أطروحة منصور خالد.. السلام ووحدة البلاد: الفرص المهدرة!
د. الواثق كمير
29 مارس 2016
مُـقـدمـــة:
جال بخاطري أمران وأنا أتهيا للكتابة عن دور الدكتور منصور خالد في اتفاقيتي السلام للحكم الذاتي، أديس أبابا 1972، واتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) 2005: أولهما، أنّي تعرفت علي منصور والتقيت به شخصياً، لأوّل مرّة، في محفل للسلام، بأديس أبابا في الأسبوع الأول من أغسطس من عام1986، تلخّصتْ أجندته في متابعة مقررات إعلان كوكادام، الذي توافقت عليه غالبية القوي السياسية والنقابية السودانية مع الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، في منتجع كوكادم باثيوبيا، مارس 1986.
الأمر الثاني الذي خطر لي، هو أنه من الصعوبة بمكان حصر علاقة منصور بقضية الحرب والسلام، في دور “وظيفي” لعبه في الاتفاقيتين، بحسب كونه وزيراً للخارجية، قبل وبعد توقيع اتفاقية أديس أبابا، ومستشاراً لزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، لحظة التوصل لاتفاق السلام الشامل. وبالرّغم من مساهمته المشهودة في الحالتين، لم يجد منصور إلا التقريع والإدانة، من قبل خصومه السياسيين، بزعم دعمه ووقوفه إلي جنب، الأنظمة الشمولية والعسكرية. وهو ما كان ينبغي أن يطرح تساؤلا محوريا: لماذا تنجح مثل هذه الأنظمة في التوصل إلي اتفاقيات سلام، بغضّ النظر عن مآلاتها، بينما تخفق حكومات الانتقال الديمقراطي والحكم النيابي في تحقيق السلام؟ صحيح أن مواقف منصور السياسية قد تكون مثيرة للجدل، إلا أنه يظل المثقف السوداني الوحيد الذي لم يملّ الطرقَ المتواصل علي قضايا الحرب والسلام والوحدة، ولا غرو إن جعلها الموضوع الرئيس لجلّ كتاباته المنشورة. لاشك أنّ مشاركة منصور في العمليتين السلميتين- وللمفارقة، من موقعه الحكومي في الأولي، ومن صفوف المعارضة السياسية المسلحة في الثانية – تكشف أنّ السلام بالنسبة للرّجل، لا يعني مجرد نتيجة سياسية مرغوبة ومطلوبة، إنما قيمة أساسية وأولوية ملحة، في عملية بناء دولة المواطنة السودانية. ومع ذلك، فلن أقصر هذه المساهمة المتواضعة في دور منصور “الوظيفي”، ولو أني سأوفيه قدر ما يستحق، بل سيتم التركيز علي “أطروحة” منصور حول فرص السلام المهدرة، ومآلاتها المحزنة في تجزئة البلاد. فأيّ ناقد موضوعي لهذه الأطروحة، مطالب بأن يأتي بمثل الذي قدمه منصور من استقراءٍ صحيح للتاريخ السياسي، باتباع منهجٍ صارم، وفق منهج امبريقي ضابط، لتحليل المعطيات والتوصل للنتائج، ويقوم علي حيثيات ودلائل ووقائع وشهادات، ومن معرفة لصيقة بكافة أطياف النخبة السياسية، وقرب من مراكز صناعة القرار. علاوة على ذلك، فثمّة قيمة إضافية لأعمال تتمثل في تجاربه المتنوعة في العمل التنفيذي، منذ أن كان سكرتيراً لرئيس الوزراء في “حكومة السيدين”، نهايات العهد الديمقراطي الأول (1956-1958)، ومن ثم عمله في منظمة اليونسكو وهيئة الأمم المتحدة، أي المجتمع الدولي بمفردات اليوم، وتسنّمه لعدّة حقائب وزارية خلال العشرية الأولى لنظام مايو (1969-1985). ومن ناحية أخرى، كان منصور مُلمّاً- بصفته مستشاراً لرئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان – بدهاليز ما كان يدور في أروقة قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان، خاصة ملف العلاقات الإقليمية والدولية. ولا غرابة، فالرجل كان يوما ما وزيراً للخارجية في دولة السودان.
أطروحة منصور:
تتلخص الأطروحة الأساسية لمنصور (the thesis)، في كلمات معدودة: “رغم تغيّر الظروف، بقيَ الحال كما هو عليه!”. هكذا شخّص منصور الأوضاع السياسية السودانية، بأنه مع تبدّل أنظمة الحكم منذ الاستقلال في 1956، عسكرية كانت أم مدنية، ظلتْ مشاكل البلاد هي نفس المشاكل، خاصة فيما يتعلق بإدارة السياسة ومخاطبة، ومن ثمّ معالجة قضية السودان المحورية: إنهاء الحرب، وتحقيق السلام، وتعزيز وحدة السودان. ومن جهة القوى السياسية، فبالرغم من تقلبها بين الحكم والمعارضة، إلا أنّ هذه النّخب السياسية، بما فيها النخبة الجنوبية التي اختارت لاحقاً، الانفصال، لم تستوعب الدرس من سنوات الحرب الممتدة، وتسلّط الجيش علي السياسة (من ضمن دروس اخري)، ولم تدرك الحاجة الماسّة إلى إعادة النظر في سياساتها التي أدتْ إلى إشعال وتفاقم الحرب، بكلِّ تبعاتها المأساوية، بل تنكبت الطريق في كلّ المرّات التي أتت بها مجدداً إلي سدّة الحكم.وهكذا، تسرّبت فرص السلام، وضاعت بين يدي النخبة السياسية الحاكمة والمعارضة، على حدٍّ سواء، عشية الاستقلال، بالتحايل والالتفاف على مطلب الجنوبيين العادل ب”الفدرالية”، والعجز عن، والإخفاق في تنفيذ مقررات “مؤتمر المائدة المستديرة”، أو توصيات “لجنة الإثني عشر” المنبثقة عنه، ونكوص نميري المتعمد لاحقاً عن أحكام اتفاقية أديس أبابا، اختلاق العقبات، ووضع العصي في دواليب تنفيذ مستحقاتٍ رئيسة لاتفاقية السلام الشامل، ممّا أسهم، بقدر ما، في تفضيل الجنوبيين لخيار الإنفصال على وحدة البلاد، بينما يظلّ الجرح ينزف في ما تبقى من السودان!
عشية الاستقلال وما بعدها: بداية النهاية:
إن انفصال الجنوب، بعد حروب دامية، وإن جاء عن طريق استقتاء شعبي تمّ بدرجة من النزاهة، هو نهاية محزنة لعملية السلام، إلا أنّ المسبّبات التراكمية لهذه النتيجة، تعود لسياسات وتوجّهات النخب الحاكمة منذ عشية الاستقلال. وهنا قد لا يختلف كثيرون مع منهج منصور في التمييز بين الدوافع “المباشرة” والأسباب “التاريخية” المزمنة، تلك التي أشعلت فتيل الحرب ابتداءً، أو ضاعفت من ضراوتها ووسّعت رقعتها، وأفضت إلى التجزئة في نهاية المطاف.
منذ عهد “مؤتمر الخريجين” عقد “الشماليون”، وبصورة أدقّ تلك الطبقة المتعلمة منهم، العزم على وحدة السودان، وذلك بإعلاء الوعي الوطني فوق انتماءاتهم القبلية والإثنية، بما يشمل الشمال والجنوب. ولكن، بسبب يعود إلى النظرة الضيقة لمقومات الوطنية السودانية، تقاعستْ هذه النخبة عن خلق اطار جامع، يدين له كلّ أهل السودان بالولاء. ففي الطريق للحكم الذاتي أفلحت النخبة السياسية “الشمالية”، في أولاً: الحيلولة دون توفيرضمانات للجنوب في حالة استقلال السودان وبقائه موحدا، وثانياً: أفلحت في عزل الجنوب عزلاً كاملا عن كلّ الاجتماعات التي تقرر فيها مصير البلاد شمالها وجنوبها، من داخل البرلمان، في ديسمبر 1955.
أما ثالثة الأثافي، فلتهدئة مخاوف الجنوب، وتمهيد الطريق أمام الاستقلال الوشيك ، تعهّدت الطبقة السياسية الشمالية بقرارٍ من البرلمان، في 22 ديسمبر 1955، أن تنظر الجمعية التأسيسية المرتقبة بعين الاعتبار للمطلب الجنوبي حول الفدرالية كضمان لخصوصية الجنوب. وبقبول ممثلي الجنوب لذلك التعهّد، انتقل السودان إلي الاستقلال في مطلع يناير 1956، إلا أنهُ بعد مضى أسابيع قليلة، قادت الأحزاب في شمال السودان، التي أعلنت التزامها بالنظر بعين الاعتبار لمطلب الفدرالية، حملة ضارية ضد فكرة الفدرالية، بل وصفتها بأنها مخطط استعماري محض. وهكذا، ما أن خرج البريطانيون من بؤرة الأحداث، حتي تراجع الزعماء السياسيين الشماليين عن تعهدهم، وشرعوا في إدارة الجنوب كاقليم خاضع تقريياً لسيطرة الشمال. تلك الأوضاع خلقت انطباعاً لدى الجنوبيين بأنهم قد استبدلوا حاكماً بحكم، لا سيما بعد أن أضحت المطالبة يالفيدرالية خيانة عظمي. ما غاب عن نظر منصور ذلك الثمن الباهظ الذي دفعه قياديّ جنوبيّ هو ستانسلاوس بايساما، فأهداه مع آخرين، كتابه “أهوال الحرب وطموحات السلام: قصة بلدين (دار تراث، القاهرة ، 2003). كل مافعله ستانسلاوس أنه كان في طليعة الدعاة لوحدة الشمال والجنوب، إلا أنه طرد من الوزارة واودع السجن لمجرد دفاعة عن الفدرالية.
في غمار التسابق نحو الاستقلال، واللهفة لاستلام السلطة من المستعمر، بدأت الأحزاب الشمالية مسيرتها بداية خاطئة، بخوضها الانتخابات الأولى في 1953 ، في وقتٍ كانت فيه عملية الحكم الذاتي كلها محلّ إستياء من الجنوبيين، لعدذة أسباب، أهمها، أولا: لإغفال طرفي الحكم الثنائي توسيع دائرة المحادثات المصيرية لتشمل الشمال والجنوب معاً ، وثانيا: ساد شعور وسط القيادات الجنوبية الناشئة، بأنّ أحزاب الشمال، بانشغالها بقضاياها الخاصة، قرّرت استبعاد الجنوبيين عملياً من كلّ القرارات المصيرية، ثالثاً: سقوط قضية وحدة البلاد نفسها من مسرح السياسة الداخلية. فبينما اتحدتْ الأحزاب السياسية، مثل حزب الأمة والجمهوريين وحزب الأحرار للمطالبة بالاستقلال، انصرف الوحدويون، بكل طاقاتهم، للعمل من أجل الوحدة مع مصر. وهكذا، يري منصور أنه، منذ ذلك التاريخ، لم يعد الاستعمار هو العامل الوحيد الذي يتخذه الساسة الشماليون ذريعة لما صار إليه أمر الجنوب. فمنذ الأول من يناير 1956، “أصبح حكام الخرطوم الوطنيون هم صانعو محنتهم ومهندسو نكباتهم!”. (قصة بلدين، 2003، ص 258).
حكومتا الائتلاف: نفس الملامح والشبَه:
الحاقاً للإساءة بالأذي، فقد بدأ الصراع والتنافس المحموم على السلطة بعد الاستقلال مباشرة بانقسام الحزب الحاكم، “الوطنيّ الاتحاديّ“، فشكّل المنشقون عنه “حزب الشعب الديموقراطيّ”. بل وذهب الحزب الجديد للتحالف مع حزب الأمة، عقب لقاء أصبح يؤرّخ به: لقاء السيدين الغريمين في 3 ديسمبر 1956، الذي بموجبه تمّ نزع الثقة من حكومة الوطني الاتحادي، برئاسة إسماعيل الأزهرى، ليتولي زمام الحكم الحليفان الجديدان. وفي التشكيل الوزاريّ الجديد، أصبح سكرتير عام حزب الأمة، عبد الله خليل، رئيسا للوزراء.
هذه فترة كان منصور شاهداً عليها من داخل ديوان رئيس الوزراء، بحكم عمله كسكرتير له، لكنه التزم، كمؤرّخ سياسيّ موضوعيّ، بمنهج نقدي صارم لتوجه وسياسات حكومته، فيما يلي قضية السلام والوحدة، ولم يمضغ الكلمات، أو ينمّق الحروف في تعرية خطل هذه السياسات، عندما حانت ساعة التقييم والتقويم. فقد ركّز التحالف الجديد جلّ طاقته على ما يشغل الأحزاب دوماً: الانتخابات، الأمر الذي لم يترك لهما وقتاً ليعنيا بكبري قضايا الوطن: الحرب في الجنوب ووحدة البلاد.
في تلك المرحلة أيضا، نقض الشمال عهده الخاص بحصول الجنوب علي الوضع الفدرالي عندما قررت لجنة الدستور، في مايو 1958، بأغلبية آلية، أن عيوب الفدرالية تفوق محاسنها، فكان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. أثار هذا القرار غضب الأعضاء الجنوبيين في اللجنة، وعبر متحدث، الأب ساترنينو لاهورو، إنابة عنهم بأنه: “ليس لدي الجنوبيين أي نوايا سيئة تجاه الشمال، فالجنوب ببساطة يطالب بإدارة شئونه المحلية داخل سودان موحد، وليست لدية أية نية للانفصال”. وأضاف بأن “الجنوب سيقوم بالانفصال عن الشمال في أية لحظة يقرر فيها الأخير استبعاد أهل الجنوب بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة، عن أي قرارات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تخص الإقليم أو تؤثر عليه“. وبدلا عن الاعتراف بالحق والجد في الاستقصاء، وأخذ العبرة من ما حدث لستانسلاوس بياسما في 1955، تمت تصفية الأب ساترنينو لاهورو، في ظروف غامضة خلال العهد البرلماني الثاني (1967)!
وهكذا، اندفعت الحكومة في نفس المسار الاعتباطي الذي سلكته الحكومات السابقة، وبذلك أضاعت أول حكومتين مدنيتين، أكثرالفرص مواتاة لتوحيد السودان وتفادي الحرب، فخيّبت آمال وتطلعات السودانيين.
الحكم العسكري الأول: الحل في الحرب:
بحكم قربه يومذاك من رئيس الوزراء، شرح منصور الظروف التي مهدت لقرار عبد الله خليل تسليم السلطة للجيش، والتكوين النفسي الذي قاده لاتخاذ القرار، والشرح ليس هو التبرير. فالتي أغضبت رئيس الوزراء، ضمن دوافع أخرى، هي تلك المناورات الحزبية داخل حزبه. كان واضحاً أن التزام الطبقة السياسية بالديموقراطية ، هو في حقيقة الأمر، التزامٌ سطحيٌّ، ليس في الطريقة التي سلّم بها رئيس الوزراء السلطة للعسكر، فحسب. فما أن استلم عبود السلطة حتي سارع الزعيمان، راعيا الديمقراطية، لمباركة نظامه العسكريّ، في بيانين بثتهما إذاعة أمدرمان.
يصف منصور نظام عبود بأنه كان حقاً نموذجاً للاستبداد والطغيان في الشمال والجنوب. ففي الشمال، لم يحتمل النظام وجود أيّ معارضة، أما في الجنوب، فقد حسم الأمر بأن السبيل الوحيد للتغلب علي الصراع الجنوبيّ هو العنف المسلح، والمزيد من القمع، وبذلك ألحق نظام عبود خسائر فادحة بالعلاقات بين الشمال والجنوب. فعلى سبيل المثال، تصاعدت خلال فترة حكمه، وتيرة لجوء الجنوبيين العاديين (وليس السياسيين فحسب) إلى الدول المجاورة كأثيوبيا وكينيا ويوغندا وجمهورية أفريقيا الوسطى والكونغو.
مع القمع الداخليّ في الشمال، والانهيار الاقتصاديّ في كلّ السودان، وتصاعد حدّة الحرب في الجنوب، أدت تلك الظروف مجتمعة، إلى درجة من السخط والغضب الشعبيّ لتندلع انتفاضة شعبية، أطاحت بحكم الجيش، وأفضت إلى تشكيل حكومة انتقالية (1964-1965) للإشراف على انتقال السلطة مرة أخرى إلي حكومة منتخبة.
مؤتمر المائدة المستديرة: ضياع فرصة أول مبادرة سلام سودانية:
اختلفت حكومة أكتوبر(1964-1965) خاصّة في تشكيلها الأول، عن سابقاتها، بأنها الوحيدة التي وضعت مشكلة الحرب والسلام على رأس أولوياتها. وبالرغم من أنها جاءت بأفكار جديدة وأولويات سليمة، إلا أنها افتقدت السيطرة المركزية القوية، ولذلك كان تفكّكها أمراً محتوما. وفي أول محاولة سودانية جادة للبحث عن السلام، أفلحت حكومة أكتوبر في اقناع القيادات الجنوبية بالجلوس إلى طاولة التفاوض، فيما سمي “مؤتمر المائدة المستديرة” (16-29 مارس 1965). لم يكن خطاب رئيس الوزراء (سر الختم الخليقة)، أمام المؤتمر، تقليدياً مكرراً، بل تضمن استعراضاً جديداً للأزمة، بصورة غير مسبوقة، إذ وضع قضية الجنوب في سياقها التاريخيّ الصحيح.، وطالب القادة الجنوبيين بمنح الجنوب الحق لممارسة تقرير المصير بنفسه، عبر استفتاء، ليحدّد أهله رغبتهم من بين ثلاثة خيارات: إمّا الوحدة، أو الاتحاد الفدرالي، أو الانفصال. ولعلّ في هذا الطلب المبكر للاستفتاء، رداً شافياً لتساؤلات العديد من السياسيين والمراقبين، في شمال البلاد، حول موضوع “حق تقرير المصير”، ومَن أين أتى؟ رفضت جميع الأحزاب الشمالية فكرة إجراء استفتاء عام، كما لم تقبل بالفيدرالية. قصارى ما كانت على استعداد للاستجابة إليه هو: وضع خاص يشمل قيام مجلس تشريعيّ للإقليم، ومجلس وزراء محليّ، تقتصر صلاحياته علي التعليم والصحة والزراعة. إذن، صرفتْ حكومات الشمال النظر نهائياً عن موضوع الفدرالية، الذي كان هو محور الحوار السياسي منذ يناير 1956، واستبدلته بمشروع دستور 1968. تم تقديم هذا المشروع بعد تأجيل “مؤتمر المائدة المستديرة” الذي أكد فيه الجنوبيون تمسكهم بمطالبهم الرئيسة.
ساد رأيّ، في أوساط الشماليين، يحمّل الجنوبيين تبديد فرصة التصالح التي وفرها لهم الشمال، إذ أن المفاوضين الجنوبيين آثروا الامتثال لمطالب حركة أنيانيا المتشدّدة، بينما عجزوا عن تجاوز خلافاتهم الشخصية والقبلية والسياسية، ممّا ألقي بظلال كثيفة على المؤتمر، أعاقت الرؤية عمّا هو أهمّ: وهو تحقيق السلام. يرى منصور أنّ حقيقة الأمر غير هذا، ففي تلك الأيام، كانت أذهان وأبصار الساسة الشماليين–لا الجنوبيين- غائبة عن المؤتمر، وجميعها مشدودة إلى الانتخابات الوشيكة. وفي إطار الإعداد لتلك الانتخابات، أضحت قضية الحرب في الجنوب محلاً للتنازع والتزيّد بين الأحزاب. فكان كلّ حزبٍ يتردّد في تقديم أيّ تنازلات للجنوب، خشية أن يصبح ذلك سلاحاً في أيدي خصومه يستخدمونه ضده في الانتخابات. نتج عن ذلك الموقف أمران. أولهما: تشدّد الجنوبيين في رفع سقف مطالبهم، وثانيهما: سعي أحزاب الشمال الحثيث لكسب السياسيين الجنوبيين، ليس بهدف انجاح المؤتمر، بل لضمان وقوفهم معها في الانتخابات.
ومع الانهيار الفعليّ لأعمال المؤتمر، و”لجنة الإثني عشر” المنبثقة عنه بغرض متابعة ما خرج به من مقررات محدودة، لم ترقَ لدرجة تشكيل أساسٍ لإقرار سلامٍ دائمٍ وعادل، صدرت شهادة وفاة أول مبادرة سودانية لتحقيق السلام، وانصرفت الأحزاب لما تجيد فعله: الانتخابات!
تميّزت هذه الفترة (1965-1969) بتبدل الحكومات الائتلافية، وتبادل رئاسة الوزراء، وبالصراعات والإنقسام المستوطن داخل الأحزاب وفي ما بينها، وعجزها المزمن عن العمل سويا، ولو لفترة معقولة من الزمن. تصاعدت وتيرة الحرب في الجنوب، وأطلق العنان لإرهاب فاق ارهاب عبود، خاصّة خلال فترة الحكومة الائتلافية الأولى (أبريل 1965- يوليو 1966)، برئاسة المحجوب، الذي لم يرَ فيه الجنوبيون يومئذ إلا رمزاً للشرّ.
أما الصادق المهدي، رئيس الوزراء (يوليو 1966- مايو 1967)، فبدلاً من أن يستدعي “مؤتمر المائدة المستديرة”، بعد تلقيه لتقرير “لجنة الإثني عشر”، التي شكلها المؤتمر لترفع تقاريرها إليه، أثر عقد ما أسماه “مؤتمر عموم الأحزاب”، والذي قاطعته قوى سياسية معتبرة من الشمال والجنوب، ولم يتوصّل إلى مخرجات، تصلح كأساس للإجماع حولها، حتى لو شاركت فيه كل الأحزاب الشمالية. إلا أنه، خلال، وبعد انتخابات الجمعية التأسيسية الثانية، في خضم حربهم المقدسة لصياغة دستور إسلامي يعزّز نفوذهم، ويقضي على معارضيهم اليساريين، عطفاً على حلِّ الحزب الشيوعيّ السودانيّ وطرد نوايه من البرلمان، في نوفمبر 1965، تناسى الجناح الإسلاموي في المؤسسة السياسية التقليدية بكلّ بساطة مشكلة السودان الأولي: الحرب في الجنوب. لم تستطع الأحزاب ان تتوحّد لفترة كافية من الزمن حتى لإقرار الدستور الذي صاغوه، بغية احكام قبضتها على مقاليد الحكم، فقادتْ صراعاتها لتشكيل المناخ الملائم لتدخل الجيش في 25 مايو1969، وإن كان هذه المرّة دون دعوةٍ من أحد.
اتفاقية الحكم الذاتي للجنوب: فرصة سلام نادرة، صنعها واهدرها نميري:
إحدى الفرضيّات الرئيسة لأطروحة منصور، أنّ ما يدعيه الساسة المدنيون، بأنّ تدخل الجيش في السياسية لم يتح لهم فسحة كافية للحكم، إذ نجحت ثلاثة انقلابات في الاستيلاء علي السلطة بين 1958 و1989، ليس بواهٍ فحسب، بل هو خداع للنفس. في الواقع، فكلما تدخل الجيش لأخذ الحكم عنوة، كان ذلك يتمّ دوماً إمّا بناء علي دعوة الزعماء المنتخبين، أو ومباركتهم له، أو نتيجة لصراعات ومكايدات الحكومات الائتلافية. وهكذا، يعتبر منصور أن الأحزاب هي المسئول الأول عن تسييس الجيش باقحامه في حرب أهلية دوافعها سياسية متجذّرة، حيناً بدعوى وضع حدّ لهذه الحرب (1969 و1989)، وتارّة بحثّ الجيش من قبل الأحزاب السياسية الأيديولوجية لاستلام السلطة (الشيوعيون والناصريون في 1969، والبعثيون في عددٍ من المحاولات الانقلابية خلال فترات الحكم المدني). إنّ فشل الأحزاب الشمالية في مخاطبة، والتعامل مع، النزاع الدّامي في ريف السودان، خاصّة في الجنوب، وترك المهمة على عاتق الجيش، يعدّ في حد ّ ذاته تسيساً للجيش.
عاملان متلازمان، ضمن دوافع أخري، يعزو لهما منصور انقلاب 25 مايو 1969. أولهما: هو انتشار الثقافة العسكرية في المنطقة كلها، في ذلك الوقت، ولو بأردية أيديولوجية مختلفة، وثانيهما: هيمنة هوس الحزب الواحد في جنوب القارة، كما في شمالها، باستثناء حالات قليلة. لقد ساد يومها، أنّ توحيد الأوعية السياسية في حزبٍ واحدٍ، هو الوسيلة المثلى لبناء الوطن والحفاظ على وحدته. ولا شكّ أنّ شرائح كبيرة من النخب السودانية كانت تتطلع إلى نجاح مثل الذي حققه جمال عبد الناصر في مصر، وربّما كان هذا هو حلم كلِّ الذين ناصروا العسكر في استيلاءهم على الحكم في كلِّ العالم العربي. مع ذلك، فمن المهم هنا، أنّ منصور لا يخفي كونه ضمن بعض النخب في الحكم، ولو بالوكالة، التي داعبتها الأحلام لتحقيق نقلة نوعية في السياسة السودانية، على نفس النهج. بل، يقرّ منصور بأن تلك الأحلام “تحوّلت إلى كوابيس مفزعة للأمّة كلها”. بل ويزيد، بأن عوامل الضعف في شخصية نميري ما كان لتصل إلى الحدّ المأساوي، الذي وصلت إليه، “لولا سعينا لمأسسة الطغيان”. فبصرف النظر عن الظروف الموضوعية التي حدت بنا للتحالف مع نميري، وبصرف النظر أيضاً عن الإنجازات التي تحققت في عهده، إلا أنّ السلطات التي منحها الدستور للرئيس، وضعف التنظيم السياسي في استغلال الكوابح التي توفرت في نفس الدستور للحدّ من سؤ استغلال تلك السلطات، جعلت من نميري صنما، “يسدن عليه من يسدن“.
كان منصور متابعاً لكلِّ محطات عملية السلام منذ اعلان الرئيس نميري لنواياه في التوصل للحلّ السلميّ في 9 يونيو 1969، بالرغم من اقامته يومذاك خارج البلاد. وقد أشار أبيل الير، في كتابه ،”جنوب السودان: التمادي في نقض العهود” ( الخرطوم، 1998)، إلي دور منصور المباشر في بعض المهام، حينما كان مندوباً للسودان في الأمم المتحدة، ممّا لم يمكنه من المشاركة في المراحل الأولى من الإعداد للمباحثات. بيد أنه ، بحكم موقعه لاحقاً كوزير للخارجية (أكتوبر 1971)، شارك في اللقاء التحضيري بين مبعوثي الحكومة و”حركة تحرير جنوب السودان”، بحضور مندوبي “مؤتمر كنائس عموم أفريقيا” و”مجلس الكنائس العالمي”، في نوفمبر 1971 بأديس أبابا، بغرض استكشاف مواقف الطرفين، والتعبير عن رغبتهما المتبادلة في تحقيق السلام. انتهي اللقاء باتفاق الجانبين على الشروع فوراً فى للمفاوضات في ذلك الاجتماع التمهيدي ، عقد في 20 يناير 1972 بأديس أبابا. أنصف أبيل ألير د.منصور بكلمات طيبات ، وزكّاه بها لعضوية وفد التفاوض، فوصفه بأنه “واسع الاطلاع، ومفكر غزير المعرفة، ويمتاز ببصيرة عملية، ولم يكن غريباً على مشكلة الجنوب. ومما يؤثر عنه عيبه على الشماليين حصولهم على الاستقلال بالخديعة، إشارة منه لتنكرهم للوعد الذي قطعوه للجنوبيين بمنحهم حكما فيدراليا، إذا ما أيدوا قرار الاستقلال. وكان رجلا قويّ العارضة، واسع الثقافة، يسبق جيله بسنوات عدة”. وبالطبع، كان منصور عضواً فاعلاً في الوفد الحكومي للمفاوضات الرسمية، 12-27 فبراير 1972، التـي انتهت إلـــى ما أطلــق عليه فيمـا بعد اتفـــاق أديس أبابـا ADDISS ABEBA ACCORD. بل وقع منصور نيابة عن حكومة السودان، مع أنه لم يكن رئيساً لوفد المفاوضات الذي ترأسه أبيل الير، بصفته نائب رئيس الجمهورية، بناءً على طلب وفد حركة استقلال جنوب السودان. تحسّر منصور لهذا الطلب لأنه، في نظره، كشف عن ضيق في رحابة الصبر من قبل الجنوبيين، وضيق أفق سياسة المفاوضات. وبكلّ المقاييس، فأبيل الير زعيم قوميّ، كما أنه من أعمدة المجتمع الجنوبي.
هكذا، وفي اتساق مع أطروحة منصور، بينما عجز الحكم النيابي الثاني (1965-1969) في المضيّ قدماً على طريق “مؤتمر المائدة المستديرة” وتوصيات “لجنة الاثني عشر”، سار نميري، ونظامه العسكريّ، على خطي حكومة أكتوبر بإعطاء الأولوية لوقف الحرب وحلّ قضية الجنوب، وبذلك نجح في ترتيب الأولويات. تمثلت النقاط الجوهرية في الاتفاق في بنود قانون الحكم الذاتي لجنوب السودان، لعام 1972، الذي أقرّ تشكيل الإقليم الجنوبي، على أن يتولى إدارته مجلس تنفيذي عالي، تشرف عليه جمعية تشريعية إقليمية (مجلس الشعب الإقليميّ) تتمتع بصلاحيات واسعة للإشراف على كل جوانب الإدارة، باستثناء ما يدخل في حيّز سلطات المركز. وبحكم موقعه التنفيذي، ساهم فيما اتخذ من خطوات متقدمة في إعادة بناء الإقليم الجنوبي باستنفار المجتمع الدولي، الذي لم يبخل بالعون. فقد أعطت وزارة الخارجية مهمّة تعمير الجنوب أولوية قبل الاتفاق بكثير، إذ عقد الرأي على أن أيّ اتفاق لا تصحبه خطة لإعادة بناء الجنوب وتأهيله، وتوطين اللاجئين والنازحين من أهله، سيُمنّى بالفشل.
في شهادته لنكوص نميري المتدرّج عن أحكام الاتفاق، يري منصور أن تفكيك اتفاق أديس أبابا، لم يكن نتاجاً لتخطيط نميري وحده، فقد كان له أيضاً محرضون ومساندون. فقد كانت القوي السياسية التي أقصاها نميري عن الحكم في عام 1969، لا تخفي معارضتها لاتفاق خوّل للجنوبيين سلطات كتلك التي نصّ عليها اتفاق أديس أبابا. لا غرابة، إذن، في أن تمارس هذه القوى، بعد المصالحة مع نظام مايو(1969-1985)، الضغوط على نميري، لدفعه إلى إلغاء الاتفاق بحجّة أنه يذيب الهويّة العربية الإسلامية، ويعرّض السيادة الوطنية للخطر. ويذهب منصور أكثر من ذلك ليدمغ موقف هذه القوى، حول اتفاق ينهي الحرب، بأنه كان يفتقر إلي أدنى درجات الوطنية، سواءً كان هذا الموقف صادر عن شعور بالامتعاض الشديد، لأنّ الاتفاق اعتمد علي قرارات “لجنة الاثني عشر” التي عجزت الأحزاب عن تنفيذها، أو بسبب عداء للنظام، رغم عودتهم للمشاركة فيه. حقاً، كانت الممارسات الديمقراطية الوليدة في الجنوب (مجلس تشريعيّ اقليميّ منتخب، ومجلس تنفيذي عالي)، والحريات السياسية النسبية، مصدرالتخريب والتعطيل من المؤسسة السياسية الشمالية، باللجؤ لمناورات الأحزاب وأساليبها المعهودة في الاستقطاب.
كوكا دام واتفاقية الميرغني-قرنق: عودة حليمة إلي قديمها:
مع أنّ الحكومة الانتقالية، التي شكلتها قوى الانتفاضة السياسية والنقابية، في أعقاب سقوط نظام نميري عام 1985، لم تنجز شيئاً حيال القضايا الملحّة لميثاق الانتفاضة، إلا أنّ منصور يعترف للنظام بأنه أولى قضية الحرب اهتماماً ملحوظاً، واتجه إلى الحوار الجديّ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. فانبرى النقابيون المهنيون للاتصال والتواصل مع قيادة الحركة الشعبية، التي توّجت بلقاء كوكا دام في مارس 1986، وشاركتْ فيه، بجانب التنظيمات النقابية، كلّ الأحزاب السياسية، باستثناء “الحزب الاتحاديّ الديمقراطيّ”، وبالطبع “الجبهة الإسلامية”. انتهي الاجتماع بإعلان مشهود تضمّن الاتفاق على عقد مؤتمر قوميّ دستوريّ، كما وافقت الحركة على المشاركة في حكومة وحدة وطنية، تشمل الأحزاب السياسية والجيش والنقابات. مثلت مقررات كوكا دام طفرة هامة في طريق السلام ولاحت فرصة أخرى لتحقيقه، إلا أن لا الحكومة الانتقالية ولا النظام النيابى الذي أعقبها، لم تحسن اغتنامها فتبخرّت آمال قوى الانتفاضة، فاستمرّت حالة الحرب قرابة عشرين عاما أخرى.
صحيح أن الفترة الانتقالية كانت قصيرة للغاية بالقدر الذي لم يمكن الحكومة الانتقالية، والمجلس العسكري الانتقالي، من إجراء تغييرات عملية في البنية السياسية السودانية، بل عقدا العزم على عدم اتخاذ أي قرارات صعبة، مؤثرين ترك تلك المهمة الشاقة للحكومة المدنية المنتخبة القادمة. ولم تأتِ انتخابات 1986 بجديد، ممّا يعزّز أطروحة منصور بأن السودان ظلّ يحكم عبر ائتلافات متواترة متوترة بين حزبين شماليين، تفرّق بينهما الطموحات الحزبية والأهواء الشخصية أكثر من الرؤى والمبادئ. فبالرغم من اجماع كلّ المؤتمرين على إعلان كوكا دام، دون أدنى اعتراضٍ أو تحفّظ، سرعان ما استنكر الإمام الصادق المهديّ الإعلان الذي وقع عليه ممثلو حزبه، بحجّة أنهم لم يكونوا مفوضين للموافقة عليه، ببينما لم يشارك حزب مولانا محمد عثمان الميرغني أصلاً، والذي لم يكن بعد قد عقد العزم على التعامل مع الحركة الشعبية، كرقمٍ لا يمكن تجاوزه في معادلة الحرب والسلام. ويعتقد منصور أنّ ابتزاز الجبهة الإسلامية، حول ما نصّ عليه الإعلان بشأن “قوانين سبتمبر”، كان له الدور الكبير في تراجع السيد الإمام عمّا أقرّه مندوبو حزبه بتأييد منه. ومن جهة أخري، قرر الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي قاطع محادثات كوكا دام، أن تكون له، هو الآخر، مبادرته الذاتية، فأبرم زعيمه الميرغني، في نوفمبر 1988، اتفاقاً مع جون قرنق، زعيم الحركة الشعبية، أطلق عليه اسم “مبادرة السلام السودانية”. ويحسب منصور أن الأحزاب السودانية ظلت تستخدم أسلوب استرضاء النخب السياسية الجنوبية، وإيلاف النخب التقليدية (السلاطين)، والاستعانة في تقييم الأوضاع بخبرات قدامى الإداريين والتجار الجلابة في الجنوب، مما جعل هذه الأحزاب عاجزة عن إدراك عمق المشكل. لهذا السبب لم يرَ حزب الأمّة في مبادرة الاتحادي الديمقراطي، للتفاوض مع الحركة الشعبية، إلا محاولة لتسجيل نقاط سياسية حزبية.
وهكذا، يخلص منصور بأنه كان بمقدور رئيس الوزراء تبنّي المبادرة والعمل على تفعيلها باعتباره الجهة المؤهلة لتنفيذها. ولكن، أضاع الفرصة مرّة أخري، تماما كما فعل عقب إعلان كوكا دام في 1986، فاستغرق جهداً كبيراً في التعليق وإبداء الملاحظات والتوضيحات، التي استمرّت لستة أشهر كاملة، انتهت بانقلاب 30 يونيو 1989 المحتوم.
اتفاقية السلام الشامل: من دولة واحدة بنظامين إلي دولتين بنظام واحد:
هذه المرّة، لم يكن منصور في جانب الوفد الحكومي، بل كان شاهداً لكلّ جولات التفاوض وتفاصيلها، منذ التوقيع على اتفاق مشاكوس في 2002، وهو مستشار رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، والمفاوض الأول لها، لتسعة أشهر ممتدّة، مع النائب الأول لرئيس الجمهورية. وللمفارقة، مع أنه أيضاً كان مستشاراً لوفد الحركة المفاوض مع الحكومة، إلا أنّ منصور لم يكن عضواً فيه، ليس من سببٍ إلا لأنه لا يحمل رتبة في الجيش الشعبي، ولا يتمتع بقاعدة شعبية أو مسلحة في الجنوب، أو جنوب كردفان أو النيل الأزرق، وتلك هيَ المناطق التي تدور فيها الحرب. ولهذا السبب، أيضاً لم يكن منصور عضواً في القيادة السياسية- العسكرية العليا للحركة، إلا أنه كان مشاركاً في كلّ وفود الحركة في كافة اجتماعاتها مع القوي السياسية (كوكا دام 1986، وآمبو 1989)، أو الزيارات الخارجية، خاصّة مصر والولايات المتحدة. فبصفته مستشاراً، ولصيقاً بجون قرنق، الدينمو والمحرّك الرئيس للمفاوضات، فقد كان منصور حاضراً ومساهماً في كلّ لقاءات رئيس الحركة مع ممثلي المجتمع الدوليّ، من الدول والمنظمات، بل والإعداد لها وتحضير أجندتها، كما أن هذا المجتمع لا ينسى مشاركته في صنع اتفاق أديس أبابا للسلام. لا شكّ، أن منصور كان داعماً لزعيم الحركة الشعبية، ومنافحاً عن كل ما يتصل بالحركة الشعبية في المحافل الإقليمية والدولية، ولعل كلمات ابيل الير الطيبات في حق منصور، في العام 1971، وطدت ثقة جون قرنق فيه.
وثمّة مفارقة أخري، فالعقيد جون قرنق الذي ظلّ يقود التفاوض في نيفاشا، ومنصور من خلفه، كان في 1972، خلال مفاوضات أديس للسلام، ضابطاً صغيراً للاستخبارات في صفوف “حركة أنيانيا”، التي وقع منصور معها اتفاق سلامٍ نيابة عن حكومة السودان. ومع ذلك، كان لقرنق رأيٌ مخالف لقيادة حركته حول المفاوضات عبّر فيه عن عدم ثقته في أن تفضي المفاوضات إلي حلٍّ دائم، طالما أنه لم يذهب إلى تغيير جذري في هيكل السياسة السودانية. وطرح قرنق القضايا التي تقع في إطار هذا التغيير: فصل الدين عن السياسة، مسألة القوميات، إدارة شئون الأمن في الجنوب خلال الفترة الانتقالية، واعتماد الاتفاق عن طريق الاستفتاء الشعبي. كما أنه أبدى انزعاجاً للعواقب الوخيمة التي قد تنجم عن الدمج المتسرّع لقوات “حركة الأنيانيا” في الجيش السوداني. ورغم طلب قائده، الجنرال جوزيف لاقو، من ضابط استخباراته تدوين رأيه كتابة، وما أن فعل ذلك، حتي اتخذ لاقو أمراً بسحبه من قائمة المفاوضين، ونقله إلي قيادة “الحركة” في أعالي النيل. ويستدرك منصور أن التطورات اللاحقة أثبتت صدق حدسه، بل ويعترف بأن “رأي قرنق، في غمرة ابتهاجنا بتوقيع الاتفاق، ما كان ليمثل فى حسباننا غير رأيٍّ سجاليّ من ضابط صغير مولع بالجدل. غير أنه بعد مرور عشر سنوات، تحوّلت هواجس قرنق، خاصة حول الاستفتاء علي الاتفاق، والفترة الانتقالية، ودمج القوات، إلي نبؤة تحققت بالفعل”. وكان ذلك عندما نقض الاتفاق لاحقا، لا بسبب كارثة طبيعية أو تدخل خارجي، وإنما لأن من يفترض أن يكونا صانعي الاتفاق – نميري ولاقو – قررا ذلك.
لاشك، أن تجربة منصور العملية مع نظام مايو، خاصة ما انتهى إليه أمر اتفاق أديس أبابا، دفعته للانضمام للحركة الشعبية مبكراً، كأول شماليّ، بعد أن استوثق أن قراره هذا، لم يكن مجرد هاجس. فقد خلصَ، إلي أنّ علل السياسة السودانية يستحيل الشفاء منها طالما بقيتْ الخرطوم- مركز السلطة في البلاد– علي ما هي عليه. حقيقة، أنا ونفرٌ غير قليل من الشماليين استجبنا لمشروع “السودان الجديد”، لمّا رأينا فيه من دعوة صادقة من زعيم جنوبي تجاوز النظرة الضيقة للجنوبيين في فهم مشكلة الجنوب، وحطهم من قدر أنفسهم كسودانيين وشركاء أصيلين في دولة المواطنة.
وبالرّغم من معارضة منصور الشرسة لنظام الإنقاذ، وقوله في الإسلاميين، في كلّ كتاباته، ومنذ طرح مشروع الدستور الإسلامي في 1968، ما لم يقله مالك في الخمر، مع ذلك لم يبخس الشيطان حقه. فأولاً: لأنّ “الجبهة الإسلامية القومية”، أوصلت التناقضات السودانية والاستقطاب حدّ الذروة، وثانياً: لأنها تنظيم سياسيٍّ متطرّف، أثار استغراب جميع السودانيين، كونه أول حزبٍ سودانيّ شماليّ على سدّة الحكم، يعترف بالتنوّع والتعدّدية في البلاد، مما جعله قادراً على التحليل الصحيح للأسباب الجذرية لأزمة السودان الدائمة.
في الواقع، أحرز نظام الإنقاذ “الإسلامي” نقاطاً في مجالي السياسية والتنمية، وضعت خصومها الشماليين (الأحزاب السياسية التقليدية) في الظلّ: 1) كأول حزب حاكم يعترف بحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، مع أن الإقرار بذلك جاء بعد إثني عشر عاماً دامية من “الجهاد”، و2) كأوّل حزب شماليّ يوقع اتفاقية سلام مع الجنوب، مكّنت الجنوبيين من ممارسة هذا الحق، على الرغم أنه أفضى إلي الانفصال، بعد أن حاول جاهداً أن يتنصّل من الاتفاقية، خلال فترة التنفيذ. وفي انسجام مع أطروحة منصور، وهذا وضع يختلف تماماً عن مواقف حكومات الأحزاب المتعاقبة منذ الوعود الكاذبة عشية الاستقلال، مروراً بكلّ محطات فرص السلام الضائعة، كـ”مؤتمر المائدة المستديرة”، و”لجنة الإثني عشر”، و”كوكا دام”، و”مبادرة سلام السودان”، في نهايات العهد البرلماني الثالث في يونيو 1989. إن نجاح حكومة نميري في 1972، وحكومة البشير في 2005، في التوصل إلي تسوية سلمية، عن طريق التفاوض، بغض النظر عن انهيار الاتفاق الذي توصل إليه الأول، أو العبث بالاتفاقية التي أبرمها الثاني، يقف دليلاً دامغاً علي توفر طريقٍ بديلٍ لبلوغ السلام. ومع ذلك، تظل كل الإنجازات التي سجلها الإسلاميون في مجالات السياسة والتنمية باهظة التكلفة سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا.
يختلف اتفاق أديس أبابا 1972 عن اتفاقية نيفاشا في عدّة جوانب، ومن بينها:
أولاً: فبدون خلط الأسباب مع أعراض أزمات السودان المركبة، تطرقت الاتفاقية لمخاطبة الدوافع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والهيكلية، المتجذرة لهذه الأزمات. بينما لم يُعن اتفاق أديس أبابا، مثلا، بقضية التحوّل الديمقراطي، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، بما في ذلك القوات المسلحة والقطاع الأمني، أو بوثيقة الحقوق الحريات الأساسية.
ثانياً: للمفارقة، لم يطرح موضوع الدين مطلقا علي طاولة التفاوض في أديس أبابا، رغم أنه لم يكن غائبا عن أذهان المفاوضين، خلافا لما حدث في مشاكوس حينما أصبحت علاقة الدين بالدولة الخط الفاصل بين الوحدة والتجزئة. ولربما كان لطبيعة نظام مايو “العلمانية” أثرها في إبعاد أيّ هواجس لدى الجنوبيين في هذه الناحية. وهذا، ما يؤكد دعوة منصور إلى أن الدين لا يقف عائقاً أمام الوصول إلى اتفاق سلام، إلا إذا أقحم في السياسة، كما حدث في 1968 وفي 1989.
ثالثاً : فرق جوهريّ ، وربّما الأهمّ، بين عملية السلام في 1972، إذ كانت بين الحكومة، وحركة الأنانيا، ممثلة للجنوب، أما اتفاقية السلام الشامل فقد كانت أكثر تعقيدا، لأن الجيش الشعبي لم يكن قوامه من الجنوبيين فقط، بل ضمّ مقاتلين من جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ، من الشمال الجغرافي، إضافة لأراضي تقع تحت سيطرته في هذه المناطق. وهكذا، كانت محادثات السلام تشمل المنطقتين، إضافة إلي أبيي، (ابتدع لهما اسم “المناطق الثلاث” أو “المناطق الانتقالية”). وللمفارقة، في الحرب الأهلية الأولي شكل الجنود من جبال النوبة العمود الفقري للجيش السوداني المحارب في جنوب السودان. وذلك، لأن الحرب الأولي تم خوضها تحديدا من أجل قضية الجنوب، بدون هدف قومي، لما جعله من الصعوبة بمكان علي المحاربين الجنوبيين استمالة أبناء النوبة لجانبهم.
لم يشر بروتوكول مشاكوس، الإطار المرجعي لاتفاقية السلام الشامل، بحجّة قوية للحكومة، بأنّ المنطقتين تابعتين للشمال، وبالتالي من المستحيل منحهما حق تقرير المصير، مما أثار غضب واستياء قيادات المنطقتين في الجيش الشعبي. ومن جهة أخري، وللمفارقة، أنّ بعض الجنوبيين “القوميين” حثوا د.قرنق على طيّ صفحة موضوع المنطقتين بعد مشاكوس. يبدو أن هؤلاء أسقطوا من ذاكرتهم مساهمة مقاتلي النوبة في صفوف الجيش الشعبي، أولا، للحفاظ على معاقله في مناطق جبال النوبة، وثانياً، لإحباط الهجمات المشتركة للجيش السوداني والمنشقين عن الجيش الشعبيّ. لم يستكن قرنق وواصل جهوده وضغوطه، حتي تمّ التوصّل إلي بروتوكول “تسوية النزاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق”، الفصل الخامس في اتفاقية السلام الشامل.ومع ذلك، أخفق البروتوكول في مخاطبة المظالم الأساسية المنطقتين، وبعد حرب وحشية طويلة ما زالت حقوقهم السياسية عصية المنال، وفي انتظار تسوية نهائية مؤجلة حتي يومنا هذا.
وفي تحليله لأسباب فشل الاتفاقية في تحقيق السلام الشامل، بل وتحوّل مشروع الدولة الواحدة بنظامين، إلي دولتين بنظامٍ واحد، في نهاية المطاف، يري منصور أن المؤتمر الوطنيّ هو المسؤول الأول عن عدم الإيفاء بمستحقاتها. ومع ذلك، فإن لامبالاة الحركة الشعبية، من جهة، وضعف متابعة ضامني الاتفاقية، من جهة أخرى، شجعت الحزب الحاكم للتمادي في خرق نصوص الاتفاقية. فهكذا، إن مراوغة المؤتمر الوطني، حول القضايا الكاردينال للسلام الشامل، طوال الفترة الانتقالية، يقابلها نفس السلوك من قبل الحركة الشعبية في نهايات هذه الفترة. فمنذ نشأتها، أعلنت الحركة التزامها بوحدة السودان، بل كان أحد شعارتها المرفوعة “من يرغب في الانفصال، فليقاتل من أجله”. ولكن في عشية الاستفتاء، أعاد عدد كبير من قيادات الحركة الشعبية اختراع أنفسهم كورثة لعتاة الانفصاليين في الستينات من القرن الماضي، وليس لجون قرنق، حامل شعلة السوداناوية الجديدة. وكدأبه، لا يعفي منصور الطرف الثالث المستفيد، كأحزاب المعارضة الشمالية، من التقصير في المقاومة، خاصّة في ظلّ ما وفرته الاتفاقية من هامش حريات واسع، والضغط الفعّال، لتنفيذ الأحكام المفضية للتحوّل الديمقراطي، مما ساهم بقوة في إخفاقات متعددة، كان من الممكن تجنبها. ومن المفارقات، أنّ هذه القوى نفسها، استقرّت في نهاية المطاف علي التضرّع للحزب الحاكم المتسلط ليفتح لهم الفضاء السياسي، حتى يحجزوا مكاناً لأنفسهم في هذا الفضاء، وعلي شروط يضعها المؤتمر الوطني.
ويختم منصور أطروحته بأنه، بينما ساهمت النخبة السياسية الشمالية، بشقيها الحكوميّ والمعارض، سوياً والتضامن، ولو بدرجات متفاوتة، في حرمان الشعب السودانيّ من وحدة البلاد، والديمقراطية والرفاهية، التي بشرّت بها اتفاقية السلام الشامل، كشفت النخبة السياسية الجنوبيةعن قصور مؤلم في إدارة شؤون الدولة، وعدم القدرة على الارتقاء إلى مستوى القيم التي وجهت النضال طوال ثلاثة عقود. فهذه النخبة، وإن شبت وتم تعميدها بالنار على مبدأ أن السلطة للشعب، إلا أنها انتهت إلي محاكاة ذات أسلوب المؤتمر الوطني في التعاطي مع الحكم. وبالتالي، بدلاً عن “بلد واحد بنظامين”، انتهى السودان إلي “بلدين بنظام واحد”. يبدو أن ماضي السودان المنقوص لا يزال يطارد البلاد، حينما نري ما حاق بالإنجاز العظيم للسلام من تشويه، عبر التجاوزات المقصودة، والأخطاء غير المتعمّدة، وسؤ الائتمان، وخيانة الفلسفة والمبادئ، والتي لولاها لما كانت اتفاقية السلام الشامل. حقاً، إنه من المؤسف القول بأنّ “المحن المتكررة في البلدين، ليست بمظهر من مظاهر إدمان فشل النخبة السياسية فحسب، بل، ربما أيضاً دليل على حساسية هذه النخبة ضد النجاح“! (منصورخالد: مأزق سودانيين: اتفاقية السلام الشامل والطريق إلى التجزئة، AWP & ICM, New Jersey،2015).
خاتمة: في أعقاب الانفصال: ما زال جرح البلاد ينزف:
هذه هي أطروحة منصور عن الحرب والسلام، والفرص المهدرة، في بلادنا، لعلها تثير نقاشاً جاداً ومثمراً في سياق الجدل المُحتدم حول العلاقة بين المثقف والسلطة، بين التواصل والتأثير، وبين القطيعة والاكتفاء بالفرجة وإصدار الأحكام.
بيد، أن منصور لم يكمل أطروحته، فالحرب ظلت مستعرة، والجرح ما زال ينزف، خاصة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وفي دارفور. فبالرغم من أنّ منصور كشف عن تقصير الحركة الشعبية، وعدم تركيزها علي القضايا الخاصة بالمنطقتين، بنفس القدر الذي ركزت فيه، مثلاً، علي “أبيي”، إلا أنه لم يلي المنطقتين حقهما من الاهتمام، لا كمؤرخ سياسي شفيف، أو كلاعب فعّال في المسرح السياسي، أو يقدم أفكاراً لتحقيق السلام، في هذه المرّة. فمنصور، وبعد توقيع الاتفاقية، لم يعد فقط مستشاراً الرئيس الحركة الشعبية، بل كان مستشاراً لرئيس الجمهورية لفترة، وعضواً في المكتب السياسي للحركة الشعبية، طوال سنوات الانتقال الست. فمن جهة، لم يفرد منصور، في كتابه حديث النشر (أشرت إليه أعلاه)، ولو فصل واحد لتطور “قطاع الشمال” للحركة الشعبية، والتي كانت مهمته الرئيسة هي بناء حركة شعبية قوية في شمال السودان. كما لم يتطرق منصور إلى آفاق، ومآلات السلام، وحاضر، ومستقبل الحركة الشعبية– شمال، خاصة هو قد شارك في عملية صناعة مسودة برنامج الحركة الشعبية- شمال، في مارس 2011، والتي أوقفها اندلاع الحرب في يونيو، بل وكان ضمن أعضاء المكتب السياسي ،المعين، الجديد، ولو أنه لم يشارك في اجتماع ذلك المكتب، الأول والأخير. كان المرءُ يتخيل أن يولي د. منصور اهتماماً أكبر بكيفية تحقيق السلام في السودان، خاصّة هذه المرّة التي أضحت فيها المنطقتان بمثابة الجنوب الجديد، وها هيَ جولات التفاوض تترى، تنفضّ وتبعث من جديد، دون أن تخرج بجديد!
ومن جهة أخري، كنت أتطلع إلي أن يلقي منصور بعض الضؤ علي الأساس النظري والسياسي، الذي حدا بجون قرنق إلي تقسيم الحركة تنظيميا إلي قطاعين، أحدهما للشمال والآخر للجنوب خلال الفترة الانتقالية، علي أن تكون المنطقتان تابعتين لقطاع الجنوب. وهو تقسيم، في رأييّ، انعكس سلبا علي تطور الحركة الشعبية، علي صعيد السودان الموحد، وعلي مستوي شمال السودان، خاصة بعد اشتعال الحرب مجددا وذهاب الجنوب لحاله. فهذا الشكل التنظيمي الشاذ سياسياً، أفضى إلي انقطاع التواصل علي المستوي السياسي، بين قطاع الشمال والمنطقتين، طوال الفترة الانتقالية، وعرض وحدة وتماسك الحركة للخطر، مع أن الجميع كان يدرك مسبقاً بأن الجنوب في طريقه إلى الانفصال. لاشك، أنه لا يمكن فهم تبعية المنطقتين لقطاع الجنوب، إلا في إطار الطبيعة “العسكرية” للحركة، وفي سياق التطور التاريخيّ للجيش الشعبي، إذ شاركت قواعد القيادات من جبال النوبة والأنقسنا في الكفاح المُسلَّح، منذ منتصف الثمانينات، بل ضمت “الأراضي المحرّرة” في المنطقتين إلي ما أسماه قرنق “السودان الجديد“، وكأنما مصيرهما أن يكونا، جغرافياً وإداريا، ضمن الجنوب. في الواقع، كانت إحدي سيناريوهات قرنق للوحدة، في حدّها الأدني، هي الترتيبات الكونفدرالية. حقا، يتسق هذا الطرح تماماً مع تصور الحركة الشعبية للوضع المسقبلي المنطقتين، بحسب ورقة موقفها التفاوضي في 9 سبتمبر 2003، في أن يكونا تحت سيطرة الحركة/الجيش الشعبي، خلال الفترة الانتقالية، مع منحهما الحكم الذاتي، في إطار دولة لامركزية في الجنوب. ولا غرابة، فمنصور نفسه أشار، في كتابه الأخير، إلي أن جون قرنق ما فتيء يردّد ويعامل، في كل المحافل، جبال النوبة والنيل الأزرق وكأنهما جزءاً لا ينفصل عن جنوب السودان “الكونفدرالي“.
قضية أخرى، كان ينبغي علي منصور إثارتها، خاصّة وأن أطروحته تنعي الديمقراطية الحزبية، هو فشل الحركة الشعبية في مواجهة تحديات الانتقال، خاصة التحوّل من تنظيم عسكري إلى حركة سياسية ديمقراطية عريضة. إنّ قضية مصيرية في حجم ووزن معادلة الوحدة والانفصال في السودان، كان من البديهي، أن تستدعي بالضرورة، حواراً عميقا داخل الحركة الشعبية لتحرير السودان، على وجه الخصوص، لأسباب موضوعية وذاتية، على رأسها أن الحركة الشعبية هي التي طالبت بحقّ تقرير المصير في مرحلة معينة من تاريخ تطورها. لاشكّ، أن تداعيات هذا الإخفاق نشهدها ماثلة أمام أعيننا في صراع فصائل الحركة الشعبية علي السلطة جنوبا، وفي انقسامات الحركة شمالا، واستغراقها في حرب دامية في غياب رؤية سياسية ثاقبة. فمنذ انتهاء أعمال المؤتمر القومي الثاني، مايو 2008، باتت الكتابة واضحة علي الجدران أن الانفصال آت، لا ريب. اختار منصور، طوال الفترة الانتقالية، أن يركزعلي عمله التنفيذي في الخرطوم، ونشاطه السياسي كمستشار لرئيس الحركة الجديد في جوبا. فلم يلتفت كثيراً إلى جعل قضية الحوار، أقله مع النفس قبل أن يكون مع الآخرين، أو ينفعل مع دعوتنا الملحة لعقد اجتماع لـ”مجلس التحرير القومي”، ليس بغرض الوقوف ضد خيار أبناء الجنوب للإنفصال، كما اعتقد البعض، ولكن للمناقشة الصريحة لكيفية الإعداد للتعامل مع التفجّر المتوقع للأوضاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق، والتوافق علي أساليب الحل السلمي، حال حدوث الانفصال الوشيك، وذلك في ضوء تعارض تفسيرات شريكي الحكم لاتفاق الترتيبات الأمنية، وغموض العملية السياسيَّة التي تنطوي عليها “المشورة الشعبية”. ولكن، لا حياة لمن تنادي، حتي وقع الفاس في الرأس!
ها هي أطروحة منصور تتحقق: تتبدل الظروف، ويبقي الحال كما هو عليه! فالجرح ينزف في المنطقتين، وفى دارفور، وغيرها من البؤر الساخنة، فكيف له أن يندمل؟ وهل من الممكن دوام الحال علي ما هو عليه؟ أم هل ننتظر نميري أو قرنق جديدين؟ أم نحن موعودون، في ضؤ التحول الملحوظ للحرب من “حقيقة” حياتية إلى “طريقة” حياة، بأكثر السيناريوهات ترجيحا: تفكك الدولة السودانية؟