(سلطوية) المؤسسة العسكرية وجها لوجه أمام (ثورية) الشعب السوداني:

كتب الصديق حليم عباس:

 

” المواجهة الآن ليست بين متظاهرين و نظام سياسي، و لكنها بين متظاهرين و أجهزة عسكرية و بالتالي هي ليست مواجهة سياسية في الأساس. لو كانت هذه الأجهزة تحت إمرة نظام سياسي لكانت الدماء التي سُفكت كفيلة لوحدها بإسقاط هذا النظام. هكذا سقطت نظام المؤتمر الوطني، لأنه نظام سياسي، وأسقطته هذه الآلة العسكرية نفسها بإنحيازها للثورة.”

لعل هذا الذي ذكره حليم كسمة معيبة لطبيعة المواجهة اليوم بين سلطوية المؤسسة العسكرية وثورية الشعب السوداني هو تحديدا ما يميز هذه المواجهة عن أي مواجهة ثورية سبقتها منذ الاستقلال وهو ما يجعل هذه المعركة تحديدا هي “بدر” الدولة السودانية.

ما يميز هذه المواجهة إنها مواجهة وجها لوجهة بين الأطراف الأصيلة في المعركة وفق التحليل البنيوي للصراع، دون أي كموفلاجات من أحزاب سياسية (كحزب المؤتمر الوطني) تغطي سلطوية المؤسسة العسكرية من جهة، ولا كموفلاجات من أحزاب سياسية (كأحزاب الحرية والتغيير) تمثلا غطاء سياسيا لثورية الشعب السوداني من جهة أخرى؛ وهو ما يجعل هذه المواجهة حاسمة وفاصلة ونهائية لأنها بين الأطراف الأصيلة في المعركة ودون مؤسسات وسيطة. فلم يتجلى هذا الصراع بهذا الوضوح منذ فجر الاستقلال على حقيقته البنيوية كما هو اليوم.

ربما في اكتوبر تحديدا المؤسسة العسكرية كانت بلا غطاء سياسي ولكن ثورية الشعب السوداني كانت مغلفة بالطبقة السياسية ككل. ولعل حليم يعلم أن البشير عند المحكات الفاصلة كان يحضر الاجتماعات بالبزة العسكرية لا لشيء سوى ليشير بوضح عبر بزته أمام اللإسلاميين بسؤال: لمن الملك اليوم؟ بالطبع للمؤسسة العسكرية! وذهب به الحال بعد المفاصلة في هبة سبتمر لتمييع غطاءه السياسي بإزاجة أكابر الإنقاذيين عن الوجه التنفيذي للسلطة، ثم انتهى بعد ذلك إلى تعيين سلطة عسكرية كاملة الدسم قبل أسابيع قليلة من سقوطه. والبرهان كذلك تخلى عن غطاء الحرية والتغيير بالكامل حين بلغ الشأن السياسي مرحلة تسليم السلطة للمدنيين وبالذات بعد مبادرة رئيس الوزراء التي خاطبت قضية إصلاح المؤسسة العسكرية وتبعيتها الاقتصادية للسلطة التنفيذية.

لكل ذلك فالشعب السوداني الثائر نحو مطلبه في دولة الحرية والسلام والعدالة صاحب مصلحة حقيقة في حسم هذه المعركة بهذا الشكل دون أغطية سياسية. هذه المعركة يقف على جانب منها مؤسسة مستلبة لإرادة سلطوية استعمارية ومليشييات وحركات مسلحة زبائنية كانت ولا تزال تقتات سياسيا واقتصاديا على اقتصاد حرب الدولة المركزية في الخرطوم، ما يشكل لها، على حد وصف أليكس دي وال، سوق أعمال سياسي؛ بينما يقف على الجانب الآخر منها لجان مقاومة أحياء شعبية لا تتحكم في تشكيل وعيها وخياراتها وقرراتها أي كتلة سياسية.

ظلت هذه المعركة بهذا الشكل مؤجلة منذ صبيحة الاستقلال واليوم فقط قد بلغت أرض الجلاء بشعار واضح هو محل النصر والهزيمة: السلطة سلطة شعب والعسكر للثكنات!!! وتأي قيمة هذه المعركة تحديدا من ناحية تأسيسية في أنها تدار حاليا بلا أفق سياسي لأنها معركة على مبدأ تأسيسي يستهدف نحت أهم أرصفة المسارات الكبرى للمستقبل عبر تحرير المؤسسة العسكرية من سلطويتها واستعماريتها واستعادتها للشعب السوداني. هذه معركة سيربحها الشعب السوداني بإذن الله حين تأتي لحظة الفصل فيها بانحياز من داخل المؤسسة العسكرية لهذا الجند التأسيسي المعلن. وبالرغم من أن شعار الكتلة الثورية المعلن هو “لا شراكة” إلا أن المجلس العسكري الذي سيقرر الانحياز القادم، إن هو قرر ذلك، هو أول شريك حقيقي للكتلة الثورية؛ فهو ليس شريكا في قسمة الثروة والسلطة ولكنه شريكا لا جدال في شراكته في تأسيس الدولة السودانية؛ لأنه من سيستعيد للجيش السوداني وطنيته ويكمل تحريره المؤجل منذ الاستقلال بإبعاده كرها وليس طوعا عن الحياة السياسية والاقتصادية؛ فهو شريك ليس بإرادته لكن بإملاء من إرادة ثورية غلابة سقتها الدموع والدماء ورعاها الغضب والأمل ونصالات متتابعة ومتتالية لم تقف منذ أن حطت جحافل محمد علي باشا أقدامها على هذه الأرض.

في ذلك لم يبلغ شعبا من الشعوب حولنا ولا شعبنا ذاته في ثوراته السابقة هذا الوعي من قبل بالضرب مباشرة نحو ناصية دولة ما بعد الاستعمار بشعار وحيد هو: العسكر للثكنات؛ فديسمبر الأولى نفسها لم تكن في ذات وعي وتأسيسية ديسمبر الثانية هذه.

فالشعب السوداني الثائر (وليس كل الشعب السوداني ثائرا) صاحب مصلحة حقيقة في الانحياز القادم من الجيش لأنه انحياز بحكم اقتصاده السياسي يعبر بذاته عن تسوية مدنية عسكرية. هذا بالإضافة إلى أن الانحياز القادم هو أول انحياز بعد الحادي عشر من إبريل سيستتبع اقتصاده السياسي تأخيرا Demotion في الاقتصاد السياسي للدعم السريع وتأخيرا في اقتصاد حرب الدولة Economy of War. فالانحيازات السابقة كلها استلزمت بحكم طبيعة التراتبية العسكرية تقديما Promotion للاقتصاد السياسي للدعم السريع واقتصاد حرب الدولة وليس أدل على ذلك من نتيجته المتمثلة في تحالف البرهان والدعم السريع والمليشيات. فبانحياز ابن عوف دخل الدعم السريع في معادلة السلطة المركزية لأول مرة وبانحياز البرهان بلغ قائد الدعم السريع منزلة نائب رئيس مجلس السيادة. فكل الانحيازات السابقة كانت سببا في تقديم Promotion الدعم السريع واقتصاد حرب الدولة بينما الانحياز القادم من حيث اقتصاده السياسي من شأنه تأخير كل ذلك.

باختصار إدارة هذه المعركة بهذه الشاكلة ريثما يكتمل تشكل أفقها السياسي ميزة لها وليس عيبا فيها. كما أن الدماء المسفوكة فيها كثيرة ليس لأنها ليست سياسية ولكن بالعكس تماما لأنها سياسية بامتياز وتضرب مباشرة في مكمن الداء ودون غطاء: غردونية قوى دفاع السودان!

تعليق 1
  1. إدريس كبور يقول

    هذه إعظم فقرة سوق اقصها وانشرها منفصلة عن المقال (حين تأتي لحظة الفصل فيها بانحياز من داخل المؤسسة العسكرية لهذا الجند التأسيسي المعلن. وبالرغم من أن شعار الكتلة الثورية المعلن هو “لا شراكة” إلا أن المجلس العسكري الذي سيقرر الانحياز القادم، إن هو قرر ذلك، هو أول شريك حقيقي للكتلة الثورية؛ فهو ليس شريكا في قسمة الثروة والسلطة ولكنه شريكا لا جدال في شراكته في تأسيس الدولة السودانية؛ لأنه من سيستعيد للجيش السوداني وطنيته ويكمل تحريره المؤجل منذ الاستقلال بإبعاده كرها وليس طوعا عن الحياة السياسية والاقتصادية؛ فهو شريك ليس بإرادته لكن بإملاء من إرادة ثورية غلابة سقتها الدموع والدماء ورعاها الغضب والأمل ونصالات متتابعة ومتتالية لم تقف منذ أن حطت جحافل محمد علي باشا أقدامها على هذه الأرض.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.