تراث جبال النوبة في الماضي والحاضر ومألات المستقبل
✍🏿 بقلم: الأستاذ يوسف امين أحمد كاكتلا (١- ٤)
أولا: المراحل المبكرة ما قبل عصر كوش :
نبدأ بالقول وبالفم المليان نحن النوبة بصفة خاصة والإنسان عموما في القارة الأفريقية، لم نهاجر إليها من القارات الأخرى، بل النظريات المقبولة حتى الآن والمستندة على الأبحاث العلمية الحديثة ترى أن الإنسان بدأ حياته في السافنا الأفريقية ومنها هاجر إلى بقية القارات، وأطلقوا عليه اسم، San like man، لأن أقدم ممثل له الآن هم شعب (السان) في جنوب افريقيا وكانت بشرة ذلك الإنسان سمراء تناسب البيئة التي نشأ فيها وهو لون البشرة نفسه للسكان الحاليين في السافنا الأفريقية.
تفرع سكان أفريقيا من هذه السلالة (مثل الزنوج والنيليين وسكان الصحراء) الذين عرفوا فى ما بعد بالحاميين، واكتسبت كل جماعة الخصائص الجسمانية واللونية التي إقتضتها أوضاع بيئاتهم.
أصول سكان السودان الأصليين من سلالة ذلك الإنسان،
لذلك لا بد من تأمل ودراسة بداية المرحلة الأولى والمبكرة لتاريخ أجدادنا وأسلافنا منذ إستقرارهم على طول هذه المنطقة، قبل بداية مرحلة الجفاف التى أوجدت الصحراء الكبرى منذ نحو سبعة الاف سنة والتعرف على طبيعة حياتهم المبكرة في مراحل الصيد على ضفاف البحيرات والأنهار.
هل من الممكن تصور أن سكان السودان الأوائل، قد اختلطوا بالسلالات المحيطة بهم جنوبا وشرقا وغربا وعاشوا بكل الأماكن متوفرة الموارد فى حدود السودان الحالى، الذين أوضحت بعض آثارهم التي تم الكشف عنها أنهم كانوا سود البشرة قبل قيام حضارة كرما وقيام الحضارة المصرية، وأن أولئك السكان إنتشروا على إمتداد أحواض الأنهار والأودية والجبال المعروفة حاليا، وأن مناطق غربى النيل كانت تشكل إمتدادهم الحيوى، هذا الشعب الأبى كون الثقافات والحضارات المبكرة التي كشف عن بعضها شمالي الخرطوم وأن أولئك السكان هم الذين وردت أسمائهم وأسماء بعض مناطقهم في الآثار المصرية مثل (تاستى، تانحسى، واوات، أيام إرتيت، مجا، وكوش !؟). يا للمفارقة وبؤس الزمان لتاريخ أسلافنا التليد والمشرف والمضيئ وتاريخ نوبة هذا اليوم البئيس التعيس المؤلم، شتان بيننا الآن وبينهم. لقد أصبح الفرق كما بين الثريا والثرى.
أرى أن نتائج هذه الدراسات ستقودنا إلى التعرف على سكان ولغات وحضارات السودان المبكرة، وربما ساعد التعرف على لغات ولهجات جبال النوبة وشمال كردفان فى فك رموز لغة السودانيين القديمة. واخيرا كيف نتصور العلاقة بين أولئك السكان القدماء وبين السكان الذين أسسوا حضارة كوش ومروى؟ هل هم الذين تجددت دماؤهم وثقافاتهم ولغاتهم وأنتجوا لنا حضارة؟، ام أين ذهبوا؟ بالتأكيد نحن سكان جبال النوبة الحاليين كنا جزءا أساسيا ورئيسيا من تلك الحضارات، وأرجو من القراء أن يلاحظوا عبارة (كنا) التي تشير إلى الماضى البعيد، لكن الواقع الحالى والحاضر يبرهنان ويوضحان اننا تسيدنا المؤخرة وأصبحنا ملطشة لكل من هب ودب لعدم قراءتنا لتاريخنا، ولعدم بذل الجهود والقدرات والإمكانيات لمعرفته، بل فضلنا التشاكس والتنافر والتطاحن والتنابذ بالألقاب، هذا يسارى وذاك يمينى، وفلان وسطى وعلان علمانى وكجورى، وزيد مسلم صوفى وسنر أو برهانى أو أنصارى، وعبيد يسارى بعثى أو شيوعى. بل تناسينا قضايانا الجوهرية وأصبحنا نلهث وراء أقوام يعملون بكل ما أوتوا من قوة لابتلاع آخر ما تبقى من بقايا حضارتنا وتاريخنا، بل العمل بخطوات متسارعة لطمس أى معالم تشير لتلك الحضارات والتوايخ المضيئة والمتلألئة التى تدرس فى مراكز البحوث والدراسات في كل المعاهد والجامعات فى قارات الدنيا الست. حقا أنها مصيبة كبرى، والمؤسف أننا حتى الآن لم ولا ندرى ما يحاك لنا من مؤامرة لتدمير وتهديم ثقافتنا وقلعنا من جذورنا.
ثانيا: المرحلة من عصر كوش وحتى العصور المسيحية
هذه المرحلة أوفر مصادرا وأسهل تناولا من المرحلة المبكرة، ومع ذلك فمعرفتنا بها محدودة، وجاءت التأملات عنها في شكل تساؤلات فكل ما نصبو إليه هو أن تتوفر لنا المعلومات التي تعرفنا وتربطنا بذلك التراث، ولنتمكن من الإجابة على الكثير من التساؤلات وعلامات الإستفهام التى تدور فى أذهاننا مثل :
*ماذا يعنى إسم كوش ونبتا ولماذا سميت المملكة بذلك؟
*ما معنى كلمة إثيوبيا – وما العلاقة بينها وبين كلمة السودان، وعلى من أطلق؟
*إلى أى مدى تغيرت سمات المجتمع السودانى القديم قبل كوش؟ وكيف برزت سمات المجتمع الكوشى الجديد؟
*من هم أولئك السكان الذين أسسوا المجتمع الكوشى الجديد؟
*هل كان ذلك المجتمع الجديد إستمرارا للجماعات والثقافات القديمة؟
*ما هي اللغات التى كان يتحدث بها أهل السودان في تلك الأوقات؟
* هل إنقرضت تلك اللغات، وكيف؟
*هل إنقرض متحدثو تلك اللغات؟ كيف ولماذا؟
*لماذا لا نجد اللغة المروية في لغات سكان السودان الحاليين؟
*ما هو إرتباط حضارة كوش – بحقبها المتعاقبة بالشعوب المجاورة لها شرقا وغربا؟
*لماذا توجد العديد من السلالات في منطقة جبال النوبا مع صغر حجم المنطقة؟ أرجو ألا يغيب عن فطنة القارئ معنى كلمة نوبا بالألف وليست بالتاء المربوطة؟
*لماذا يوجد فى منطقة جبال النوبة ذلك العدد الكبير من اللغات واللهجات؟
*إلى أين إمتدت حدود الممالك المسيحية فى السودان؟ وهل هى نفسها حدود الدولة المروية؟ وما هى علاقتها بحدود السودان الحالية؟
*هل أدى قيام الممالك المسيحية فى السودان إلى تغيير الدين من وثنى إلى مسيحى فقط؟
*إلى أى مدى إتنشرت المسيحية فى السودان؟
*من هم سكان السودان فى العصر المسيحى؟
*ما هى العلاقة بين سكان ولغات السودان فى العصر المسيحى وسكان ولغات السودان فى العصر السابق له؟
*ما هى العلاقة بين السكان الحاليين ولغاتهم فى مناطق أعالى النيل الأزرق وبقية مناطق البجا وجبال النوبة وغرب السودان وبين سكان ولغات الممالك المسيحية؟
*السؤال الجوهرى أى نوع من المواد نقدمها فى مراحل التعليم قبل العالي عن تاريخ السودان؟وما هى أهدافها؟
*أرى أن الإجابة على مثل هذه الأسئلة ستمكننا من فهم أن واقعنا المعاصر الذى هو إمتداد لتلك ألمراحل، ولما كان العصر المسيحى مرتبطا إرتباطا وثيقا وقريبا – إنتهى قبل نحو خمسة قرون – بالعصر الذي نعيشه الآن، فإن أحداثه تداخلت وتفاعلت في المرحلة الأخيرة من تاريخ السودان، وهى المرحلة الإسلامية، لذلك فإن موضوع العروبة وقضايا النسب العربى في السودان ونجر شجرة النسب العربيدى لكل من هب ودب، أقول بملئ الفم إن هذه الشجرة المدعاة بدأت منذ العصر المسيحى، ولم تبدأ الآن، وهنا يجب أن يعلم الجميع ذلك وخاصة المهمومين بالقضايا المصيرية لشعب النوبة العظيم.
كل ما ورد من الأسئلة السابقة والإجابة عليها يعبر عن تراثنا وثقافتنا في العصور الغابرة والتليدة. ونحن نعلم علم اليقين أن أجدادنا كانوا عراة الأجسام، وعلى اوساطهم وأكتافهم جلود النمور وغيرها من الحيوانات الأليفة والمتوحشة، وكان معهم دائما الدرق والحراب والكرابيج والطبول والقرون، ولا نستحى ولا نخجل من ذلك بتاتا، لأن بفضلهم ومثابرتهم وقدراتهم وإمكانياتكم واخلاصهم حفظوا لنا هذا التاريخ المشرف وحفظوا لنا هذا النسل والسلالة العظيمتين من الإنقراض ونحن ومعنا الأوفياء من شباب وصبية ورجال وكهول وشابات وكنداكات النوبة لحافظون إلى أبد الآبدين لهذا التراث، شاء من شاء وأبى من أبى.
*وفي هذه الجزئية من المقالة الأولى نقول إن تاريخ السودان في كل مراحله مرتبط إرتباطا وثيقا بالمناطق الصحراوية الواقعة إلى الغرب من نهر النيل، وحتى نلتقى في الجزئية الثانية إذا أمد الله فى أعمارنا.
يوسف امين أحمد كاكتلا /رئيس منظمة الجبال للتنمية البشرية – ولاية الخرطوم-محلية جبل أولياء، مدينة الرشيد