الإنقسام و الصراع الدموي في الدولة السودانية  (٣-٣)   

✍🏿 مقبول الأمين (كوكامي)

 

في هذه الجزئية الأخيرة من سلسلة المقال عن طبيعة الإنقسام و الصراع الدموي في الدولة السودانية، سوف نتطرق إلى:

الإنتقال من دائرة  اللا حرب، إلى النزاع/الصراع الدموي الجاري حاليا في الدولة السودانية : حيث تختلف مستويات النزاع (سلما كان أم عنفا)، في درجات التعاون و العداء، فبعض النزاعات تنتهي بسلام و دون أي إكراهات أو عنف، كالنزاع أو الصراع الذي حدث بين مواطنى منطقة مروي والحكومة، و الأضرار التي لحقت بهم جراء قيام سد مروي، و كذلك مواطنى كجبار و المناصير، وتشريدهم من مناطقهم الأصلية بفعل إنشاء سد كجبار دون مراعاة لتدابير تعويضهم بصورة عادلة لتفادي نشوب صراعات فى المستقبل.

وعلى غرار ما حدث لمواطنى كجبار، المناصير ومروي، فقد تضرر مواطنو إقليم جبال النوبة، من شركات النخبة المركزية التي إستخدمت خام السيانيد السام في معالجة الذهب على حساب البيئة والإنسان والحيوان في الإقليم بالرغم من أن خام السيانيد محظور عالميا لما يسببه من أضرار خطيرة. ومع ذلك إستمر المركز فى سياسات نهب موارد وثروات الهامش بشتى الوسائل غير المشروعة.

وترتفع بعض الصراعات إلى أعلى درجات الصدام و المواجهة، و تشمل الإضطهاد و الإيذاء الجسدي مثلما حدث من قبل العسكر في فض إعتصام ثورة ديسمبر المجيدة، و ما يحدث الآن لكل الثوار و الكنداكات، و الشفاته من إنتهاكات راح ضحيتها العشرات من الثوار السلميين من أجل التغيير وتحقيق إنتقال مدني ديمقراطي يلبي طموحات و تطلعات الشعب السوداني وبناء سودان جديد قائم على الحرية، السلام، والعدالة.

ويمكن توزيع هذه المستويات لتبدأ من التناغم (Harmony) بين المصالح المختلفة للأطراف، إلى الحرب الشاملة (All-Out-War). و يعني هذا وجود تداخل بين السلام، و العنف (الحرب). و يظهر هذا التداخل في مصطلحات متدرجة مثل: الحرب المشتعلة، و الحرب الباردة، و الوجود المشترك أو التعايش، و التنافس، و الخمود، و التحالف، و الإتحاد، و العلاقات الخاصة، و غير ذلك. و فيما يلي عرض موجز لمستويات النزاع:

1- التناغم (Harmony)، ويعرف بأنه العلاقة بين الأطراف (عرقية، دينية، سياسية، ثقافية..) عندما لا توجد فعليا، أي صراعات مصالح أو قيم متناقضة. و يظهر ذلك في تعاطف الأطراف مع أي طرف يتعرض لمشكلة أو أزمة. و هذا ما نفتقده بدرجة كبيرة في الدولة السودانية نتاج العقلية الإقصائية، و الإرتزاق، والمصالح الشخصية لدي النخب،  بعيدا عن المصالح الوطنية.

2- الحرب (War)، و هي حرب شاملة تتحارب فيها مجموعات مسلحة منظمة. و قد تحتوي على كثافة منخفضة في نطاق المواجهات مثل حروب العصابات، و الفوضى السياسية. و مثال لذلك الوضع ما حدث مسبقا في الجزائر والصومال و دول كثيرة في القارة الأفريقية المبتلاة بالإنقلابات، و الحروب العبثية المنظمة من قبل جهات لها مصالحها فيها.

في الأوضاع الواقعية لا تحدد هذه المستويات بشكل هندسي، بل تلاحظ عند بروزها بشكل كبير. و المقصود هنا أن النزاعات و اللا حرب لا يبرزان بشكل مفاجئ، أو ينتقلان بشكل سريع من مستوى إلى آخر، أو ينتهيان أيضا بشكل مفاجئ. فالعلاقات لا تنتقل من اللا حرب الكامل، إلى الحرب الشاملة، دون المرور بمستويات وسيطة، أي العكس حروب شاملة، إلى سلام كامل، عوامل الإنتقال بين مستويات اللا حرب، و النزاع تحمل فى الغالب طابع العنف.

معرفة العوامل المذكورة أدناه تمثل خطوة مهمة لتحديد أنجع الإجراءات، لتفادي تفاقم النزاعات، وهذه العوامل تتمثل فى الآتى:

– شدة و حجم الشكاوى و مواقف التذمر (المواقف الإحتجاجية، العصيان المدني، و تتريس الشوارع ….الخ) و الإستشهاد من قبل الأطراف المختلفة.

– مدى إدراك الأطراف لإختلافاتهم و تطلعاتهم و مواقفهم تجاه بعضهم.

محددات النزاع العنيف: ينشأ النزاع/الصراع العنيف لأسباب مركبة كما أن هناك عوامل رئيسية أو متغيرات ترجح تطور النزاع إلى عنف، أو أنه سينتهي بشكل غير سلمي.

و هذه العوامل من الممكن أن تكون أسبابا للعنف، أو أسبابا للسلم. و بالتالي يمكن تقسيم محددات النزاع إلى بنيوية، و وسيطه، و مباشرة.

1- العوامل البنيوية (Systemic Causes: Structural Conditions)، وهي أسباب موضوعية (Objective) تتعلق بالظروف الأساسية للمجموعات، و التدهور البيئي، و النمو السكاني، و ندرة الموارد، و التنافس، و إنهيار القيم و التقاليد، و الفقر، و التهميش الديني، و الإثني، و الثقافي، كما تطرق لها كثيرآ، مؤرخ السودان الجديد في كتابه جدلية المركز و الهامش، الدكتور أبكر آدم اسماعيل. و الإجراءات التي تتخذ لوقف النزاعات ذات الأسباب البنيوية، تظهر نتائجها بعد فترة طويلة من التطبيقات.

– العوامل الوسيطة (Proximat: Political and Institutional Factores)، و تشكل أساس المشاكل في العمليات الإجتماعية و السياسية و الإتصالات. و هي عوامل حاسمة تؤثر في تحول الأوضاع البنيوية إلى ردود أفعال عنيفة، أو إلى سلوك طرق سلمية، للتعامل مع المصالح المتناقضة. و تدرك بسهولة العلاقة بين الأسباب الوسيطه و مظاهر النزاع العنيفة. كما أن أثرها أكثر مباشرة. و من الأسباب الوسيطة: السياسات الحكومية، و المنظمات الإجتماعية، و برامج الإصلاح الإقتصادي، و مشاكل التحرر السياسي، و التسلح.

3- العوامل المباشرة (Immediate Causes: Acts and Events)، و هي الأعمال و الأحداث التي تشعل (تقدح-Trigger) أعمال العنف. و مثال ذلك إتخاذ الحكومة إجراءات متشددة، و رفع حالة التأهب الأمني بالبلاد، حتى تصل فرض حالة الطوارىء نحو جماعة مضطهدة مما يدفعها إلى العصيان المدني و تتريس الشوارع، و التمرد. و نظرا لظهور هذه الإجراءات فإنها أكثر تأثيرا من غيرها، و هذا ما نود التطرق له بصورة جلية على مستوى الراهن الثوري، و واقع الثورة السودانية، ما بعد إنقلاب البرهان المشؤوم، و تطورها في إجهاض الوثيقة الدستورية، و خلق ميثاق آخر مع رئيس مجلس الوزراء السابق الدكتور عبدالله حمدوك.

و يعتبر تقبل الآخر لميثاق العسكر، و إعترافه بالإنقلاب، و تنازله عن المشروع الوطني، ظنا منه سوف تسهم في تحسين أوضاع  البلاد، داخليا و خارجيا إلى الأفضل. لكن للأسف تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن،  قبوله يعني إنزلاقه التاريخي، في مخطط النظام البائد عن طريق الواجهة العسكرية متمثلة في شخصية رئيس المؤتمر الوطني، اي محافظ محافظة نرتتي، “رب الفور”، كما كان يحلو له مناداة نفسه بذاك الإسم آنذاك، حيث ظل يخدع الشعب السوداني، و الثوار السودانيين في حديثه دوما للإعلام، بأن الأحزاب السودانية كلها ستشارك في العملية السياسية، ماعدا المؤتمر الوطني. و ذهب أكثر من ذلك فقام بوضع المتاريس أمام رئيس مجلس الوزراء السابق  لتضييق الخناق عليه، مما إضطره لتقديم إستقالته الشهيرة، و لا يزال البرهان  ينفذ أجندة النظام البائد و يحافظ علي بقائه  فى المشهد السياسى.

لم يكف، البرهان في خداعه للشعب بأنه شخصية قومية محورية، لا ينتمي للنظام البائد، حتى تم فضحه في الفيديو المنشور في الوسائط الإعلامية موخرا، من قبل اخيه في الحزب البائد أمين حسن عمر، بأنه ليس عضو مؤتمر الوطني فحسب، وإنما كان رئيسا للمؤتمر الوطني بمحافظة نرتتي سابقا، ذاك كان هو البرهان الإنتهازي  المندس،  يجب إقتلاعه وإبعاده من السلطة أولا، حتى يرى الثوار و الثورة السودانية النور.

لذلك لن يجدي نفعا قرار رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، القاضي بتجديد وقف إطلاق النار، على إمتداد البلاد و في كافة الجبهات، الصادر بتاريخ 23/1/2022م. ( القوات المسلحة السودانية – الصفحة الرسمية) بعد المجازر، و الإنقسامات، و الصراعات الدموية التى تسبب فيها، و التى تشهدها البلاد حاليا، كنتاج لمكره وتعنته (ركوب رأس) العسكر الغير مبررة.

فيما يتعلق بمبادرة حكماء و علماء ( النظام البائد)، التى يرئسها البروفسير محمد حسين أبوصالح الخبير الإستراتيجي المعروف، لقد كان وزيراً للشؤون الإستراتيجية بولاية الخرطوم في عام 2017، وهو بحكم موقعه قد كان عضواً في حزب المؤتمر الوطني و عن المبادرة، تفضل الأسقف حماد يونثان بحديثه المسجل صوتيا والمنشور فى الوسائط الإعلامية، يرسل فيها تطمينات و تسليط الضوء لدعم نفس المبادرة التى ينتمي لها، ظنا منه أنها سوف تساهم في حل الواقع المأزوم الذي توصل لها الشعب السوداني بمساهماتهم الغير الموفقة، بعد عقدين  من التضليل و الشعوذة باسم الدين،  يأتي و يقول نحن كشعب و حكومة سودانية نفتقد للثقة، و يضف لذلك بتلمس بعض آيات من  الكتاب المقدس، و يدعو  فيها للمحبة.

حسنآ، أعتقد أن المبادرة غير موفقة، و القائمين على أمرها يمثلون، بقايا النظام البائد الذين أهدروا دماء الشعب السوداني منذ إنقلاب البشير في (30، يونيو، 1987). و ما ذهب إليه الأسقف غير صحيح البتة، و ليس هنالك شعب محب لبعضه و للآخر، أكثر من الشعب السوداني الوفي، و كذلك أكثر شعب يثق في نفسه و قدراته. لكن ما يرفضه هذا الشعب هو حكم العسكر، و الإنقلابات و ممارسات افراد النظام البائد المعيبة، و التضليل و الشعوذة بإسم الدين. الشعب يريد حكماء و علماء دين يبشرون بالفضيلة، و المحبة بعيدا عن شؤون الدولة السياسية.

إن إصرار العسكر على فرض الحلول الأمنية أدى إلى إستمرار المواكب، والمليونيات مع تتريس الشوارع، و الضغط الشعبى عن طريق التصعيد الثوري و العصيان المدني، و الوقفات الأحتجاجية السلمية لقوى المقاومة الثورية، و تجمع المهنيين، و لجان المقاومة بمدن السودان المختلفة، والكنداكات و الشفاته، ثم المجموعات النسوية الفاعلة في منظمات المجتمع المدني.

وخلق تحالف – كتلة ثورية قوية  لتحقيق الأهداف السامية، و توزيع الأدوار و الأعمال الثورية و تنظيمها بشكل سليم و جيد، من أجل مصلحة الوطن والمصلحة العامة في المقام الأول. ثم وضع خارطة طريق واضحة تعيد بناء الدولة ما بعد الثورة السودانية.

حتما سوف يفرد ذاك التحالف مساحة مهمة، و مفصلية في تاريخ الثورة السودانية و تضع حدا للإنقسامات و الصراع الدموي  الجاري في الدولة، و ستساهم في إقتلاع و إسقاط العسكر بصورة جزرية. و تظل الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال تساهم بكل السبل السلمية مثل تنظيم مليونية 30 يناير  بالمناطق المحررة بإقليم الفونج – يابوس،  و ما تقوم بها عضوية الحركة  الشعبية بالداخل و تدعم كل التطورات التي تفضي إلى قدوم حكومة ثورية مدنية تخدم جماهير الشعب السوداني الأبي، في تحقيق الخدمات الأساسية.

نحو سودان جديد علماني ديمقراطي يسع الجميع. وطنآ لكل السودانيين، وطنآ لا يقتل فيه احد.

حتما سوف تنتصر الثورة …

المجد و الخلود لشهداء الثورة السودانية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.