عرض كتاب: التركية في كردفان جبال النوبة وأهوال الاسترقاق للدكتور عمر مصطفى شركيان (1-3)

د. قاسم نسيم حماد حربة

 

للتو فرغت من قراءة هذا السفر القاسي، الذي ما وددت قراءته ابتداءً رغبةً، رأفةً بنفسي أن أجشمها لواعجه، وزفرة التاريخ وبواعجه، لكن شهادتي على جهود منشئه العظيمة في الشأن السوداني والشأن النوبي بحثًا ودرسًا، تتقعد على معارف موسوعية تجعل كتاباته مقرنًا لجميع ضروب المعارف، ولغة كلاسيكية رفيعةً تحملها، تحيل المقال السياسي والبحثي قطعة أدبيةً وارفة- لكل تلكم الأشياء حملت نفسي حملًا على أن أقرأه، وبرغم ما كتبه بعضهم في ذات الشأن، لكنا كنا ما نزال نفتأ نترقب من يأتي وينجز عملًا كان طموحنا فيه أدنى من هذا، فأطلَّ علينا هذا الفتى الأبنوسي فأوفى ما كنا نطمع وزاد وأربى، وكلما قرأت في الكتاب فصلًا قلت في نفسي حسبه، فتأتي إجابته عبر سطوره تزيدًا وتماديًا، حتى شخص هذا السفر مكتملًا بهذه الصورة، فلا أدري أإحتوتني منه حقائقه وإحاطتها، أم استبتني لغته وسموها، لكن الشيء الوحيد الذي لا اتلجلج فيه بعد أن فرغت من تمرغي في صفحاته، هو أننا لا نبغي عليه مزيدًا، ولا ينبغي، فقد أوصد شركيان الطرق لتالييه، وربط رحم هذا الجانب فعقم، اللهم إلا شروحات عليه وحواشٍ، وبعد، فيمكن أن نقول مطمئنين بعد هذا له: نم واقض بقية عمرك في لعب الضالة أو مشاهدة المصارعة فلا ينبغي لك الكتابة من بعد.
وما استصعبت عملًا أكاديميًا كاستصعابي عرض هذا الكتاب، لأنه يضرب في كل جانب، كشأن كتب المتقدمين التي تحتوي كل فن، ولأنه له تكتيكات في كتابته، فيعرض المعلومة هنا مبتسرة، ثم يمضي ويعود بعد حين فيعرضها ذاتها بتوسع، وقد يعرضها ثالثة، فكأنه يسعى إلى تركيزها بهذه السبيل،

وقد جاء الكتاب في (456) صفحة من القطع الكبير، وحوى استهلالًا وعشر فصول وخلاصة، وصدر عن دار المصورات.
بحث في الاستهلال عن دوافع كتابة التاريخ من ناحية فلسفية، فأخذ الحالة اليهودية كما دونتها التوراة، وقد فسر الدافع بأنه استجابة للقهر الذي عاشه اليهود المتمثل في الحياة على هامش التاريخ تحت الاضطهاد، فسعوا إلى إنتاج هوية قومية لهم إزاء الإمبراطوريات التي كانت تضطهدهم، فكانت معاناتهم هي التي بصَّرتهم وهدتهم إلى كتابته.
ثم أخذ حالة الإغريق، وذكر أن دافعهم إلى كتابة تاريخهم هو هزيمتهم للفرس، لكن كلًا من اليهود والإغريق اتخذ أداة مختلفة في الكتابة، فكانت الأداة مقدسة عند اليهود، تكل نجاحاتهم إلى رضى الله، وإخفاقاتهم إلى غضب الله، أما الإغريق فقد كانت مرجعيتهم بشرية، وشركيان يرى أن التاريخ المقدس إن شمل على أكاذيب أضافها رجال الدين فلن يجرؤ أحد على نقضها؛ لأنها صارت من المقدس، أما التاريخ الإنساني-كما هو عند الإغريق- فيمكن نقض أكاذيبه وتمحيصه، لأنه عارٍ من القدسية، وهكذا ألهم الإغريق الغرب كتابة التاريخ، وكأني أرى أن شركيان إنما عنى بهذا التمهيد أن يتمهد أهله للنهوض لكتابة تاريخهم، بغبينة وطأة التاريخ، لكن بنهج إنساني غير مقدس، يقبل النقد والتقويم، وهو-إن صدق حدسي محق، فتاريخ هذا الشعب يحتاج ما يزال إرادات تكتبه، ولعل في ذاكراتهم الشيء الكثير الذي لم تحبِّره المحابر والأقلام، ثم عرج شركيان إلى التاريخ الإفريقي المدون ورماه بالتزوير عبر دوافع مختلفة، منها استعمارية هدفت إلى تجهيل الأفارقة عن تاريخهم القديم ، ودوافع عنصرية لا ترى في هذا العرق أدني فضيلة، ودوافع أنتجها تمدد النفوذ العربي في شمال ووسط وغرب إفريقيا، تجلت فيه الأيدلوجيا العروبية الإسلاموية التي نعتها بالعنصرية وزراية الإنسان الإفريقي، وعامل آخر أضافه، وهو طبقة الصفوة وورثة الاستعمار الذين تبنوا خطواته، فطمسوا النضالات الإفريقية، وأظهروا آخرين متلصصين دون حق، ثم انكب شركيان يبرهن لمقولاته هذه بإبراز شواهد عليها فأبرز نتفًا مما تم الكشف عنه من تاريخ تمبكتو ومالي وسونغاي، وما كشفته الكشوفات الحديثة عن شأنها وحقيقة أمرها، ويتخذ من ذلك تمهيدًا ليرمي بسهامه في التاريخ السوداني المبتور غير المحايد، والخالي من تاريخ الشعوب الأصلية كما يقول، ثم يكشف عن نيته سرد تاريخ كردفان بصورة عامة وجبال النوبة التي تشملها بصورة خاصة في عهد التركية، ثم نراه يمتدح كتابه حين يقول “هذا كتاب طال العهد بنا به”، ثم يفزعنا بقوله: إن هذا التاريخ الذي ندونه ونذيعه ليس تاريخًا عاديًا كما هو معتاد، وذلك لأنه محشود بالماضي الأليم وجراحاته، لكن لا بد منه، لأنه يستأصل الداء، ثم يحذِّر من يثب على هذا الكتاب اطلاعًا أن يربط جأشه، وشركيان له الحق كله فيما تمدح وقال، فهذه مواطن وهذا مجهود يحسن الفخار فيه ويندب، ثم تكلم عن معاناته في الحصول على المراجع، وإطلالة سريعة على هوامش الكتاب تقف بك على جهوده الضخمة في إحاطتها ولملمتها، بل أنه استعان حتى بمراجع فرنسية ترجمها له بعضهم، وكان أشار إلى أن ثمة مصادر مهمة تضرب عليها الحكومة السودانية والمصرية والتركية حجبًا فلا يُستطاع الحصول أو الاطلاع عليها، وهناك مراجع أخرى مكتوبة باللغة التركية القديمة فوجودها كعدمه فلا تتياسر قراءتها.

الفصل الأول أسماه “في البدء كان اسمه كوردوفال” ولعله عمد بذلك إلى تحقيق الاسم في اللغات النوبية، وهذا هو الأقرب بداهةً، فقد كانت شعوب النوبة تتوطنها، وقد تجدث فيه عن الوجود القديم للنوبة في شمال كردفان، وتناول علاقتهم بنوبة الشمال في بحث واسع يستقصي أكثر ما ورد في هذا الشأن، ويضع القارئ على بصيرة من الأمر، كما تحدث عن علاقة النوبة والفونج والعنج، والشيء المعروف بيننا أنه ربما كان العنج يمثلون الأجنق حاليًا في الجبال وغير الجبال، وقد تحدث شركيان عن الأصول والمشتركات بين الفونج والنوبة والعنج ، وأفاض حول النوبة الذين لم يهاجروا إلى جنوب كردفان، وأبرزهم أهل الجبال البحرية، الذين باتت نوبيتهم تنمحق، وتناول القبائل العربية من حمر وكبابيش وهواوير… الخ، وفترات دخولهم وأقسامهم وبطونهم وتحركاتهم ومناطقهم.
وخلص شركيان إلى أن كثيرًا من قبائل النوبة كانوا في الأصل أمة واحدة، بلغات وعادات وتقاليد واحدة، ثم تشظت، وهذه حقيقة مهمة ومشاهدة فإنك من غير المنطق أن تجد قبائل صغيرة مستقلة فلا يستقيم أنها وجدت هكذا، إلا أن تشظت من أخرى، وإننا نرى قبائل عديدة متفرقة لكن لغتها واحدة، وكان لغزوات الرق القدح المعلى في تفرقها وتشتتها.
وفي هذا الفصل أيضًا عدد قبائل المسيرية وبقية البقارة القاطنين في الجبال، وتتبعهم منذ أن كانوا في مصر أبان تمرد العرب على المماليك في القرن التاسع الميلادي ثم هجرتهم حتى المغرب ثم أوبتهم حتى السودان وتقدمهم نحو دارفور، وحروبهم حتى مجيئهم المجلد ثم حروبهم مع الداجو وشات، ونزوح الداجو إلى الدار الكبيرة، وتابع وفود البقارة داخل الجبال بطريقة تزيل الغبش وتمحضك التاريخ ناصعًا.

كما تناول الكاتب المجموعات النوبية وبين أصولها وتجمعاتها وتحركاتها،
وفي نهاية فصله يرى شركيان أهمية دراسة الأساطير في بحثنا عن هجرات شعب جبال النوبة، ويرى أنه رغم أن أصولهم تفتقد إلى التحليل الدقيق فإن أصالتهم في السودان لا ينتطع فيها عنزان، وجمعتهم هجرتهم نحو الجبال نشدانًا للأمن مما أكسبهم شعورًا بالتضامن الاجتماعي، وحافظوا على أعرافهم عبر القرون، وهذا كلام مهم للغاية، لأنه طفقت في الفترات الأخيرة اتهامات تطلق من بعضهم تشكك في أصالة بعض قبائل النوبة، فكان رد شركيان العلمي الحاسم. أما قضية دراسة الأساطير فهي مهمة أيضًا، لأن الأساطير تحمل قدرًا من الحقيقة، ولها مناهج تدرس فيها، وقد كانت دراسة بروفسور أحمد عبد الرحيم نصر عن بعض أساطير (النيمانج-الأما) مهمة للغاية إذ استطاع أن يفكك تلك الأساطير ويكشف المعلومات المختبئة خلفها. نواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.