما السِّلاح. أما الشعوب فلا تُحكم إلا برضاها، أو بتغاضيها عن حقوقها، أو بغفلتها عن حاكميها. إنَّ الشرعيَّة لتعني قبول المحكوم بالحاكم ولو قليلاً، وإنَّها لضرورة ماديَّة من ضرورات الأمن بحيث لا يستطيع بدونها الشرطيُّون أن يتشرَّطوا، ولا العسس أن يعسوا.
أيَّا كان من أمر، ففي تلك الفترة الجهنميَّة رصدت منظمة العفو الدوليَّة بلندن تقارير راتبة عن تجاوزات حقوق الإنسان المتمثلة في سيادة القتل خارج نطاق القضاء واغتصاب النساء، والتهجير القسري، ونهب ممتلكات المواطنين، وحرق محاصيلهم وبيوتهم وأماكن تعبدهم بواسطة جند الحكومة وميليشياتها المسلحة، والتهجير القسري وغير ذلك من أصناف التجاوزات الإنسانيَّة المروِّعة، وللعرب عبارة من غلب سلب. كذلك اهتمَّت مرصد حقوق الإنسان (Human Rights Watch) في نيويورك بما يجري في السُّودان عامة وجبال النُّوبة خاصة، ونشرت منظمة أفريكان رايتس تقريراً في كتاب مرقوم موسوم ب”نوبة السُّودان ومواجهة الإبادة” في أيلول (سبتمبر) 1996م، فضلاً عن النشرات التي أصدرتها المنظمة السُّودانيَّة لحقوق الإنسان في حوليَّتها “الراصد”. كذلك وردت إلى النشطاء من أبناء النُّوبة بالخارج مراسلات من ذويهم في داخل الوطن متكبِّدين كل المخاطر في سبيل إفشاء ما يحيق بأهليهم من المكر السيء والعنافة في الانتقام.
وهل أتاك حديث القس كمال توتو الذي أُلقي مكتوفاً في نار تلظَّى في كنيسة مشتعلة التي أُضرِم فيها النَّار، ليتعذَّب فيها ويشقى، ولا يعذِّب بالنَّار إلا رب النَّار. أفلم يسمع هؤلاء الجنود ورجال الميليشيات المتأسلمون بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم “إنَّه لا ينبغي أن يُعذَّب بالنَّار إلا رب النَّار” (رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح). وكان ذلك في شأن حرق أصحاب الرسول قرية نمل. إذا كان ذلك في شأن الحيوان، فما بالك حين يكون الأمر متعلِقاً بالإنسان دون جريرة ارتكبها، ولا إثماً مبيناً اقترفه. قد لا يعلم كثرٌ من النَّاس أنَّ التعذيب الذي تعرَّض له معارضو نظام “الإنقاذ” في الخرطوم كان قد بدأت ممارسته في حق السكان المدنيين العزل في جبال النُّوبة ومناطق النِّزاع المسلَّح بعد نشوب الحرب الأهليَّة العام 1983م. وبالكاد لا يستطيع أحدٌ أن يدرك ما الذي كان يجول في أدمغة وأفئدة رجال “الإنقاذ” ونسائهم حين شرعوا في اختراع أضراب التعذيب الجسدي والنفسي والمعنوي على أناس اختلفوا معهم سياسيَّاً فحسب. وفي حوار مع المخرج السينمائي الفرنسي هوغو دايباريوي حول حق النُّوبة في هُويَّة خاصة، قال إنَّ “ما يتعرَّض له النُّوبة أكثر من عمليَّة تطهير عرقي”. وفي ندوة القائد يوسف كوَّة مكي التي بدأها وواصلها في أمسيَّة الجمعة 28 أيار (مايو) 1993م بمباني البحوث والمعلومات الإفريقيَّة في لندن ذكر القائد كوَّة – فيما ذكر – أنَّ “جبال النُّوبة تعاني من أشكال تمييز خاصة.”
على أيَّة حال، ففي التسعينيَّات من القرن الماضي نشرنا عدة مقالات في بعض الصحف العربيَّة التي كانت تصدر في لندن والقاهرة، وهي صحيفة “الحياة”، و”الزمان” وتوأمتها “مجلة الزمان”، وصحيفة “الاتحادي الدوليَّة”، التي كان يصدرها الحزب الاتحادي الديمقراطي المعارض بالقاهرة. كانت هذه المقالات بمثابة الصوت الجريح الذي يجأر مطالباً بالعدل في سبيل مواطنين ذاقوا مرارة الحرب الضروس، وبلوا أهوالها، واحتملوا أثقالها. وفي كل هذه الصحف أجلينا بشكل أوضح ما تعانيه منطقة جبال النوبة خاصة، ومناطق النزاع المسلح في السُّودان عامة، من مشكلات الأمن والمرض، والمجاعة المفروضة على المواطنين الأبرياء العزل، وذلك في الحين الذي فيه فرضت الحكومة الإسلامويَّة حظراً جويَّاً وبريَّاً على المنظمات الإنسانيَّة من دخول المناطق التي تقع تحت إدارة الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، مما ادَّى إلى تفشي الأمراض الوبائيَّة، والمجاعات. أجل، لقد حاصرت الحكومة المنطقة من كل مكان، وكأنَّما الجبال خبزة لها تأكلها من جوانبها. تلك كانت سياسة مرسومة بدقة متناهية من قبل الدولة لحرمان حركة التمرُّد من التواجد البشري في هذه المناطق. وفي سنوات الجمر الملتهبة تلك كان زبانية النظام، يأتيهم المدد الحربي من الخرطوم، ووقودهم شعب النُّوبة، حتى ملأوا الأرض رعباً ورهباً. وقليل من النَّاس يذكرون أحمد هارون في جنوب كردفان قبل ما فعله في دارفور. ومن ذا الذي يكون أحمد هارون هذا إن لم يكن إلا رمزاً لأحد سفاحي السُّودان في سنوات الغضب والعنف في جبال النُّوبة! أولم تتذكروا مقولته الأشهر “أمسح قشه ما تجيبوه حي، لا نريد أعباءً إداريَّة!” وتأسياً على ذاك الموقف، كانت كلماته عبارة عن الدعوة الصريحة للإبادة.
أما في حوليَّة “الحوار”، وهي مجلة غير دوريَّة كان يصدرها المنبر الديمقراطي السُّوداني في لندن، فقد نشرت المجلة مقالاً عن “التطهير العرقي في جبال النُّوبة”، ونداءً بعنوان “أنقذوا قبائل النُّوبة من التطهير العرقي”، واصطحب النداء ما أسمَّاه فقهاء السلطان في مدينة الأُبيِّض في 27 نيسان (أبريل) 1992م ب”فتوى بقتال الخوارج”، وقائمة ببعض المعتقلين من أبناء النُّوبة في القوَّات المسلحة تحت تهمة تقويض الدستور، والاشتراك في المؤامرة العنصريَّة المزعومة في حركة القاضي عبد الرحمن إدريس. كذلك نشر الدكتور أحمد محمد البدوي في ذلك العدد من المجلة مقالاً بعنوان “جبال النُّوبة: استثمار الدمار في السُّودان”. وفي عددٍ آخر من الحوليَّة الآنف الذكر كتبنا عن “جبال النُّوبة: بين الحاضر المشؤوم والمستقبل المجهول”، وأوضحنا دون التباس أنَّ المعيار الذي يتَّخذه النظام للتخلُّص من خصومه الشماليين مبني على مقياس سياسي، بيد أنَّ التصفيات الجسديَّة بجبال النُّوبة تتم على أساس عنصري. وفي عدد ثالث من المجلة نفسها كتبنا مقالاً بعنوان “جبال النُّوبة وسلاطين الخرطوم”، حيث سردنا فيه مجاهدات النُّوبة في عهد الحكم التركي-المصري في السُّودان (1821-1885م) مروراً بالطغمة الإسلاميَّة الحاكمة في الخرطوم.
أما في العام 1995م ونحن إذ ما زلنا نسكب مدادنا في الحوليَّة إيَّاها كتبنا عن “الزوابع التي عصفت بنظام الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري”، والتي تمثَّلت في استعار الحرب الأهليَّة في جنوب السُّودان العام 1983م، وإعلان العمل بقوانين أيلول (سبتمبر) 1983م، وإعدام الأستاذ محمود محمد طه الذي عارض هذه القوانين بعناد وشجاعة منقطع النظير، والمجاعة التي ضربت البلاد، وبخاصة غربها، وغيرها من السياسات العرجاء العوجاء وغير الرشيدة التي أخذ ينتهجها النظام في أخر أيَّامه. وفي عددٍ آخر من المجلة ذاتها كتبنا عن دور الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في مقال بعنوان “كارتر في السُّودان: المهمة المبتورة”، وفي ذلكم المقال تطرَّقنا إلى الدور المنقوص الذي كان يقوم به كارتر في وقف إطلاق النَّار في جنوب السُّودان من أجل تطعيم أطفال الجنوب ضد دودة الفرنديد وشلل الأطفال، متجاهلاً جبال النُّوبة والنيل الأزرق برغم من احتياج هذين الإقليمين إلى المساعدات الإنسانيَّة والتطعيم والسَّلام أسوة بالجنوب. وفي العام 1997م نشرنا مقالاً في المجلة الآنف الذكر عن “النُّوبة وحكَّام ديار السُّودان”، وفيه أجلينا كيف تجاهلت الحكومة في الخرطوم حقوق النُّوبة برغم من اشتراك قلة منهم في حركة الأنيانيا المتمرِّدة (1955-1972م)، وكذلك استغلال الحكومات المتعاقبة مسيحيَّة النُّوبة للانتفاع بأموال العرب تحت دعاوي التبشير الإسلامي في جبال النُّوبة، دون تنفيذ أيَّة خدمات تعلميَّة أو اقتصاديَّة أو اجتماعيَّة في المنطقة. وفي العام 1998م والعام التالي نشرنا ورقة في المجلة المذكورة سلفاً عن “الصراع بين أهل الحكم والقوميات السُّودانيَّة”، سردنا فيها كثراً من القضايا السياسيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة التي ظلَّت تؤرِّق مضاجع القوميات السُّودانيَّة، وباتت مثار المشكلات التي يعج بها الوطن.
في أمر التعذيب لم نندهش حين ننظر إلى تاريخ الإسلام، ﴿ثمَّ أرجع البصر كرَّتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير﴾ (الملك: 67/4)، وبخاصة تاريخ الدولة الأمويَّة والعباسيَّة. وقد أورد الباحث هادي العلوي دراسة مستفيضة بعنوان “من تاريخ التعذيب في الإسلام” في كتابه الصادر العام 1987م. ولأبي بكر الخوارزمي رسالة نفيسة تقع في عشر صفحات (130-139) كتبها إلى شيعة نيسابور، وفيها يقصُّ ما لحق بآل أبي طالب من محن دمويَّة منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلَّم، حتى أيَّامه، وهي وثيقة ثمينة، وقطعة أدبيَّة رائعة. كان أحد الولاة الأمويين، وهو عبيد الله بن زياد، يصلِّب العلويين على جذوع النخل. وقد ذكر المسعودي أنَّه لم ير مثلاً في محمد بن هشام الأموي، الذي تلقَّب بالمهدي وأسرف في التنكيل بخصومه “حتى اتَّخذ من رؤوسهم أُصُصاً يغرس فيها النباتات على اختلافها.” ثم جاء العباسيُّون إلى الحكم، وتعرَّض العلويُّون من جديد لاضطهاد بشع، وتنكيل غاشم. فقد مات أكثر آل أبي طالب في العهدين الأموي والعباسي في الحبس وبالسُّم وغير ذلك من أنواع القتل، وقُسِّموا قسمين: “قسماً مات شهيداً، وقسماً عاش شريداً.” وفي بني عبَّاس كان يسلم “مَنْ يعرفونه دهريَّاً أو سفسطائيَّاً، ولا يتعرَّضون لمَنْ يدرس كتاباً فلسفيَّاً ومانويَّاً، ويقتلون من عرفوه شيعيَّاً، ويسفكون دم مَنْ سمَّ ابنه عليَّاً.”
ولا شك في أنَّ كثراً من صنوف التعذيب في العهود الإسلاميَّة المختلفة قد أُخِذت من قانون حمورابي في العراق. ففي إحدى الأعداد من حوليَّة “الحوار” نشر الدكتور أحمد محمد البدوي ورقة في غاية الأهمية عن “مواجهة القهر الاجتماعي”، حيث أورد في الورقة إيَّاها – فيما أورد – صنوفاً من التعذيب التي استخدمها زبانية النظام في السُّودان في بيوت الأشباح وفي ساحات المعارك ضد أسرى الحرب كالإعدام الصوري والطيَّارة قامت وغيرها، وعمليَّة استباحة المرأة، وتكلَّم عن المنفيين من النيل، وجهاز الدولة والاسترقاق المشروع، وسقوط الجامعة، والعامل القبلي في كل سلطة حكمت السُّودان. ولا سبيل إلى الشك في أنَّ الدكتور البدوي كاتب وباحث لا يشق له غبار.
أما في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة فقد اغتلظ الرومان وتفننوا في اختلاق أضراب التعذيب والقتل، ومن الأمثلة في هذا الشأن المجالدة والصلب (Gladiators and crucifixion) والمبارزة مع الوحوش الضارية حتى الموت، أو قتل الحيوان وغيرها من أساليب القتل. ففي أثناء التنقيب في سبيل إيجاد أرض سكنيَّة العام 2017م تمَّ العثور على قبر لأحد الأرقاء في منطقة فينستانتون في إنجلترا. والقرية التي توفي فيها هذا الرجل كانت تقع في الطريق الروماني الذي كان يربط بين أهم مستوطنتين رومانيتين هما كمبردج وقودمانشستر. وفي القبر إيَّاه وُجِد هيكلاً عظميَّاً لما يُعتقد أنَّه لعبد كان يتراوح عمره ما بين 25-35 عاماً، والذي قُتل بالرَّبط بالحبال، وتمَّ غرز مسمار يبلغ طوله 2 بوصة على كعبيه حتى لا يستطيع تحريك رجليه، ومن ثمَّ تمَّ تثبيته على خشبة من جذع شجرة البلوط في الشارع العام، وذلك كتحذير للآخرين حتى لا يحذوا حذوه فيما اقترف من خطيئة أو عصيان للأوامر العام 130م. ويبدو أنَّ القتيل قد مات خنقاً لأنَّ ذراعيه كانتا قد دُفعتا إلى الداخل بشدَّة حتى توقفت رئتاه عن التنفس. يعتبر هذا الهيكل العظمي الذي ظلَّ راقداً في رمسه لمدة 1900 عاماً في مقاطعة كمبردشير دليلاً على الأسلوب الروماني في ممارسة عقوبة الصلب. كان الصلب يشكِّل العنصر الأساس في العقوبة الجسديَّة في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة حتى ألغاه قسطنطين الأكبر العام 337م. وكان المسيح عليه الصلاة والسَّلام قد قُتل بالصلب، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، ﴿وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم﴾ (النساء: 40/157).
للمقال بقيَّة،،،