حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (12 من 19)

 

الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]

من المعلوم أنَّه حين اعتزم محمد علي باشا على غزو السُّودان أراد أن يحقِّق عدة أهداف سياسيَّة وعسكريَّة واقتصاديَّة. ففي المقام الأول أراد أن يقضي على المماليك الذين فروا إلى السُّودان بسلاحهم بعد المذابح الشهيرة التي تعرَّضوا لها في مصر، وذلك قبل أن يستجمعوا قواهم ويمسوا قوَّة عسكريَّة ضاربة جنوب الوادي. وقد سعى هؤلاء المماليك بالفعل إلى تكوين قوَّات مسلَّحة بهذه الأسلحة تحت إمرتهم، وشرعوا في تحكُّمهم في التجارة بين مصر والسُّودان عبر الطرق البريَّة.
في المقام الثاني أراد محمد علي أن يسيطر على الملاحة البحريَّة فيما عُرف ب”سياسة البحر الأحمر”، وقد بدأ اهتمام والي مصر بهذا الطريق أكثر بعد إخماد الثورة الوهابيَّة، وتوليه حكم الحجاز ونجد وولاية الحبش (الحبشة أو إثيوبيا حاليَّا) نيابة عن الدولة العثمانيَّة.
أما في المجال الاقتصادي فقد رغب محمد علي باشا في أشدَّ ما تكون الرغبة في استغلال الموارد الطبيعيَّة التي حُظي بها السُّودان، وما يزال، بما فيها الذهب في منطقة بني شنقول في أعالي النيل الأزرق، وشيبون في جبال النُّوبة، علاوة على الموارد الحيوانيَّة والغابيَّة. كذلك روت السجلات التاريخيَّة أنَّ من أهداف الغزو اكتشاف منابع النيل، حيث ذكر الرحَّالة وادنغتون أنَّ من أسباب حملة محمد علي على السُّودان طموحه في أن يتملك وادي النيل من منبعه إلى مصبه، وأن يكون سيِّداً على سكانه جميعاً من يشربون من مائه من الحبشة حتى البحر الأبيض المتوسط. ومع ذلك، لم يكن محمد علي قد أخذ على نفسه تنفيذ فكرة مشروع إنشاء قناطر عند رأس الدلتا للتحكُّم في مياه النيل كما كتب الفرنسيُّون أثناء توليهم الأمر في مصر، وحتى لما أخذ محمد علي نفسه إنشاء القناطر الخيريَّة لم يتسع الأفق لتكوين مشروعات أخرى خارج مصر نفسها. فالتفكير في جعل الوادي وحدة مائيَّة سياسيَّة تشمل النهر كله من بحيرة فكتوريا إلى البحر الأبيض المتوسط، حيث مشروعات الرَّي، يرجع إلى العام 1904م منذ نشر تقرير هاري جونستون في كتابه “مسألة النيل”.
العامل الرئيس في إرسال حملة عسكريَّة لاحتلال السُّودان هو رغبة محمد علي باشا في الحصول على الرِّقيق من الزنوج السُّودانيين الأشدَّاء الأقوياء للعمل في الزراعة والصناعة والجيش، وهم أولئك الذين تميَّزوا ببسالتهم في ساحات الوغى منذ فترة ليست بقصيرة، وذلك في سبيل التخلُّص من جنوده الألبانيين الذين أصبحوا منذ العام 1820م مصدر خطر وإزعاج له في مصر؛ فحملته إلى السُّودان كانت طريقة لامتصاص طاقتهم ونشاطهم. كان محمد علي يؤمن في بادئ الأمر بأنَّ الفلاحين المصريين يجب أن يُتركوا لفلاحة الأرض، كما أنَّه كان مقتنعاً أنَّ سكان السُّودان الشمالي من الصعب أن يلتزموا بالنظام الحربي، وذلك قبل أن يتعب من الزنوج الجنوبيين في نهاية الأمر. كان الدافع الأساس في هذا المشروع العسكري هو توسيع وتأمين سيطرته على بلاد العرب في شبه الجزيرة العربيَّة، علماً بأنَّ الرَّقيق لم يمثِّل قوَّة عسكريَّة فحسب، بل كان مصدراً اقتصاديَّاً هاماً في ذلك الرَّدح من الزمان. كانت المعاملات التجاريَّة تتم بالمقايضة، وعن طريق بيع وشراء العبدان الذكر والأنثى، ثمَّ كانت رواتب الجنود وغيرهم من موظفي الدولة تُدفع في شكل الرِّقيق عاجلاً أو آجلاً في شكل متأخِّرات. وقد فصَّلنا في هذا الأمر بشيء من التفصيل المأسوي دقيق في كتابنا المنشور بعنوان “التركيَّة في كردفان.. جبال النُّوبة وأهوال الاسترقاق” الصادر بواسطة دار المصوِّرات للنَّشر والتوزيع والطباعة في الخرطوم العام 2022م.
ففي مسألة الرِّق كتب محمد علي باشا في مصر إلى محمد بك الدفتردار في مديريَّة كردفان آنذاك قائلاً: “إنَّك لتعلم أنَّ غاية جهودنا كلها، وهذا هو المهم في الأمر، هي الحصول على الزنوج، الرجاء إظهار الحماس في تنفيذ رغائبنا في هذا الأمر الرئيس.” ومع ذلك، لم نعثر على ثمة دليل يحوي بأنَّ السلطان العثماني (التركي) في القسطنطينيَّة كان قد منح إذاً للوالي محمد على باشا في مصر لغزو السُّودان، ولا حتى مناقشة دوافعه في الإقبال على هذا المشروع. إذ أنَّ سياسات محمد علي باشا – مهما يكن من الأمر – وبخاصة تلك المتعلِّقة ببناء جيش حديث وكفء وسلاح بحري، وتأسيس إمبراطوريَّة مصريَّة-عربيَّة مستقلة عن السلطات في القسطنطينيَّة لا تترك مجالاً للشك في أنَّه كان لمحمد علي باشا هدفان رئيسان لاحتلال السُّودان: أولاً، توهُّم الحصول على الذهب والمعادن النفيسة الأخرى في البلاد. أما الهدف الثاني فهو ما عبَّرت عنه الرسالة إيَّاها لأحد قادته العسكريين في كردفان، أي صهره محمد بك الدفتردار، في الحصول على الرجال الزنوج لتجنيدهم في الجيش. وبما أنَّه يُحرم على المسلمين استرقاق المسلمين فقد تركَّزت الإغارات في سبيل الحصول على الرَّقيق في المناطق التي نعتوا سكانها بالوثنيَّة في مداخل النيل الأبيض وجبال النُّوبة، حيث كان يتم تصدير 10.000 مسترقاً سنويَّاً إلى مصر. غير أنَّ بعض المصادر يتحدَّث عن أرقام أكبر من ذلك الرَّقم المذكور بكثير، وبخاصة حين تضاف أعداد الرَّقيق التي كانت تجلب من جنوب النيل الأزرق ودارفور.
وبما أنَّ الجنوب كان قد تمَّ رهنه لكبار النَّخاسين والقناصة باسم التجارة، غير أنَّه من أكثر الأشياء إيلاماً وصف التغيير الذي كان قد طرأ على جبال النُّوبة منذ قدوم تجَّار الرِّق وقوافل الحكومة التركيَّة-المصريَّة من أجل استرقاق النُّوبة. إذ كانت الجبال تعتبر حديقة يانعة زاخرة بأهلها النُّوبة، ومنتجة لكل ما تشتهيه الأنفس من الثمرات، وقد تغيَّرت تلك الصورة النمطيَّة كلَّها، وحل محلُّها البؤس والمعاناة، وتدمير المجتمعات، وأدَّى ذلكم التغيير إلى صعود الأهالي إلى قمم الجبال ينحتون منها بيوتاً لأمنهم، وحفاظاً لممتلكاتهم.
كانت هذه هي الحال في السُّودان على وجه العموم وجبال النُّوبة بشكل خاص، حتى جاءت المهديَّة وتبدَّت للنُّوبة بأنَّها ما هي إلا إحلال نظام بآخر، وذلك بما ذاقوه من الثورة المهديَّة نفسها في نهاية الأمر. بيد أنَّ “السر في الانتصارات التي أحرزها المهدي يكمن في قوَّة شخصيَّته وقدرته على التأثير على السُّودانيين رقيقي الإحساس سريعي الانفعال لكل ما يأتيهم من الخارج عن طريق الإيحاء والإيعاز، لذلك فهو القائد الذي أوجدته ظروف خاصة لنوع فريد من الشعور الوطني في السُّودان، ويكمن وراء هذا اعتقاده وإيمانه الصَّادق الذي لا يهتز برسالته التي بعثته بها القوَّة الإلهيَّة.”

للمقال بقيَّة،،،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.