في رثاء رفيقي “قوقادي أموجا” (أمين زكريا إسماعيل): تتوالى علينا الفواجع بآلامها

الدكتور قندول إبراهيم قندول [email protected]

في نهاية أبريل والأسبوع الأول من مايو ويونيو الماضي أقامت “الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال”، و”رابطة جبال النُّوبة العالميَّة”، و”مركز جبال النُّوبة للحوار والتخطيط الاستراتيجي” تأبيناً للراحل “قوقادي أموجا”، المعروف ب “أمين زكريا إسماعيل أسو” عدَّدت فيهما مآثره الكثيرة. اليوم يتجدَّد بكاؤنا عليه حاملاً معه الألم الدفين في أعماقنا والأحزان والأوجاع الكثيرة. بحق لقد فقدنا أخاً كريماً، الكرم الذي كان من أفضل وأشرف خصاله. لقد كان كثير العطاء معنوياً ومادياً. فمعنوياً كان يقضي جلَّ وقته في الكتابة والتواصل والحديث في المنابر والمناسبات المختلفة من أجل القضية.  ومادياً كان ينفق من حرِ ماله البسيط على المحتاجين ويساعدهم بسخاء دون رياء ولا غرور لأنَّه كان يرى أنَّ حاجتهم إليه كانت أكبر.
ولكن للقدر أحكام، فقدوه وهم في أمس الحاجة إليه. تركهم وراءه دون سابق إنذار، وصمت عنهم أحد الأصوات التي كانت تدافع عن حقوقهم، وتدعو لإنصافهم. نعم، تركهم يتحسَّسون مواضع أقدامهم الحافية وأياديهم الفارغة وقلوبهم المفجوعة وعيونهم الدامعة. إنَّ القراءة الصحيحة لتاريخ “قوقادي” تعطينا فكرة بأنَّه عاش حياةً كرَّسها كلها في الدفاع عن المظلومين مثل والده “زكريا إسماعيل أسو”. فللذين لا يعلمون وقف “زكريا إسماعيل” إلى الجانب الصحيح من التاريخ مع قضايا أهله في ستينيات القرن الماضي، ودافع عن حقوقهم ضمن الرعيل الأول من قادة اتحاد عام جبال النُّوبة الذين دخلوا الجمعية التأسيسيَّة.  ففي هذا الجانب لا يسعنا إلا القول إنَّ إسماعيل زكريا غرس في أبنائه تربية ثوريَّة ثرة للدفاع عن أهله الذين وقعت عليهم المظالم الكبيرة والكثيرة.  وكما يُقال “لا تقع الثمار بعيدةً عن الشجرة”. ف “قوقادي أموجا” سبق أخاه الدكتور “أحمد زكريا إسماعيل” الذي ضحى بمهنته كطبيب واختار الانخراط والعمل في صفوف الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان لتقديم خدماته بلا مقابل مادي، إلى أن رحل وهو ثابت على القضية. وتعتبر هذه التضحية امتداداً لما بدأه والدهما.
كانت هذه الخلفية مهمة وضرورية لكي أسجِّل تجربتي الشخصية مع الراحل، التجربة المرتبطة بقضايا جبال النُّوبة والهامش، وتعكس مواقفه تجاه هذه المسألة المحوريَّة. إنَّ علاقتي ب “قوقادي” تعود إلى عشرات السنين بعد وصوله من السُّودان إلى مدينة أرلينغتون بولاية فيرجينيا الأمريكيَّة، وكنت حينها مواطناً مقيماً بمدينة أوماها بولاية نبراسكا. لم نكن نعرف بعضنا، ولكن ثمة أمور مشتركة كثيرة كانت تجمعنا وتربطنا وجدانياً. كان الرابط المشترك الأعظم هو “قضية جبال النُّوبة”، التي كانت القضية الجوهريُّة لنا جميعاً في أمريكا الشماليَّة. جرى الحديث كثيراً وطويلاً وتكراراً حول كيفيَّة إيصال القضية إلى المجتمع الدولي وبصورة خاصة ومباشرة إلى مركز صنع القرار الأمريكي. نعم، هذا بحق ما كنا في البحث الدؤوب عنه. بذل “قوقادي” والذين معه جهوداً كبيرة ومقدًّرة تكلَّلت بتأسيس أقوى تنظيم مجتمعي في أمريكا يمثِّل النُّوبة، وهو “رابطة جبال النُّوبة العالميًّة- الولايات المتحدة الأمريكيًّة للقيام بذلك الدور.
توالت اللقاءات المباشرة بيننا أهمها أثناء تأبين الشهيد الأستاذ المعلِّم يوسف كوة مكي في ذات المدينة، في أبريل ٢٠٠١م.  في ذلك التأبين استطاع “قوقادي” بعلاقاته الواسعة أن يجمع عدداً كبيراً من المشاركين من الأمريكيين وغيرهم، ومن السُّودانيين بمختلف انتماءاتهم الحزبيَّة، وبصفة خاصة أهل الهامش السُّوداني. في نهاية نوفمبر ٢٠٠٢م، اتصل بي “قوقادي” عارضاً عليَّ ضرورة الذهاب معه إلى “كاودا” لحضور “مؤتمر كل النُّوبة الأول” والذي انعقد في الفترة ٢-٥ ديسمبر ٢٠٠٢م.  لم أتردَّد أبداً في تلبية الطلب لسببين: الأول الرغبة الأكيدة في الوقوف مع الثوار في أرض الواقع والإلمام بحالهم ولرفع روحهم المعنويَّة. بطمأنتهم أنَّنا في دول المهجر مهمومين بهم، فضلاً عن نيتي لزيارة قبر الشهيد يوسف كوة مكي ورفاقه بقرية “لويريه”.  كان السبب الثاني هو اغتنام الفرصة لتقديم ورقة علميَّة عن قضية الأرض، والزراعة والإصلاح الزراعي في جبال النُّوبة، في فترة ما بعد السلام الذي كانت بوادره تلوح في الأفق.  وللأمانة التاريخيَّة لقد ألح لي “قوقادي” بكتابة تلك الورقة لأهميتها لدرجة أنَّني لم أتمكَّن من ترجمتها وطباعتها باللغة العربيَّة لضيق الوقت إلى أن وصلنا نيروبي حيث قام بطباعتها الرفيق محمد كمبال، بعد الترجمة التي تمت في الطائرة.
أثناء السفر عرفت أي معدنٍ من المناضلين كان “قوقادي”، وما يبرِّر اعتقادي أنَّي لاحظت في الطائرة أنَّه لم ينام فسألته عن السبب فذُهِلتُ بإجابته.  كنت أتوقَّع منه الإجابة على شاكلة: “كنت أفكِّر في أسرتي وزوجتي وابني “كوكو أو إسماعيل”، اللذين تركهما وراءه في السُّودان.  ولكنه قال: “أفكِّر في المؤتمر: كيف وماذا سأقول لأهلي في المناطق المحرَّرة؟ هل سنعتذر لهم لتقصيري في عدم الانخراط فعليَّاً في الحرب والبقاء معهم؟”  لقد استبعد فكرة الاعتذار لأنَّها غير كافية ولا تساوي التضحيات التي قدَّمها المناضلون الآخرون تجاه القضية، لأنَّه كان يعلم علم اليقين أنَّ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وصلنا نيروبي وكان معنا كمرد دانيال أندراوس، فالتقينا بمجموعة نيرة من المهمومين بالقضية مثل الأخ الصديق الدكتور عمر مصطفى شركيان قادماً من بريطانيا، والأخ عثمان كورينا وكامل كوة مكي، والأخت آمنة ناجي، ثلاثتهم قادمين من هولندا، وآخرين من دول مختلفة لن يسمح المجال لذكرهم جميعاً. وكما التقينا بالشهيد الأب فيليب عباس غبوش والشهيد محمد حماد كوة اللذان أتيا من كمبالا بعد حضورهما مؤتمراً دعت له الحكومة السُّودانيَّة لقطع الطريق أمام مؤتمر كاودا حتى لا يقوم أو لإفشاله في كأحسن نتيجة.
في نيروبي انخرط “قوقادي” في اجتماعات مطوَّلة مع القيادة لوضع اللمسات الأخيرة لمغادرة كينيا إلى المنطق المحرَّرة في جبال النُّوبة التي وصلناها عصر يوم ٣٠ نوفمبر ٢٠٠٢م، قبل موعد الإفطار الرمضاني بقليل. في مكان الإقامة قضينا الليلة الأولى في ضيافة القادة، دون ذكر الرتب: “إسماعيل خميس جلاب” و”دانيال كودي أنجلو”، وعزت كوكو، وكوكو إدريس، والشهيد “محمد جمعة نايل” وآخرون من قادة الحركة. ومن المدنيين الرفيق الدكتور أحمد عبد الرحمن سعيد، والرفيق اللازم سليمان، والرفيق علي عبد الرحمن جُرُّو وغيرهم، وهؤلاء جاءوا من نيروبي.
كان “قوقادي” يعمل بكدٍ وبلا ملل مع القيادة في كاودا لوضع جدول أعمال المؤتمر، مواصلاً الليل بالنهار قبل وصول الوفد الرئيسي من نيروبي بقيادة القائد عبد العزيز آدم الحلو الذين تأخَّرت طائرتهم للوقوف “بنيو سايت” لتقل رئيس الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، الدكتور جون قرنق دي مبيور لافتتاح المؤتمر. تمت إقامة ثلاثتنا (هو والدكتور شركيان وشخصي) في قطية واحدة، وفيها شهدنا بأنفسنا وشاهدنا بأعيننا أنَّ “أميناً” لم ينل قسطاً كافياً من الراحة لأنَّ قد آلت إليه مسؤولية سكرتارية المؤتمر.  في اليوم الثاني من ديسمبر، وفي قاعة المؤتمرات الكبرى برزت أزمة كادت أن تنهي المؤتمر قبل انعقاده، كما أشرنا، غير أنَّ لم يكن هناك اختراق من نظام الإنقاذ حتى لا نتهم أحداً بالخيانة.  تدخل “قوقادي” بحنكته السياسيَّة والحياد التام شارحاً أهمية انعقاد المؤتمر، فقد تم. نعم، شارك “قوقادي” بصورة فعالة في جميع اجتماعات القيادة أثناء المؤتمر، كما قدَّم ورقة قوية ومتكاملة عن ضرورة الوحدة بين أبناء النُّوبة.  وكما لعب دوراً كبيراً في صياغة قرارات وتوصيات المؤتمر.
للحقيقة والتاريخ لم يقتصر اهتمام “قوقادي” على قضايا الأحياء من النُّوبة وأهل الهامش، بل شمل الذين رحلوا تاركين وراءهم الأرامل والأطفال. لذلك سعى بعد العودة من الجبال، وألح السعي لزيارة أسر الشهداء بمدينة “ناكورو” التي تقع شمال العاصمة نيروبي بحوالي ١٦٠ كلم تكريماً لهم، فكانت الزيارة الميمونة لأسرة الشهيد يوسف كوة مكي وغيره، ولكن لم يسعفنا الوقت لزيارة كل الأسر.
بعد العودة إلى واشنطن، كثَّف “قوقادي” نشاطه المناهض لحكومة الإنقاذ والمؤيَّد والمنحاز لقضية جبال النُوبة بعدما رأى بعينيه حال أهله المزري، فكان من دعاة السلام الحقيقي وليس المزيَّف لرفع المعاناة عن كاهل كل شعب السُّودان.  في ربيع ٢٠٠٣م كان لقاؤنا في اجتماع اللجنة التنفيذيَّة لرابطة جبال النُّوبة العالميَّة بمدينة “روزلين” المتميِّزة والمجاورة لوزارة الدفاع الأمريكيَّة، بمكتب الرابطة ب “”مركز منع التطهير العرقي والإبادة الجماعيَّة- Ethnic Cleansing & Genocide Prevention Center “.  على هامش ذلك الاجتماع حث رئيس الرابطة الأخ “شاكاري ليندي” المعروف وقتذاك ب “النجومي محمد المكي”، والسكرتير العام “قوقادي”، حثا المركز للتنسيق مع جامعة جورج واشنطن لأُقدِّم محاضرة تعريفيَّة طبيعة مسألة جبال النُّوبة بعنوان: “مأساة شعب جبال النُّوبة وانتهاكات حقوق الإنسان”.  في المحاضرة أحضرنا ضحية من ضحايا التعذيب ليكون شاهد عيان بما على جسمه النحيل من آثار التعذيب.  رحمه الله، فقد رحل فيما بعد نتيجة لمضاعفات تلك انتهاكات الجسيمة، والآلام النفسيَّة التي عاشها.  وفي صيف نفس العام (٢٠٠٣م) التقينا في مدينة ناشفيل بولاية تينيسي لحضور الاجتماع السنوي لرابطة جبال النُّوبة العالميَّة الذي انعقد هناك، فكان “قوقادي” حضوراً كعادته.
عقب اتفاقية السلام الشامل عام ٢٠٠٥م بسنتين تقريباً عاد “قوقادي” إلى السُّودان وعمل مستشاراً لنائب والي ولاية جنوب كردفان/جبال النُّوبة، ولكنه رجع لأمريكا بعد أن تداعت الأوضاع وساءت بيئة العمل مع الشريك المشاكس آنذاك، المؤتمر الوطني. بعد انفصال جنوب السُودان كان ل “قوقادي” رأي واضح تجاه بعض قادة الحركة الشعبيَّة لتحرير السُّودان – شمال.  تعاظم نقده لهم بعد الكتمة (٦/٦/٢٠١١م) خاصة ضد مالك عقار إير وياسر سعيد عرمان عندما كشفت الحركة الشعبيَّة ضلوعهما مع آخرين في محاولة التخلُّص من الجيش الشعبي لتحرير السُّودان – شمال وتسليمه المؤتمر الوطني بحجة عدم جدية الكفاح المسلَّح. واصل “قوقادي” نشاطه السياسي المساند لقضية الهامش والنُّوبة بصفة خاصة رغم تدهور حالته الصحيَّة حتى وافته المنية بغتة.  وأكثر ما أتأسى له أنا شخصيَّاً، عدم تمكُّني من زيارته أثناء وجودي بالسُّودان رغم وعدي له بذلك عندما تحدَّثت إليه مراراً سائلاً إياه عن صحته فأكَّد لي بأنَّه في تحسن مستمر، ولكن كانت صحته تشير إلى غير ذلك.
إنَّ رحيل “أمين زكريا أسماعيل” بهذه الطريقة المفاجئة وفي هذه الظروف الحرجة من تأريخنا، تدعونا لأخذ العبر والعظة من تجارب الذين سبقونا في طريق النضال السلمي والثوري من أجل الحقوق الأساسيَّة حتى رحلوا عن هذه الدنيا الفانية.  كانوا متحدين في كلمتهم وفي فعلهم. اتحدوا دون أن تكون في أجندتهم إقصاء لأحد بسبب عرقه، أو أصله، أو دينه، أو انتمائه السياسي، أو الحزبي رغم ما كان ولا يزال يِحاك ضدهم. لقد كان هدفهم هو تحقيق قيم العدالة الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة لهم ولغيرهم. هذا يتحتَّم علينا جميعاً نبذ التفرقة والشتات، ولنتوحَّد لتحقيق السلام والأمن والاستقرار لجبال النُّوبة وإنسانه، وأنَّ انتماءاتنا للأحزاب السياسيَّة المختلفة لا تفيد إلا إذا كان وجودنا وموجوداتنا داخلها هو خدمة إنسان جبال النُّوبة البسيط بصفة خاصة، والمواطن السُّوداني عامة، وليس لخدمة أهداف مجموعة صغيرة من تلك الأحزاب مهما لبست من لبوس فاخر جذَّاب.
في الخاتمة، لا نملك إلا الدعاء ل “قوقادي” ورفاقه بالرحمة والمغفرة، ولنا حسن العزاء في فقدهم.  “إنَّا لله وإنا إليه راجعون”؛ و”لله ما أعطى وله ما أخذ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ولا نقول إلا ما يرضي ربنا”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.