حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (4 من 19)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
[email protected]
كلمة خصي أصلها يوناني (eunokhos)، ومنها جاء التعبير في اللغات الأوروبيَّة (eunuque, eunuch)، وتعني حرفيَّاً الذي يحرس (eune) مخدع النِّساء، أو حارس السرير، وكان هؤلاء الخصيان مكلَّفين بمراقبة النِّساء الحبيسات للإشراف على سلوكهنَّ، والحؤول دون قيامهنَّ بما يتنافى مع العفة أو الواجب الزوجي. كان استخدامهم منتشراً في أروقة العالم الإسلامي في مهام مختلفة، بجانب مخصيي الحريم الموكل إليهم مهام حراسة ورعاية الحريم في الحراميك (أي قصور الحريم). إذ أنَّ وجود الخصيان وسط الحريم لا يلزم المرأة المسلمة على التحجُّب، وكان هناك مخصيُّو الديوان الحكومي، ثمَّ كان هناك مخصيُّون استخدموا كأغوات (الذين يوكل إليهم حراسة ومراقبة الحرمين الشريفين وبيت المقدس) حول الأماكن المقدَّسة للفصل بين جموع المسلمين بحسب الجنس، وفرز الرجال عن النساء في الطواف والمسعى، وعند إقامة الصلاة، ويزيد بن معاوية هو أوَّل من استخدمهم في قصره. فضلاً عن خصيان الدهليز الذين يفصلون بين “الحرملك” وباقي أنحاء البلاط السلطاني، هناك خصيان التربة الذين يعملون في الزراعة وحقول البساتين، وخصيان الرَّعي وغيرهم. وكلمة أغا لقب تشريفي استعمل في اللغة الكرديَّة والتركيَّة والفارسيَّة، ويُطلق على الرؤساء والشيوخ وعلية القوم. يشير الباحث في التاريخ المكي والمدني منصور الدعجاني إلى أنَّ “الأغوات (جمع أغا) فقدوا ذكوريتهم بسبب الاستعمار في بلاد الحبشة والسُّودان حتى لا يتكاثروا، إلا أنَّ هناك منهم من قام أهلهم بهذا العمل لبيعهم للأثرياء أو إهدائهم كهبة للحرمين.”
الجدير بالذكر أنَّ الخصاء عادة قديمة كانت شائعة بين الآشوريين والبابليين والمصريين القدماء. إذ تمَّ تسجيل أقدم حالات إخصاء متعمَّدة لإنتاج الخصي في حضارة سومر العراقيَّة في مدينة لجش في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد، وكان الخصي يُنفَّذ كعقوبة للأسرى لقطع نسلهم، وأحياناً كان يُنفَّذ من باب الترف، وبعدئذٍ انتقلت العادة إلى اليونانيين، ثمَّ إلى الرومان، فبقيَّة أجزاء أوروبا، وكانت الصين الدولة الأكثر خبرة في هذا الميدان، واستفاد منها الآخرون. وفي أوروبا أُنشأ ما كان يُعرف ب”معامل الخصيان”، وتحديداً في فردون بمقاطعة اللورين بفرنسا. وفي مصر كانت عمليَّة الخصي تجري في مدينتي جرجا وأسيوط، وفي هذه العمليَّة لا تزيد نسبة النجاح دوماً عن 10%. وبعد عمليَّة الخصي تتلف خلايا الخصية التناسليَّة التي تنتج الحيوانات المنويَّة، فلا يستطيع المخصي الإنجاب، لأنَّ تليف خلايا الخصية يؤدِّي إلى توقف الخصية عن إنتاج الهرمون المذكر “التستوستيرون”، فلا تظهر للمخصي لحية ولا شارب، ويصبح صوتاً رقيقاً، وبصفة عامة تميل الملامح والتصرفات إلى الأنوثة، ويفقد الرغبة الجنسية تجاه الجنس الآخر. وكان يتمُّ إخصاء العبيد غالباً من باب التحرز، ولكي يحافظوا على قواهم البدنيَّة من أجل الخدمة بقوَّة ونشاط؛ وفي هذه الحال لا يتناسلون، ولا يكون لهم ذريَّة.
الخدم (الأخدام) أو العبيد عادة ما كانوا مخصيين من أجل جعلهم أكثر أماناً من موظَّفي الديوان الملكي، حيث الوصول الفعلي إلى الحاكم يمكن أن يكون له تأثير كبير. وهناك فرق بين الخصي والمجبوب؛ فالخصي هو الذي بقي عضوه التناسلي (ذكره) دون الخصيتين (المعروفتان أيضاً بتعبير “الأنثيان”). أما المجبوب “الممسوح”، فبقيت خصيتاه (أنثياه) دون ذكره.
إذ تخفض عمليَّة الخصي حال المخصيين الاجتماعيَّة، كما يمكن الاستعاضة عنهم بسهولة، أو قتلهم دون تداعيات، فلا وجود لنسل لهم أو أقارب قد ينتقمون عنهم، أو يثأرون في حقهم. كذلك هناك الإخصاء الكيمائي من خلال جرعات من العقاقير التي تؤدِّي إلى إفقاد الخصية مهمَّتها، وهي إنتاج هرمون الذكورة. كان الرَّقيق الخصيان أو الطوايشة يعتبر من أغلى أنواع الرَّقيق، فهم أمينين على النساء بمنازلهم، ويستخدمون عادة في مساعدة النساء في الأعمال المنزليَّة. وفي واقع الأمر، فإنَّ المخزي حقيقة هو عمليَّة خصيهم في حد ذاتها. ففي هذه العمليَّة غير الإنسانيَّة كان يموت فيها ثمانية من أصل عشرة غلمان. إذ كان يتم خصي الغلام بتكسير خصيتيه ثم دفن جزئه الأسفل في حفر، ويطمر بالتراب، ويترك نصفه الأعلى خارجها، ويظل على تلك الحال أيَّاماً فيموت كثرٌ منهم من جراء هذه العمليَّة. وكيف كانت تتأتى لهم رؤية تلك المناظر المؤلمة الممضَّة، وشأنهم في ذلك شأن تصرفات أهل الطيش النزق بين يدي البراءة والحلم.
أشهر من كان يقوم بخصي الغلمان وخبير هذا الانتهاك في حقوق الإنسان هو عبد القيوم حارس بوابة أم درمان الجنوبيَّة، التي ما تزال موجودة كأثر شاهد على تلك الانتهاكات المروِّعة، وذلك العصر المشؤوم. أما في مدينة الأُبيِّض فكان يقوم بهذه العمليَّة ملك تامار، وهو الذي كان ينتمي إلى قبيل الكُنجارة، ثمَّ كان أخاً لأحد سلاطين دارفور. لسنين عدداً احتكر تامار هذه الممارسة القاسية، وحينما أخذت تدر عليه أرباحاً كثيرة، دخل آخرون في هذه المهنة، وبئسما اختاروا من المهن، وبخاصة حينما أدركوا بأنَّهم يمكن أن يجنوا أرباحاً طائلة في حال بيع عبيدهم وهم مخصيين أكثر من بيعهم كعبيد غير مخصيين. فحين زاره الرحَّالة هولرويد في الأُبيِّض وجده عاجزاً ضعيفاً، وقد بلغ من العمر حوالي 70 عاماً، وذا وجه شاحب منهك، وذقن خفيفة بيضاء خضبها بالحناء، وحين شرع يتحدَّث أخذ يغطي فمه بيده، حتى يخبئ فكَّاه الخاليين من الأسنان. إذ قال تامار لزائره الأفرنجي إنَّه جاء إلى كردفان وكان يبلغ من العمر حينئذٍ 36 عاماً، وظلَّ هنا حتى سيطر عليه الدفتردار، ومن ثمَّ عاد إلى دارفور. وحين أدرك أنَّه بات شخصاً غير مرغوب فيه في دارفور، وارتعب من الاغتيال، فرَّ إلى سنار، وقد قالوا: البريء جريء، والخائن حائف. وما أن استقرت الحكومة الجديدة في الأُبيِّض حتى عاد إليها، وأخذ يتمتع بمعاش مقداره 600 قرشاً في الشهر من قبل محمد علي باشا.
الجدير بالذكر أنَّ تامار كان يخصي ما يتراوح بين 100-150 صبيَّاً في العام، ونفس العدد كان يتمُّ إخصاؤه بواسطة ملاك العبيد الآخرين في كردفان. عاش تامار دوماً في عسر، وكان إنساناً خيِّراً – والحديث هنا ما زال للرحَّالة هولرويد – وظلَّت أبواب داره مفتوحة على مصاريعها، ثمَّ كان يستهلك حوالي 500 أردباً من الذرة في العام. كان عبيده حينما يحضرون له ماءً أو شربوت (شراب مسكر)، يقعون على ركبتيه، ويقدمون له الكوب، ولا يقومون إلا عند مغادرة مكان سيِّدهم. كانت أعمار الأطفال الذين كانوا يختارون للخصاء تتراوح ما بين 7-11 عاماً، وكانوا يُخضعون لإزالة كل الأعضاء الذكوريَّة. وكان الصبية الذين يتمُّ إخصاؤهم في الأُبيِّض أكثر طلباً في الأسواق. وقد أورد الرحَّالة الألماني إقناتيوس بالمه وصفاً مروِّعاً لعمليَّة الخصاء في الأُبيِّض. وقد ذكر الرحَّالة السويسري جون لويس بركهارت أنَّ محمد علي باشا أمر بإخصاء 200 من صبية دارفور ليبعث بهم كهديَّة للسلطان العثماني. كان محمد علي آثماً مغرقاً في الإثم. وأيِّم الله، أيِّ شرٍّ هو هذا؟ أي فسقٍ يكون، بل إنَّه لفجور رهيب!
وللمقال بقيَّة،،،