قراءة تاريخية آنية مبسطة فى واقعنا الحالى
✍🏿: فاروق عثمان
نحنا فى الأصل مجتمعات متفاوتة إجتماعيا ومتباينة ثقافيا ودينيا ومتعددة عرقيا.
قبل الإستعمار كان محور التماسك العاطفى هو العشيرة والقببلة التي تقوم مقام الدولة في حمايتك وحل نزاعاتك وانصافك إذا ما ظلمت أو إعتدت عليك قبيلة أخرى.
جاء الإستعمار التركى ولم يتم تخلق أمة متجانسة يعد، ولإمتلاكه عنف الدولة القانونى من جيش وعسعس ولوجستيات قام بهذا الشى أى التوحيد القسرى لهذه الكيانات. وحين إنتصرت المهدية ولهشاشة مفهوم الدولة وإرتكازها على الميثولوجى والحكم إنابة عن الله دون أى مظهر لمفهوم الدولة الحديثة، ظهر تمرد القبائل وإلتجأ الناس إلى قبائلهم وظهرت صراعات أولاد البحر وأولاد الغرب فى قيادة دفة المهدية حتى أتى الإنجليز وأجهزوا عليها.
الإنجليز قاموا بما قامت به التركية ربطوا الأقاليم مركزيا وأنشاؤا دولة ثم خلقوا لها أمة أسموها الأمة السودانية، أى الدولة سابقة على الأمة فى مقلوب تطورى غريب، وهى تحمل ذات التباينات والإختلافات والتفاوتات فى درج التطور المجتمعى، ولكن الإنجليز لفهمهم لطبيعة المجتمعات، ولأنهم مستعمرون يريدون موارد سريعة بمشاكل أقل، لم يجتهدوا فى إزالة الفوارق بتنمية متوازنة وعمل مدنى مكثف ورفع الوعى ونشر التعليم والعمل على منع إستئثار قلة بالموارد والإمتيازات لإزالة التفاوتات فى الأمة غير المتجانسة والتى حشروها قسرا فى دولة .بل إختاروا الطريق الأسهل و قاموا بمحاولة إضعاف الولاء القبلى وإرتكازا على التدين الشعبى السودانى، فأنشاؤا ودعموا الطائفية وأضحى الولاء للطائفة بدلا عن القبيلة، فالطائفية يمكن أن تجمع عدد كبير من القبائل فتذوب الولاءات القبلية وتتجه إلى الولاء للطائفة فى شخص زعيمها أو مرشدها أو إمامها. بمعني أن يكون الولاء النهائى لزعيم القبيلة أو الإدارة الأهلية هو مرشد أو إمام الطائفة، أى الولاء للطائفة مقدم على الولاء للقبيلة.
وهنا لا بد أن نشير إلى أن الطائفية أقل ضررا بكثير من القبلية.
نجح الإنجليز فى كبح غلواء القبيلة وأضحى الولاء إلى الختمية والأنصار مقسم مناطقيا إلى الشمال والشرق والوسط والغرب تواليا، بل حتى لو حدث صراع قبلى بين قبائل البجا فإن من يحسمه هو على الميرعنى الرابض فى جنينته ببحرى، ونفس الشيئ إذا ما حدث صدام بين المساليت والرزيقات فإن حله عند عبد الرحمن المهدى فى ودنوباوى.
أنانية الطائفية، وحبها لتملك هذه المجاميع أبد الدهر وديمومة الولاء والحيازة والسلطة، وعدم قدرتها على قراءة التطور الزمنى والمجتمعي، وتمدد ذاتيتها على حساب وطنيتها جعلها تغفل عن تحديث ذاتها أولا، ونقل هذه المجتمعات فى سلم الترقى من مجاميع قبلية ثم طائفية إلى مجاميع مدنية ومتمدنة من خلال إجراءات بسيطة ومقدور عليها حينها، ولكن ثمنها كان فقدانها البصم الطائفى والولاء القطيعى، فإختارت الذاتية الزائلة بدلا عن الوطنية الدائمة والشاملة.
هذا الغباء والأنا من الطائفية هو ما مكن كوارث الجبهة الإسلامية من ضرب الطائفية ولكن قاموا بالخطأ الأكبر فى تاريخ السودان الحديث وهو فى سبيل كرههم ومحاولة محو الطائفتين أرجعونا القهقرى فى التطور المجتمعي إلى مئتا عام، ولم يقفوا عند هذا الحد، بل عند قيام الكفاح المسلح قاموا بكارثة صناعة المليشيات القبلية فخلقوا هذا السرطان المسمى الجنجويد.
بعد الثورة لم تكن هناك قراءات متعمقة لواقعنا الزلق بل إنشغلت الأحزاب ضعيفة القدرات والقراءات فى صراع الكراسى والتكويش اللحظى بل حتى الأحزاب التى على مستواها النظرى إرتكزت على هذه القراءات (عملت منها رايحة) وتبنت ذات الوعى الجمعى لبقية القطيع.
ضعف الأحزاب وبؤسها وعدم فعاليتها ووجودها فى مناطق النزاعات وإنشغالها بالعمل فى الخرطوم حصرا، وخلق صراعات مراهقة سياسية حول سلطة غير موجودة أصلا، حتى أنك تجد قيادات حزبية كثيرة من مناطق النزاعات تقضى جل وقتها فى الخرطوم ولا تذهب إلى هناك إلا ساعة حدث إنتخابى أو مغنم سلطوى، هذا الفصام والإنفصام عن الجماهير فى مناطقها من قبل الأحزاب وكوادرها ملأته القبيلة و العشيرة والمليشا المسلحة، وبدلا عن خطابات التنوير وبث الوعى أضحى الخطاب هو خطاب كراهية وعنصرية وسلاح بإمتياز، فأحزابنا تريد أن تحكم دون أن تقوم بمجهودات ومطلوبات تؤسس بها لحكمها.
بعد الإنقلاب ولإكتمال حلقات التدهور أضحى على رأس الدولة تحالف قبلى مليشى مسلح يمتلك السلطة الهشة ومفاصل الإقتصاد، فى غياب تام لأى مظهر من مظاهر الدولة الحديثة من مؤسسات أمنية وعدلية وقانونية وخدمة مدنية ومجتمع متامسك واعى.
الآن نحن فعليا فى آلة للزمن فى القرن الثامن عشر وما أضعناها بالأنا والطمع وغياب الوطنية فى ١٠٠ عام كحكام، علينا معالجته جميعا فى ١٠٠ يوم واإلا نحن نسير نحو التلاشى.
فاروق عثمان
١٨ يوليو ٢٠٢٢