مائتا عام على اسئلة تأسيس الدولة السودانية

بقلم عثمان نواى

 

يعتقد الكثير من المؤرخين ان الدولة السودانية بشكلها الحديث، وخاصة عملية انشاء نظام حكم شبه مركزى ورسم الخارطة الجغرافية الحالية للبلاد، قد بدأت مع دخول الأتراك الى السودان فى عام ١٨٢١. وفى العام القادم سوف يمر على ذلك التاريخ مائتى عام بينما تظل اسئلة البناء الوطنى قائمة. وقبل مائة عام من الآن فى مطلع عشرينيات القرن الماضي أيضا، بدأت بذرة الحركة الوطنية فى السودان نحو التحرر من الاستعمار فى الخرطوم ووسط المتعلمين ،متأثرة بالحراك المصرى التحررى فى عام ١٩١٩. حيث بدأت فى مطلع العشرينات نواة الجمعيات الوطنية مثل جميعة الاتحاد السودانى، التى يعتبر على عبد اللطيف أحد أعضائها المؤسسين كما يعتقد بعض المؤرخين، وهو الرجل الذى قاد اول ثورة وطنية ضد الاستعمار فى داخل الخرطوم عام ١٩٢٤.

وعلى الرغم من ان الحراك الوطنى ضد المستعمر قبل مائة عام بدأ فى الخرطوم فى مطلع العشرينات من القرن الماضي ، الا ان شعوب السودان فى مناطق الجنوب وجبال النوبة و دارفور كانت فى حراك مقاومة مستمر ضد الاستعمار. فلم يتمكن الانجليز من اخضاع دارفور الا عام ١٩١٦، كما أن جنوب السودان شهد ثورات ومقاومة مستمرة حتى مطلع العشرينات. أما جبال النوبة فقد شهدت اكثر من عشرين ثورة ضد المستعمر منذ دخوله وحتى منتصف العشرينات، كان أحد أبرزها ثورة السلطان عجبنا وابنته مندى الباسلة. وهنا ربما نرى شيء من توازى التاريخ مع حراك المقاومة الشعبية ضد النظام السابق الذى استمر لسنوات طويلة من أطراف السودان حتى اشتعل فى الخرطوم ، ليسقط نظام المشروع الحضارى، الذى يحمل فى طياته أجندة أسلمة الدولة بادوات لا تقل عنفا عن الاستعمار.

ومن المهم الإشارة الى ان الحراك الوطنى ضد الاستعمار من الخرطوم الذى بدأ مطلع العشرينات، كان نتيجة رد فعل من قبل الاجيال الجديدة من الشباب المتعلمين ضد مواقف القوى الدينية والقبلية والطائفية التى قدمت فروض الولاء والطاعة للانجليز فى إبان الثورة المصرية عام ١٩١٩، مؤكدة ان السودان الذى مثله أولئك القادة لا يؤيد الثورة المصرية وقتها التى تدعو الى التحرر من الاستعمار . بل ان السادة المراغنة والسيد عبد الرحمن المهدى وكثير من قادة الصوفية والقبائل وقعوا على ما سمى بسفر الولاء للانجليز تأكيدا على ان السودان تحت قيادتهم لا رغبة له فى التحرر او الانعتاق من الاستعمار. ونفس هؤلاء الموقعين على سفر الولاء كانوا هم الذين وقعوا على عريضة أخرى تدين ثورة على عبد اللطيف المعروفة بثورة اللواء الأبيض عام ١٩٢٤ وبل وصفوا قائد الثورة بأنه مجرد ” مشرد من الشوراع” لا اصل له. وربما كان على عبد اللطيف وزملاؤه الشباب الذين اختاروا طريق الشارع والثورة بدلا عن الانحناء للمستعمر، أو على الأقل المعارضة الناعمة التى اختارها غيرهم من المتعلمين وقتها، ربما كان يمثل الرعيل الأول من ” الجيل الراكب راس” فى الحراك الثورى وتاريخ التحرر الوطنى السودانى، وبرؤية سودانية جامعة، التقى فى كثير من جوانبها مع ثورة ديسمبر المجيدة التى تمر ذكراها الثانية هذه الأيام. وعلى خطى على عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ الذى مات مستتشهدا على مدفعه فى مواجهة نيران الانجليز، سار الشهيد عباس فرح شهيد المتاريس والشهيد خليل ابراهيم “الذى تمر ذكرى استشهاده هذه الأيام “، وغيرهم ممن حلموا بوطن سودانى يسع الجميع ودفعوا ثمنه أرواح غالية، رغم استمرار المتحالفين من القوى التى تناهض تحرر السودانيين سواء من مستعمرى الخارج او من المهوسين الدينيين فى الداخل، وهم يستمرون فى محاولة هزيمة روح التحرر الثورى المتقدة فى الشعب السوداني واجياله الشابة المتطلعة للتغيير فى مختلف الحقب .

وبمرور مائتي عام على بداية الدولة السودانية الحديثة على يد الاستعمار التركى، ومرور مائة عام على تشكل الحراك الوطنى السودانى الذى توازى مع اكتمال سيطرة المستعمر على أطراف السودان الثائر فى جبال النوبة وجنوب السودان ودارفور ،وبالتالى تشكل خريطة السودان الجغرافية والديمغرافية الحالية ، فإن السودان الان وفى ذكرى ثورة ديسمبر الثانية يمر بذات مرحلة سؤال الوجود، وأسئلة رسم خارطة البلاد السياسية والاجتماعية وأيضا حدوده السيادية كما حدث فى القرنين الماضيين. وعلى الرغم من ان البعض ربما يرى ان الفارق بين ١٨٢١ و١٩٢١ و٢٠٢١ هو ان السودان الان لا يخضع لاستعمار دولة اجنبية، الا ان السودان ،ولأول مرة فى تاريخه الحديث يصبح عرضة لكم هائل من الضغوط والتدخلات والمهددات الإقليمية التى تطال سيادته على المستوى الاقتصادي والسياسي والعسكرى. فقد كانت لصفقات النظام السابق فى محاولة البقاء اثاركارثية جعلت من السودان رقعة شطرنج يلعب عليها كل القوى المتصارعة فى إقليمي الشرق الأوسط والقرن الأفريقي . وبالتالى فإن وضعية السودان فى ما يتعلق بمسالة التحرر الوطنى الان ،ربما أصبحت اكثر تعقيدا مما كان عليه الحال قبل مائة او مائتين عام ،حينما كان الخطر واحدا وواضحا. أما الان فإن تعدد المهددات والمخاطر وتعقيدات العلاقات بين الأطراف الداخلية والخارجية تزيد المشهد الوطنى تعقيدا.

ومع كل تلك التحديات، يبقى سؤال البناء الوطنى وتاسيس الدولة السودانية قائما بقوة حتى بعد مائة عام من بدأ الحراك الوطنى السودانى. فتظل بنية الدولة ومؤسساتها محل تساؤلات وجودية وتاسيسية كبرى. بل ويظل النظام السياسي والاجتماعى ومحددات الانتماء الوطنى نفسها محل جدال لم يتم حسمه بعد. ورغم ان الوثيقة الدستورية واتفاق السلام وما يتم التفاوض حوله لاكمال السلام ربما يشكل قاعدة بناء وتاسيس جديد للدولة السودانية، الا ان العقلية التى فرطت فى مائة عام سابقة من فرص البناء الوطنى ربما لا زالت هى المسيطرة على مقاليد الأمور، مما يهدد معطيات الانتقال والعبور نحو دولة المؤسسية والحقوق عبر بوابة القرن الثالث من تاريخ انشاء الدولة السودانية الحديثة.

وعلى أبواب المئوية الثالثة لتأسيس الدولة المركزية الحديثة فى السودان ،تتجدد الشكوك حول ما إذا بالإمكان تجاوز ما تراكم من أخطاء دون مراجعة واعتراف بها. كما ان تراجيديا أبطال الحراك الوطنى الذين تعثرت خطاهم بين خيانة الزملاء وقمع السلطات الحاكمة يبدو أنه تاريخ مزمن التكرار. فقد توفى على عبد اللطيف بطل التحرر الوطنى السودانى وحيدا فى مصر بعيدا عن أسرته ولم يذكره او يكرمه احد فى السودان لا ايام الاستقلال ولا بعدها. ولم يذكره احد الا فى عهد نميرى. وذلك بعد ان قضي معظم شبابه داخل السجن ثم منفيا خارج البلاد. ان بناء رموز وروح الانتماء الوطنى للشعوب تبدأ من قدرة قادتها على تقدير وبل تقديس نضال ابطالها وذلك بتحقيق أحلامهم التى ضحوا لأجلها. والآن بينما نمر قريبا جدا من نضالات شباب وشابات لازالت جراحهم مفتوحة وقبورهم رطبة، فإن مصير على عبد اللطيف، وبعد عامين من الثورة الديسمبرية، يلوّح لنا من التاريخ، ويطرح التساؤلات حول قيمة التضحية اذا لم نتعلم قيمة الوطن نفسه. وبينما نتقدم بخطى مترددة نحو المئوية الثالثة من عمر الدولة السودانية، فإنه على عاتق الاجيال التى تحكم اليوم تذكر انه فى يدها مصير الوطن لمائة عام قادمة. فهل نكرر التاريخ ام نتعلم دروسه ونعبر من بوابة هذا القرن الجديد نحو تقدير قيمة التضحيات التى قدمت فى كل السودان من أجل الحرية والمساواة والسلام عبر المائتين عاما الماضية؟! .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.