التعثر الديمقراطي في السودان(4)
الخرطوم..حسين سعد
يستعرض البطحاني في الحلقة الرابعة من كتابه التعثر الديمقراطي في السودان، لعدد من الدراسات قال إنها ربما تبدو أكثر ملائمة لواقع التعثر الديمقراطي فى العالم الثالث،من بين هذه الدراسات شارلس تيلي (رأس المال والعنف وتكوين الدول فى أوروبا)ووليام رينو- (الدولة فى افريقيا ولورادت الحرب)، مع ربطها مع نموذج “الممر الضيق” لأسيموقلو وروبنسون، التغييرات العميقة في طبيعة الحرب أثرت في تشكيل الطريقة التي يتم بها تنظيم الدولة والقانون نفسه. اليوم ينتقل العالم إلى مرحلة جديدة يتغير فيها شكل الدولة بسبب عوامل كثيرة، أبرزها التقدم التكنولوجي وانتشار الإرهاب، مما أدى إلى إعادة النظر في الطريقة التي تدار بها الحروب منذ معاهدة “ويست فاليا” عام 1648. وينسب الى هنرى كيسنجر نعيه لمعاهدة ويست فاليا بقوله أن العالم دخل مرحلة جديدة بظهور التنظيمات المستقلة عن الدولة والقادرة على تهديد الأمن المحلي والعالمي، مما يعني تآكل مفهوم الدولة بالمعني التقليدي، ونهاية التصور القديم لمفهوم السيادة الوطنية، رأى شاركه فيه المؤرخ الكبير إريك هوبسباوم أما المؤرخ الكبير إريك هوبسباوم، فأكد على مقولة كيسنجر في كتابه (القرن العشرين)، وقال: إن شكل الدولة القومية التي تمتلك جيشا قادرا على حماية حدودها من غزو الأعداء ويكون قادرا في نفس الوقت على العبور إلى مناطق أخرى في العالم، ويشكل تهديداً لها، وما تم في معظم الحروب الدولية في القرن العشرين، قد انتهى.
مليشيات وجماعات مسلحة..
هذه التغييرات أثر وضوحاً فى دول الجنوب النامية، خاصة دول الشرق الأوسط واِفريقيا. تجد البلدان الافريقية فى مرحلة ما بعد الكولونيالية التي تتميز بظاهرة الاِنسداد التنموي كالسودان في وضع صعب يتسِم بالضبابية، فمن جهة تسعى قوى داخلية راسمالية لبناء قاعدة تراكم أِفتصاد اِنتاجى محلى ومن جهة أخرى هناك قوى داخلية أيضاً ولكنها تسعى للشراكة مع الخارج والاِبقاء لاِقتصاديات مناطقها وبلدانها مصدراً للموارد الأولية، أي لعب دور الكومبرادور. ويلاحظ سمير أمين أن مصالح رأس المال العالمى تتشابك مع كل الأطراف الشيء الذي يفسر حالة الغموض التي تحيط بسياسات دول رأس المال المالي المعلوم، خاصة الدول الرأسمالية الغربية. وما يزيد المشهد تعقيداً، وفى سبيل البقاء فى السلطة، لجوء نظام الاِنقاذ لاِضعاف القبضة المركزية للقوات المسلحة والاِعتماد على القوات غير الرسمية الموازية (مليشيات، وجماعات مسلحة)، أولاً كأستراتيجية دفاعية قليلة التكلفة في محاربة المتمردين، ثم الاِعتماد عليها لتثبيت أركان النظام عندما تعاظمت المعارضة السياسية،ويشير البطحاني لكتاب شارلس تيلي (رأس المال والعنف وتكوين الدول فى أوروبا)،وفيه فصل يتحدث عن دور الجيش فى تكوين الدول فى العالم الثالث. يرى شارلز تيلي أن أفضل مقارنة للدولة هي مع عصابات الجريمة المنظمة انطلاقاً من فكرة الحماية وتوفير الامن، وهي حماية مزدوجة ضد الأعداء الداخليين والخارجيين ومن غضب الدولة نفسها. فعالية الحماية تشترط احتكار العنف، وهنا تصبح مسألة الشرعية تعبير عن فعالية عملية الاحتكار نفسها وليست مرتبطة بحق سابق عليها. عملية الاحتكار تتم عبر القضاء على كل المنافسين الممكنين للدولة. مَثل تيللي هذه العملية من خلال أربع وظائف مترافقة تشبه منطق عصابات الجريمة المنظمة:
(1) صناعة الحرب: إبادة أو تحييد المنافسين خارج الحدود (2)صناعة الدولة: إبادة أو تحييد المنافسين داخل الحدود باحتكار العنف. (3) الحماية: إبادة أو تحييد منافسي وكلاء الدولة الذين يتمتعون بحمايتها. (4) استخلاص الموارد والوسائل اللازمة لتحقيق هذه الوظائف الثلاثة السابقة،وتقتضى علاقة متوازنة بين توظيف القوة والقهر واستكمال دورة رأس المال الانتاجية، أى النظام الرأسمالى القائم على وجود قاعدة صناعات وسوق داخلى تحمية البرجوازية الوطنية، ويوفر كتاب وليام رينو (الدولة فى افريقيا ولوردات الحرب) المادة التى تربط نظرية تيلي وكل من لأسيموقلو وروبنسون.
النخب الريعية..
لآن يندرج السودان ضمن الدول فى إفريقيا والشرق الاوسط وأواسط أسيا التي خضعت للنخب الريعية التى عملت على جذب الدعم لها من اِدارة شبكات الزبائنية والتأييد داخلياً (الدعم السياسى مقابل الحماية والمزايا). وجذبت هذه الشبكات الطبقات الرأسمالية والطبقة الوسطى والارستقراطيات الريفية والقبلية والطائفية فى إطار نظم سياسية أخذت نظام الحزب الواحد . وواصلت هذه الأنظمة إستيعاب قادة المناطق والاقاليم والقبائل فى منظومة الحكم عبر اللامركزية وأحيانا الفيدرالية الإسمية، ومع هذا الاستيعاب والتحديث الاقتصادي – الاجتماعي تتضخم شرائح البرجوازية الصغيرة غير المرتبطة بالانتاج، أو ما يمكن أن نطلق عليه مجازا “الطبقة الوسطى الجديدة” التى تمد الشبكة الزبائنية المتضخمة بقيادات تتغذى بدورها على دافع الضرائب والانفاق الحكومى،وكل ذلك على حساب الخدمات التعليمية والصحية والتشغيلية والبنية التحتية تعود بالفائدة على الجميع بدرجات متفاوته، وخاصة الطبقة الرأسمالية العاملة فى الانتاج الاقتصادى والعاملة على توسيع وترقية سوق العمل. هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى، ولتعزيز وسائل الحماية لجأت للتعاون مع الدول الكبرى لتوفير اسباب وتقنية الحماية الحديثة، ولا شك أن هذا التعاون سيعمل عائقاً أمام التحول الديمقراطى، خاصة والدول التي توفر الحماية لا تتبنى الديمقراطية.
التافس الاقليمي والعالمي..
دخول المنظومة العسكرية فى دائرة الانتاج الاقتصادى ليس بهدف تسريع وتيرة التراكم الرأسمالى الانتاجى، بل بهدف ربط البلاد بالتبعية الاقتصادية و الاِحتفاظ بالبلاد مورداً خلفياً للمراكز الاقليمية لرأس المال العالمى. هناك منظومات عسكرية قادت الى تصنيع بلدانها، ولكن فى الألفية الثالثة وفي مرحلة مابعد النيوليبرالية وتعطش مراكز الرأسمال المعولم للموارد الطبيعية أصبحت دول العالم الثالث الغنية بالموارد (دول اِفريقيا جنوب الصحراء) هدفاً للصراع والتنافس المحموم بين المراكز الأقليمية والدولية لرأس المال والشركات المتعددة الجنسية ذات الطابع الأمني (فاغنر) وثق وليام رينو لكيفية وقوع دول اِفريقيا جنوب الصحراء للعلاقة الوثيقة بين مراكز التحكم ورأس المال خارج القارة ولوردات الحرب فى الدول الافريقية، ويبدو أن السودان منذ عهد البشير قد وقع فى قائمة هذه الدول. في مثل هذه الأوضاع لابد من فحص الخريطة الاجتماعية- الطبقية وتقدير موازين القوة المساندة للتحول الديمقراطى. اسئلة من قبيل: ما هى أوزان الطبقات الاجتماعية التى لها مصلحة فى التحول الديمقراطى؟ ما هوحجمها؟ وقاعدتها الاقتصادية – المادية؟ أين يوجد المال؟ ما هى مصادر التراكم الراسمالى؟ وأى شريحة من بين فئات الراسمالية تقود حركة رأس المال؟ هل يسمح الفضاء العام بوجود الأحزاب؟ النقابات العمالية؟ منظمات المجتمع المدنى؟ هل هناك وجود للحركات المسلحة- وما هى قاعدة مواردها إقليميا؟ وإقتصاديا؟ هل يأخذ إكتمال الدورة الانتاجية لراس المال وجود للطبقة الرأسمالية ولطبقة العمال؟ أم تكتمل الدورة الانتاجية برأسمالية الدولة التى تعمل على إدارة الخدمات الاجتماعية بدون مشاركة سياسية؟ وعند الاِقتراب من الحالة التي بين أيدينا الأن نسأل: كيف أدارت السلطة الاستعمارية البلاد؟ ما هو الأثر الذي تركه الاستعمار على التركيبة الاقتصادية – الاجتماعية فى السودان؟ هل أحدث تغييراً جذريا كانت من نتائجه طبقة رأسمالية لها مصلحة موضوعية فى اِستكمال الدورة الاقتصادية لرأس المال الانتاجى عبر التصنيع؟ أم أبقى على البلاد لتصدير المواد الاولية؟ هل دفعت الادارة الاِستعمارية بمشروع الحداثة؟ أم مالت للتعاون مع القوى التقليدية والطائفية الدينية خدمة لأغراضها السياسية؟ هل بلورت الحركة الوطنية المناهضة للاِستعمار مشروعاً وطنياً لتنكب على تنفيذه فور رحيل المستعمر؟ هل شمل هذا المشروع، اِن وجد، تبنى النظام الديمقراطى لحكم البلاد؟ (يتبع)
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.