إستخدامات الأراضي والموارد الطبيعية بولايات كردفان .. ماذا هناك ؟ (3-3)
عادل شالوكا
في المقالين الأول والثاني تناولنا الخلفية التاريخية لإقليم جبال النوبة والمجموعات السُّكانية التي تقطنه وتاريخ كل منها في الإقليم – في هذا المقال (الأخير) نستعرض الأراض كمورد هام للثروة بالإقليم، والكيفية التي تمت بها إستغلالها في الماضي وإلى يومنا هذا، ولا زالت هنالك محاولات مستمرة للتغوُّل عليها وسوء إستغلالها وتهميش أصحابها.
جبال النوبة: الأرض والموارد:
تُقدَّر مساحات الأراضي الصالحة للزراعة في السُّودان بحوالي (400) مليون فدان، أي حوالي (105) مليون هكتار تُعادل ما نسبته (42%) من إجمالي مساحة السُّودان – “المصدر الفاو” – وهي عادة ما تحتل مناطق السافنا الفقيرة والغنية والأقاليم الإستوائية، لتشمل مناطق جنوب ووسط وشرق كردفان (منطقة جبال النُّوبة) حيث تُمثِّل إحتياطياً إستراتيجياً مهماً في رصيد الإمكانات والموارد القومية السُّودانية على النحو التالي:
1/ الثروة الزراعية والغابية : فهي تحتوي على ما يُزيد عن إثنين ونصف مليون هكتار (6 ملايين فدان) من الأراضي الزراعية الخصبة المُخطَطة، وما يزيد عن عشرة ونصف مليون هكتار (25 مليون فدان) من الغابات، وبها ما يزيد عن (4) ملايين رأس من الماشية، وتُعتبر الزراعة التقليدية هي عماد إقتصاد النوبة، وهي أحدى الأشياء التي تُميِّز النوبة عن بقية المجموعات السُّكَّانية المُجاورة لهم، وتنتج منطقة جبال النُّوبة حوالي (11%) من إنتاج البلاد بالنسبة لمحصول السِّمسم و(10%) من الذرة و(4%) من الدخن، وقبل الحرب كانت جبال النوبة تنتج ما يقارب نسبة (45%) من الذرة المُنتج في السُّودان بعد منطقة القضارف التي تنتج (47%). وتُمثِّل جنوب كردفان المصدر الأول والرئيس لإنتاج الصمغ السُّوداني في البلاد حيث يحتل السُّودان ما نسبته (80%) من حجم السوق العالمي في تجارة الصمغ، حيث تنمو وتتكاثر شجرة (“الأكشيا” – الهشاب) في سهول الإقليم بكثافة اقتصادية كبيرة – كما تُمثِّل المصدر الثاني لإنتاج السِّمسم السُّوداني بعد منطقة الزراعة الآلية في القضارف. وتُمثِّل المصدر الثاني في السُّودان لإنتاج القطن بعد إقليم الجزيرة.
وقطاع الزراعة الآلية في جبال النوبة تتملَّكه شريحة من الرأسمالية السُّودانية المُرتبطة بالكيانات الإجتماعية المُهيمنة على السُّلطة والثروة تاريخياً وهي مدعومة من الحكومات المركزية المُتعاقبة، فيأتون إما مُستثمرين بإمكانيات يوفِّرُها لهم البنك الزراعي السُّوداني الذي يدعم (الرأسمالية) بخلاف نظمه التي تقول بأن رسالته هي دعم صغار المزارعيين وفقراءهم !!. أو إنهم – أي تلك الشريحة – يعملون بالوكالة لقوى رأس المال المُرتبطة بالسُّلطة، فعلى الرغم من إن هذه الشريحة مُتمركِزة في المُدن الكبرَى بكردفان إلَّا أنها تُدير تجارتها بطرق إقطاعية حيث يأخذون ولا يعطون. فهم يهتمون فقط بجمع الأموال من خلال الإنتاج الزراعي وتجارة المحاصيل والمواشي ومن ثم إيداعها بحساباتهم في المركز، ويقومون بتعمير المركز على حساب سُكَّان الهامش، ولا يساهمون في تقديم أي خدمات صحية ولا تعليمية أو عمرانية في المناطق التي يستغِلُّون إنسانها ومواردها، فهم مستعمرون في ثوب وطني، علماً بأن الحيازة الزراعية التي يمتلكها أي (إقطاعي) من هؤلاء تتراوح مساحتها ما بين (400 – 850) هكتار وتصل الى (84,000) هكتار للشركات الكُبرَى العاملة في مجال الزراعة المطرية المُميكنة.
2/ الثروة المعدنية: تحتوي أراضي جبال النوبة على إحتياطي نفطي كبير جداً، بالإضافة إلى الذهب واليورانيوم، وتركيز اليورانيوم في المنطقة وصل إلى (2.6) – أكثر من المُعدَّل العالمي – وهذه النتائج تم التوصُّل إليها من خلال عينات من الحجارة الفسفورية والتي – عبر عمليات كيميائية – تُكوِّن ما يُسمَّي (بالكيكة الصفراء) التي تتكوَّن من الفوسفات المحتوى على تركيز اليورانيوم والذي وصل إلى (98%) حسب الدراسة. وقد أكَّدت الباحثة الأمريكية (سارة فلندرز) – فى بحث لها نشر فى يونيو 2006 فى مجلة البحوث الدولية (إن الموارد المُكتشفة حديثاً جعلت السُّودان أحد أهم المصالح الأمريكية، حيث به – بجانب النفط – ثالث أكبر إحتياطى لليوارنيوم فى العالم والذي يبلغ إحتياطيه (1,5) مليون طن. وأكَّدت إن هذا القدر الكبير من اليورانيوم يوجد معظمه فى منطقة جبال النوبة. وتقول دراسة أمريكية أخرَى إن إنتاجية جبال النوبة من الذهب واليورانيوم قد تصل لأكثر من (200) مليار دولار خلال مرحلة الانتاج الأولى المُنظِّم لعمليات التنقيب، إن كان هناك إتفاقاً وسلاماً حقيقياً تم التوصُّل اليه.
إذاً جبال النوبة تُمثِّل إحتياطي للـ(ذهب) لبنك السُّودان وإحتياطي (يورانيوم) لدول مفاعلات نووية أخرَي تسعَي لإمتلاك هذا المعدن الذي هو أغني في إنتاجه من إنتاجيات إحتياطي الذهب. فتحقيق السلام في جبال النوبة يمكن أن يجعل السُّودان واحدة من الدول الغنية جداً في القارة والعالم. كما تُوجد بالإقليم كميات كبيرة من خام الحديد تُقدَّر بحوالي (350) مليون طن. وطيلة حكم (الإنقاذ) كانت جبال النوبة تُعرَض للبيع لصالح شركات تنقيب وتعدين أجنبية. وإلى يومنا هذا فإن محاولات بيع وإستغلال أراضي جبال النوبة لا زالت مُستمرَّة.
الأراضي الزراعية في فترة الحكم الثنائي (الإنجليزي – المصري) :
وجَدت الإدارة البريطانية عندما أدخلت زراعة القطن بالمنطقة صعوبة في مُساعدة المزارعين النوبة لأن قبائل البقَّارة كانت قد إستولت على السِّهول الخصبة بصورة كاملة، وقد أولى البريطانيون إهتماماً خاصاً بمسألة نُدرة الأراضي الزراعية بالنسبة للنُّوبة، وهي واحدة من الأسباب الرئيسية التي قادتهم لفصل إقليم جبال النُّوبة فصلاً إدارياً كاملاً عن بقية كردفان عام 1914 وإنشاء مديرية جبال النُّوبة تحت حكم حاكم مُنفصِل، تلك السِّياسات التي أشغلت (السير/ أنجس جيلان – Sir/ Angus Gillan) الذي كان حاكماً لكردفان آنذاك والذي كان يرى ضرورة تنمية فيدراليات للنُّوبة لمعالجة قضاياهم والحفاظ على حضارتهم وثقافاتهم، وقد قسَّم الإقليم إلى مديريتين : المديرية الشمالية، وتشمل (مناطق النيمانق – الدلنج – الأجانق – الكواليب) و يديرها مأمور، المديرية الجنوبية : وتشمل مناطق (الميري، وكادقلي، وبقية المجموعات التي تقطن الجبال الجنوبية) وكُلِّف مأموراً أيضاً بإدارة المنطقة، وتبنَّت الإدارة سياسة تفضيلية للنُّوبة في توزيع الأراضي الزراعية لزراعتها بالقطن حيث صنَّفت الإدارة البريطانية الأراضي حول الجبال إلى ثلاثة مناطق:
(أ) – و تمتد من سفح الجبل إلى مسافة ثلاثة أميال منه.
(ب)- تمتد من ستة أميال أخرى إلى الخارج، المياه داخل هذه المنطقة للنُّوبة دون غيرهم بالإضافة إلى ذلك أُتيح للنُّوبة إستخدام ثلثي أفضل الأراضي الصالحة للزراعة والرعي والسَّكن، وكذلك مصادر المياه، دون غيرهم من المجموعات، ولم يسمح لغير النُّوبة بإستعمال هذه الأراضي إلاَّ بعد إستيفاء حاجة النوبة منها.
(ج)- تمتد من المنطقة (ب) إلى حدود إقليم جبال النُّوبة، وفي هذه المنطقة أُعطى للنُّوبة الحق في نصف الأراضي و المراعي ومصادر المياه.
و لكن نتيجة لتدخلات القوى الأجنبية، والإسترقاق، والحروب، تراجع النوبة إلى أعلى سفوح الجبال التي تُوفِّر لهم الحماية والأمان (البطحاني : ص 115).
و خلال الفترة من (1920 – 1956) وهي الفترة التي أُغلقت فيها حدود المنطقة لحماية النُّوبة من الإعتداءات، فقد بدأ السُّكَّان في الهبوط من الأماكن الحصينة بأعالي الجبال ليس فقط لممارسة الزراعة وحسب وإنما رغبةً منهم في الإستقرار في المناطق السهلية أيضاً، بيد أن الحكومة البريطانية كانت لديها أهداف وأسباب أخرى أيضاً لتوطين النوبة في السِّهول، و يقول الدكتور/ محمد سليمان في هذا الشأن :
(ان هذا التأقُلم الطبيعي الذي يحدث عادة في زمن السِلم كان مدعوماً برغبة الحكومة المركزية في إعادة توطين النُّوبة في السهول القريبة من مراكزها العسكرية بهدف إقامة شبكة إدارية فعَّالة لجمع الضرائب وفرض سيطرة الدَّولة التي أنهكتها المقاومة العنيدة للنُّوبة ضد النظام في الخرطوم).
وكان من أهم التغيُّرات التى حدثت فى شان الأراضي بجبال النُّوبة هو إدخال طرق الزراعة الحديثة في زراعة القطن كمحصول نقدي في العام 1925 بغرض زيادة إيراداتها، وللحد من هجرة النُّوبة إلى خارج المنطقة، وقد جلب نجاح إنتاج القطن والتوسُّع لاحقاً في مجال الزراعة الآلية إنتباه الشركات العالمية لجبال النُّوبة وبالتَّالي شد إنتباه الجلَّابة السُّودانيين أيضاً.
الأراضي و المشاريع الزراعية في عهد حكومات ما بعد الإستعمار :
كان توزيع الأراضي التي خُصِّصت للجلَّابة والنُخب المركزية والموالين لهم من المجموعات المحلية (البقَّارة) في عهد حكومات ما بعد فترة الحكم الثنائي (الإنجليزي – المصري)، يتم دون مسح حقيقي لخصوبة الأرض، والغِطاء الغابي والنباتى، ولإستخدام الأرض ومصادر المياه، وأدَّى غياب مثل هذه المعلومات إلى أن يجد المسئولين في و زارة الزراعة صعوبات جمة في إبداء النصح حول الدورات الزراعية والسِّياسات المحصولية المناسبة، وقد بلغت المساحة الكلية للمشاريع التي تم التصديق عليها لموسم (1959 – 1960) حوالي (10,000) فدان، وكانت هذه المشروعات في كل من : الدلنج (هبيلا) كادقلي (برام الطاش) ورجل الفولة (دنقر رأس) وأربعة مشاريع في رشاد (القردود وتويي) وحتى يُمكن فتح أراضي إضافية لتوفير الحبوب لمنطقة الجنوب وجبال النُّوبة، قرَّرت هيئة التنمية في عام 1959 توسُّعاً محدوداً من (70,000) فدان للزراعة في (هبيلا) و (الجديد المُطيمر) و(70,000) فدان أخرى بنظام الدورة من نفس المنطقة، وكانت الخطة العشرية قد نصَّت على زيادة أراضي الزراعة الآلية في جبال النُّوبة لتصل (300,000) فدان، ومعظم هذه الأراضي تم تخصيصها وتوزيعها محلياً لمجموعات البقَّارة المتحالفة مع الحكومة، والجلَّابة وبروقراطيّي الدَّولة، وذلك بتشجيع من الحُكَّام العسكريين والإداريين لإعتبارات تتعلَّق بالمصلحة، فالبقَّارة كانوا يشاركون الإدارة البريطانية في التجريدات العسكرية لقمع ثورات النُّوبة مثلما حدث في ثورة (الفكي علي الميراوي) و(السلطان عجبنا)، أما الجلَّابة فقد كانوا الحليف الإستراتيجي للبريطانيين منذ حملة (كتشنر) حيث ساعدوه في القضاء على حكم الخليفة (عبد الله التعايشي).
أُستحدِثت في العقود القريبة الماضية نظم إنتاجية بدعم مباشر من البنك الدولي ومؤسَّسات تنموية أخرى، وقد أحدث ذلك تحوُّلاً في العمليات الزراعية يمكن وصفه بالنظام شبه التقليدي، إذ يرتبط بالأسرة الواحدة كوُحدة إنتاجية، ويزرع نوع المحاصيل نفسها، ويقوم على أسس الملكية والإدارة نفسها، لكن مزارعه أكبر ويعتمد على الآلات. كما لم تسلَم المنطقة من التوسُّع الهائل في مشاريع الزراعة الآلية في العام 1970 والتي لم تتجاوز الـ(169) ألف هكتار (400) ألف فدان، إرتفعت إلى (422) ألف هكتار (مليون) فدان في العام 1992، وبلغت في نهايات القرن الماضي حوالي نصف مليون هكتار (1,2 مليون) فدان. وقد أزاحت الزراعة الآلية أساليب الزراعة التقليدية وتعرَّضت معيشة قبائل النُّوبة ونمط حياتهم لهزات كبيرة، فمشاريع الزراعة الآلية وسوء تخطيطها وإدارتها لم تفلح في تنمية مُجتمعات النوبة بقدر ما ساهمت في تسريع هدم النظام الإقتصادي للنوبة.
حروب الإبادة وإستغلال الأرض:
أقنعت الحكومة قبائل البقَّارة بالإنضمام إليها في حربها الأولى (1983 – 2005) ضد قبائل النوبة بتزويدها بالسِّلاح، ووعدها أياهم بإمتلاك أراضي النوبة الخصبة بعد تحقيق نصر سريع وخاطف عليهم، لكن الحرب إستمرت لسنوات طويلة ففقدوا العديد من أهلهم وأبقارهم، وقد أجبرتهم الخسائر الفادحة في مناطق عديدة للتفاوض المباشر مع النوبة لتحقيق السَّلام حيث وقَّع الطرفان عدة إتفاقيات سلام محلية أشهرها إتفاقية (البرام) 1993 – وإتفاقية (الرقفي) 1995 – وإتفاقية (الكاين) 1996، وقد إستفاد البقَّارة في الحرب الثانية التي إندلعت في العام 2011 من تجربة الحرب الأولى ولذلك لم يتجاوبوا مع الحكومة سوى في بعض المناطق مثل (أم برمبيطة، أبو كرشولا، الفيض أم عبد الله، والمناطق حول تلودي والليري وأبو جبيهة).
إن القضية الرئيسية التي أدَّت إلى تفجُّر النزاع المسلَّح في جبال النُّوبة بالإضافة إلى قضايا أخرى – ترتبط بـ(الثَّقافة، الهوية، والحقوق التاريخية) – هو تغوُّل الزراعة الآلية على الملكيات الفردية الصغيرة من الأراضي في مناطق النُّوبة، وقد أدَّى ذلك إلى إحداث تأثير كبير على الحياة الإقتصادية والإجتماعية للنُّوبة، وقاد في نهاية المطاف إلى تحطيم أواصر التَّعايُش السِّلمي مع قبائل البقَّارة. فقد قامت مؤسَّسة الزراعة الآلية التي أُنشأت في العام 1986 بتمويل من البنك الدولي، بالإشراف على نشر الزراعة الآلية في مناطق عدة من السُّودان بما منطقة هبيلا (تقع بين الدلنج ودلامي) في المنطقة الشمالية من جبال النُّوبة، وذلك منذ أواخر القرن العشرين، وتمتد المنطقة إلى (أم لوبيا، البيضا، كرندل، القردود، توس، كركراية، كرتالا .. ومناطق أخرى)، ويُقارب عددها (650) مشروعاً، ويبلغ مساحة الواحد منها حوالي (422) هكتار (ألف فدان) تم التَّصديق بها على أثر نزع أراضيها من أصحابها، لم تراع في توزيعها أي عدالة، كما إنها لم تُساهم بأي قدر في تنمية الإقليم، بل إن كل عائداتها يتم تحويله إلى خارج المنطقة، وحتى مؤسَّسة تنمية جبال النُّوبة التي تم إنشاؤها فى العام 1970 للمُساهمة بشكل مُباشر في تطوير القدرة الإنتاجية لطرق الزراعة التقليدية للنوبة، لم تُساهم كذلك بأي قدر يُذكر، إذ لم تُخصَّص إلا (37 %) من مساحة أراضيها وخدماتها إلى عشائر النُّوبة وخُصِّصت ما يقارب (45 %) منها القبائل العربية .. !!، و(19 %) الباقية تقاسمتها عشائر الفلَّاتة القادمة إلى المنطقة حديثاً من غرب السُّودان. ومن بين (200) مشروع للزراعة الآلية تمت مراجعتها بمنطقة هبيلا، والتي أُنشأت بتمويل من البنك الدولي والتي يدعمها البنك الزراعي التابع للدَّولة، مُنحت (4) عقود إيجار لمشاريع تعاونية محلية، كما مُنح عقد إيجار مشروع واحد لمجموعة من التُجَّار من هبيلا، ومُنحت (4) مشاريع لتُجَّار محليين. أما البقية والتي تبلغ (191) مشروعاً، فمُنحت لأفراد من غير أهل جبال النوبة من مؤسَّسة الجلَّابة المُتغيِّبين عن المنطقة، معظمهم تُجَّار وموظَّفين حكوميين وجنرالات مُتقاعدين من القوات النظامية من الشمال. وكانت الأرض التي تُعد للزراعة من قبل المواطنين المحليين تجلُب لها الحكومة الجرارات وتُمهدِّها للزراعة، وعندما يطلب منهم المُلَّاك المحليين الذهاب إلى موقع آخر، تقوم السُّلطات برفض ذلك.
و للزراعة الآلية طريقتان لسلب أراضي النُّوبة: هنالك مشاريع الزراعة الآلية التي تُخطِّطها الحكومة وتمنحها من الخرطوم عن طريق وزارة الزراعة، ودون وضع أي إعتبار لحقيقة الوضع في المنطقة، كما تُمنح لجلَّابة محليين ظلُّوا يقيمون في المنطقة لفترة طويلة تمكَّنوا من تجميع ثروات كبيرة، ولهؤلاء علاقات وثيقة بالخرطوم وبدوائر الحكومة المركزية بحكم إنهم أصلاً من الشمال، ولقد حاز هؤلاء على أراضي لأنفسهم ثم أوعزوا إلى ذويهم بإنهم أيضاً يستطيعون حيازة أراضي من خلال وزارة الزراعة، وهكذا تحالفوا من أجل الحصول على المزيد من الأراضي. وقد زاد حِدَّة التوتر نزوح رُعاة من القبائل العربية من غرب السُّودان إلى منطقة جبال النُّوبة وأراضيها الخصبة وهم من غير سكانها عام 1967 وذلك لتقلُّص نسبة هطول الأمطار إلى نصف المعدَّل السَّنوي بحثاً عن مكان إقامة لفترة طويلة الأمد أو دائمة في المنطقة المطيرة ذات الأراضي الخصبة، وتسارعت الأحداث بتأسيس الجلَّابة أصحاب المشاريع الزراعية الآلية وقبائل البقَّارة حلفاً مؤقتاً يستند إلى قوة السِّلاح مُتمثِّلاً في مليشيات المراحيل والفرسان التي إندمجت فيما بعد لتكوِّن كتائب الدِّفاع الشَّعبي بهدف تشريد سُكَّان المنطقة والإستيلاء على أراضيهم، وكانت حقبة الرئيس الأسبق جعفر نميري (1969 – 1985) هي نقطة التحوُّل التي تمكَّنت فيها القبائل العربية في المنطقة لأول مرة من ترجمة وجودها إلى وحدات إدارية مُعترفٌ بها من قبل السُّلطات المركزية، وتنظيم نفسها سياسيِّاً في المنطقة بشكل رسمي. وفي العام 1992 أعلنت حكومة ولاية جنوب كردفان عن كشف تلاعُبات وتجاوزات خطيرة في تصديقات أراضي الزراعة الآلية بجنوب كردفان. وقد قامت بنزع (712) مشروعاً زراعياً في مناطق : (كرتالا – هبيلا القديمة – الجديدة – البيضا – رشاد – أبوجبيهة) بحُجَّة أن بعضها كان ممنوحاً لأطفال، وإن بعضها تم بيعه أو تأجيره من الباطن مُخالفة للقوانين. غير إن الحكومة قامت بإتخاذ تلك الإجراءات بغرض إعادة توزيعها لقيادات المليشيات ومشايخ قبائل البقَّارة مُكافأةً لهم لمشاركتهم في عمليات (دحر التمرُّد) في المنطقة، وكانت محاولة مكشوفة من الحكومة لخلق قواعد موالية لها في الإقليم.
سياسة إنشاء (محلِّيات) جديدة في الإقليم:
خطَّط نظام (الإنقاذ) – الذي يقوده المؤتمر الوطني – (كأسوأ نظام عنصري مر على حكم السُّودان) لإنشاء عدة (محلِّيات) جديدة في جنوب كردفان بإستخدام نفوذه والإستفادة من سيطرته السِّياسية على الإقليم – وفقاً لمُعادلة تقسيم السُّلطة (55%) للمؤتمر الوطني، و(45%) للحركة الشعبية لتحرير السُّودان – حيث بلغت المحليات في الإقليم (19) محلية خلال الفترة الإنتقالية. وبعد إندلاع الحرب الثانية في العام 2011 تم إضافة محلِّيات أخرى (محلية الليري/ محلية كالوقي/ محلية الترتر/ محلية التضامُن/ محلية قدير). ومُعظم هذه المحلِّيات تم إنشاؤها دون إستيفاء معايير وشروط إنشائها، ولكنها أُنشأت لتحقيق أهداف إستراتيجية تتعلَّق بالسيّطرة على الأرض وإستخداماتها، وفرض مجموعات سُكَّانية مُحدَّدة على حِساب مجموعات النوبة كسُّكان أصليين في تجاوز مُتعمَّد لحقائق التاريخ. فضلاً عن سعي الحكومة لتنفيذ الأجندة الأمنية، العسكرية، والحربية من خلال هذه المحلِّيات وذلك بتجنيد وتحريض المجتمعات في هذه المناطق ضد النوبة. وما حدث في جبال النوبة من نزع الأراضي من السُّكَّان الأصليين حتَّى الذين تحصَّلوا عليها بطرق شرعية من مصلحة الأراضي، أو الذين إشتروها بحُر أموالهم وغالبهم غير موجودين الآن في مناطقهم نتيجة لإستهدافهم، يصب في إطار هذه الإستراتيجية، فحتَّى الإحصاء السُّكَّاني الذي تم إجراؤه في الولاية (كما ذكرنا في المقال الأول) هدف إلى تغليب المُكوِّنات السُّكَّانية الأخرى على النُّوبة من حيث الكثافة، توطئة لتهميش النُّوبة إقتصادياً وتنموياً، تمهيداً لتنفيذ الأجندة السِّياسية والعنصرية الإستراتيجية لتغيير التركيبة الديموغرافية للإقليم، فوقفت الحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان ضده وتمَّت إعادته مرة أخرى، حيث بلغ عدد السُّكَّان بعد إعادة الإحصاء (2,508,268) نسمة وكان التِّعداد المزوَّر يبلغ حوالي (1,400,000) فقط !! .. والذي أظهر كثافة سُكَّانية ضعيفة في مناطق النُّوبة. على سبيل المثال كان التِّعداد في مناطق (صبوري و لقوري) بشرق كادقلي – فقط (9) أشخاص ..!!. والأمثلة كثيرة. وبعدها تم تزوير الدوائر الجغرافية أيضاً وتوزيعها على أساس عُنصري يهدف إلى تمكين بعض المجموعات الموالية للنظام سياسيِّاً وثقافياً من جهة، ومن جهة أخرى لضمان فوز المؤتمر الوطني في إنتخابات 2010، وهو تزوير مُبكِّر لها آنذاك.
وعليه فإن أي سياسات أو خطط للأرض وإستخداماتها، أو أي قوانين تتعلَّق بهذا الشأن، يجب أن تستند على الحقائق التاريخية. ولقد قصدنا في هذه السلسلة إبراز هذه الحقائق وعكس حجم الإستهداف لتعرف الأجيال الحالية والقادمة ما حاق من ظلم وإستغلال للأرض والإنسان في جبال النوبة، وهذه الحقائق تساعدنا جميعاً لرسم مستقبل جديد وبناء مجتمع مُتعايش سلمياً – إن قبل الجميع بالحقائق، وتم الإعتراف بالحقوق التاريخية.
المراجع العربية:
1/ د – محمد سليمان محمد- السُّودان :حروب الموارد و الهويَّة – دار كمبردج للنشر – الطبعة الأولى 2000.
2/ بروفيسور/ عطا الحسن البطحاني – جبال النوبة : الإثنية السِّياسية و الحركة الفلاحية (1924- 1969) – دار عزة للنشر و التوزيع – 2009.
3/ محمد الزين علي النور – كردفان: الموارد الطبيعية والبشرية والمساهمة في الدخل القومي – 28 أغسطس 2012م
4/ الشبكة العنكبوتية – (تراثيات حازمية – 30 أبريل 2020).
المراجع الإنجليزية:
(1) – Wakiss Lloyd, Appendix D: Report on Kordofan Province (Durham: Sudan Archives: 783/9/40–86, Durham University Archive, 1908),. (ص 140).
(2) – Sagar, “Notes on the History, Religion and Customs of the Nuba,” Sudan Notes and Records 5 (1922): 137–56; (ص 138)
(3) -Babiker 1985 ص 38) (A.A.,H.A. Musnad, and H.Z.shadad. 1985. Wood resources and use in the Nuba Mountains,in H.R.J. Davies, ed., Natural Rerources and Rural Development in Arid Lands : Case Studies from sudan, Tokyo : United Nations University Press: 30 – 59.
(4) – Guma Kunda Komey – Land Governance Conflict & the Nuba of Sudan- Eastern Africa Series 2010 (ص 199 -200)
5))- Siegfried F. Nadel, The Nuba: an Anthropological Study of the Hill Tribes of Kordofan (London: Oxford University Press, 1947),
(6)- MacDiarmid “The Languages of the Nuba Mountains – 1931 (: ص 1- 160)
(7)- Gillan.A: Arab-Nuba Policy (Arab Overlordship) in 1930 – Sudan Archive: SAD 723/8/10–13,- (Durham: Durham University Library), (ص 8)
(8)- Barbour K.M., ‘The Wadi Azum from Zalingei to Tlurnei’, Sudan Notes and Records, vol. 6: 111.
(9)- Meyer, Gabriel. 2005 War and faith in Sudan, New York : William B. Eerdman Puplishing Campany.
(10)- Ylonen,Aleksi 2009 : Marginalization and Violence : considering origins of insurgency and peace implementation in the Nuba Mountains of Sudan. ISS Paper 201 (October) .Pretoria ,South Africa. ) (ص 14
(11)- Mohamed Salih, M. Abdel Rahim. “Resistance and Response: Ethnocide and Genocide
in the Nuba Mountains, Sudan.” Geo-Journal 36, no. 1 (1995): 71–78.
(12)- Wakiss Lloyd, Appendix D: Report on Kordofan Province (Durham: Sudan Archives: 783/9/40–86, Durham University Archive, 1908),. (ص 55)
(13)- C. G. Seligmann: “Some Aspects of the Hamitic Problem in the Anglo-Egyptian Sudan,” The Journal of the Royal Anthropological Institute of Great Britain and Ireland 43 (1913): 593–705;
(14)- MacMichael, Harold A: The Tribes of Northern and Central Kordofan. London: Frank
Cass, 1912/1967. (ص 3)
(15)- Hawkesworth, D. “The Nuba Proper of Southern Kordofan.” Sudan Notes and Records
15 (1932): 159–99..
(16)- K. D. D. Henderson, “A Note on the Migration of the Messiria Tribe into South-West Kordofan,”Sudan Notes and Records 22, no. 1 (1939): 5 .
(17)- MacMichael, Harold A: The Tribes of Northern and Central Kordofan. London: Frank
Cass, 1912/1967.
(18)- Trimingham, Islam in the Sudan, 29. ص) 6)
(19)- Saavedra, M. “Ethnicity, Resources and the Central State: Politics in the Nuba Mountains, 1950 to the 1990s.”( ( ص 225
(20)- Wakiss Lloyd, Appendix D: Report on Kordofan Province (Durham: Sudan Archives: 783/9/40–86, Durham University Archive, 1908,. (ص 55)
(21)- Sagar, “Notes on the History, Religion and Customs of the Nuba,” Sudan Notes and Records 5 (1922): 137–56; (ص 139)
(22)- Wakiss Lloyd, Appendix D: Report on Kordofan Province (Durham: Sudan Archives: 783/9/40–86, Durham University Archive, 1908,.
(23)- K. D. D. Henderson, “A Note on the Migration of the Messiria Tribe into South-West Kordofan, (1939)”Sudan Notes and Records 22, no. 1: 5
(24)- Ian Cunnison, Baqqa-ra Arabs: Power and Lineage in a Sudanese Nomad Tribe (Oxford: Clarendon Press, 1966);
(25)- Wakiss Lloyd, Appendix D: Report on Kordofan Province (Durham: Sudan Archives: 783/9/40–86, Durham University Archive, 1908,. (ص 55)
(26)- Jay Spaulding : A Premise for Precolonial Nuba History,” History in Africa 14 (1987),370–71; (ص 373)
(27)- David Roden, “Changing Pattern of Land Tenure amongst the Nuba of Central Sudan,” Journal of Administration Overseas 10 (1975),
(28)- Rottenburg ,Richard -1983 three spheres in the economic life of the Moro Nuba of South Kordofan , Zwischenberichte des Sudanprojekts: 1-9.
(29)- Simon Harragin, Nuba Mountains Land and Natural Resources Study: Part 1—Land Study (Missouri: University of Missouri and USAID,2003).
(30)- Siegfried F. Nadel, The Nuba: an Anthropological Study of the Hill Tribes of Kordofan (London: Oxford University Press, 1947), (ص 16 – 17)
(31)- Stevenson, R. C. The Nuba People of Kordofan Province: an Ethnographic Survey. Graduate College Publications Monograph 7. Khartoum: University of Khartoum, 1965. (ص47)
(32)- K. D. D. Henderson, “A Note on the Migration of the Messiria Tribe into South-West Kordofan,”Sudan Notes and Records 22, no.1 (1939): 5 (ص 5)
(33) – Ian Cunnison, Baqqa-ra Arabs: Power and Lineage in a Sudanese Nomad Tribe (Oxford: Clarendon Press, 1966); (ص 1)
(34)- K. D. D. Henderson, “A Note on the Migration of the Messiria Tribe into South-West Kordofan,”Sudan Notes and Records 22, no. 1 (1939): 5
(35)- Ian Cunnison, Baqqa-ra Arabs: Power and Lineage in a Sudanese Nomad Tribe (Oxford: Clarendon Press, 1966);
(36)- MacMichael, Harold A: The Tribes of Northern and Central Kordofan. London: Frank
Cass, 1912/1967.
(37)- K. D. D. Henderson, “A Note on the Migration of the Messiria Tribe into South-West Kordofan,”Sudan Notes and Records 22, no. 1 (1939): (5 (ص 58
(38)- Gillan.A: Arab-Nuba Policy (Arab Overlordship) in 1930 – Sudan Archive: SAD 723/8/10–13,- (Durham: Durham University Library), (ص 8)
(39)- K. D. D. Henderson, “A Note on the Migration of the Messiria Tribe into South-West Kordofan,”Sudan Notes and Records 22, no. 1 (1939): 5 (ص 26),
(40)- MacMichael, Harold A: The Tribes of Northern and Central Kordofan. London: Frank Cass, 1912/1967. (ص 52 – 151)
(41)- Warburg . Gabriel 1970 . The Sudan under Wingate : Administration in the Anglo-Egyption Sudan 1899-1916, London : Frank Cass & Co Ltd. (ص 144).
(42)- MacMichael, Harold A: The Tribes of Northern and Central Kordofan. London: Frank Cass, 1912/1967. (ص 53 – 140)
(43)- Ibrahim, Agricultural Development Policy, Ethnicity and Socio-political Change- (1988/1998).
(44)- Ignatius Pallme, Travels in Kordofan (London: J. Madden and Co. Ltd., 1844); W. J.
(45)- Wakiss Lloyd, Appendix D: Report on Kordofan Province (Durham: Sudan Archives: 783/9/40–86, Durham University Archive, 1908),.
(46)- MacMichael, Harold A: The Tribes of Northern and Central Kordofan. London: Frank
Cass, 1912/1967.
(47)- K. D. D. Henderson, “A Note on the Migration of the Messiria Tribe into South-West Kordofan,”Sudan Notes and Records 22, no. 1 (1939): 5
(48)- Wakiss Lloyd, Appendix D: Report on Kordofan Province (Durham: Sudan Archives: 783/9/40–86, Durham University Archive, 1908),. (ص 55).
(49)- MacMichael, Harold A: The Tribes of Northern and Central Kordofan. London: Frank
Cass, 1912/1967.
(50)- C. G. Seligmann: “Some Aspects of the Hamitic Problem in the Anglo-Egyptian Sudan,” The Journal of the Royal Anthropological Institute of Great Britain and Ireland 43 (1913): 593–705;
(51)- Stevenson, R. C. The Nuba People of Kordofan Province: an Ethnographic Survey. Graduate College Publications Monograph 7. Khartoum: University of Khartoum, 1965.
(52) -Siegfried F. Nadel, The Nuba: an Anthropological Study of the Hill Tribes of Kordofan (London: Oxford University Press, 1947),
(53)- Stevenson, R. C. The Nuba People of Kordofan Province: an Ethnographic Survey. Graduate College Publications Monograph 7. Khartoum: University of Khartoum, 1965.
(54)- Siegfried F. Nadel, The Nuba: an Anthropological Study of the Hill Tribes of Kordofan (London: Oxford University Press, 1947),
(55)- David Roden, “Changing Pattern of Land Tenure amongst the Nuba of Central Sudan,” Journal of Administration Overseas 10 (1975),
(56)- Simon Harragin, Nuba Mountains Land and Natural Resources Study: Part 1—Land Study (Missouri: University of Missouri and USAID,
2003).
(57)- Gillan .A (some by Aspects of Nuba Administration) Sudan Government Memorandum, University of Khartoum
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.