قصي همرور: يكتب

 

جرى مؤخرا الحديث العام عن واقع أن بعض الذين اشتغلوا في مؤسسات الدولة السودانية، في الفترة الانتقالية، كانوا يتلقّون مرتبات بالدولار، وبمبالغ تتجاوز كثيرا الحدود العليا للمرتبات الرسمية في القطاع العام السوداني. غالب الذي ورد بخصوص هؤلاء أنهم لم يكونوا أصحاب مناصب دستورية (أي لم يكونوا وزراء أو أعضاء مجلس سيادة أو كبار الهيئة القضائية، أو من أعضاء المجلس التشريعي الانتقالي الذي ظل فكرة ولم يتشكّل) ثم ورد كذلك ان هؤلاء كانت تدفع رواتبهم جهات غير الدولة السودانية ومن خارج ميزانية الدولة السودانية (ورد أن أحد تلك الجهات هي البنك الدولي)، وأن هؤلاء تم الدفع لهم باعتبارهم كفاءات استثنائية وباعتبار أن هنالك حاجة لهم في القطاع العام وينبغي توفير رواتب محفّزة لهم حتى يبقوا (لأن فرص عملهم خارج قطاع الدولة، وخارج السودان، أكبر، وبعضهم جاء من خارج السودان فعلا). هذا موضوع يستحق إلقاء الضوء للمراجعة العامة.

أبدأ القول إني كذلك سمعت ببعض تلك الحالات، أثناء فترة عملي بمركز البحوث والاستشارات الصناعية، ولكن ليس في المركز أو حتى في مراكز أخرى، أو حتى في مؤسسات كثيرة، إنما سمعت أن معظم تلك التعيينات كانت لبعض العاملين في مجلس الوزراء ولبعض المستشارين لبعض الوزراء (ولا أعرف طريقة اختيار هؤلاء المستشارين، لأن بعض مستشاري الوزراء أيضا كانت رواتبهم محلية وبعضهم لم يتلقوا رواتب لفترات طويلة). أقول سمعت لأني لا أملك وثائق أو أرقام وأسماء معيّنة لكن لم أسمعها كإشاعات عابرة. قيل إن الكثير من هؤلاء لم يتجاوز مرتبهم 3000 دولار شهريا (وهو مبلغ يساوي عشرات أضعاف مرتبات وظائف قيادية في الخدمة المدنية، كمديري الوحدات، كما أنه بالتأكيد أضعاف مرتبات الوزراء)، ولكن ورد مؤخرا أن هنالك حالات معيّنة تسلّمت مرتبات أضعاف تلك الدولارات.

ما يجدر ذكره أن أصحاب المناصب الدستورية، من ناحية قانونية، لا يجوز لهم أخذ مرتبات من خارج ميزانية الدولة، بينما مدير هيئة أو وحدة، أو مكتب، تابع للقطاع العام أو مجلس الوزراء أو بعض الوزارات، أو استشاريين وخبراء، ربما يتم الاتفاق على أن تدفع له جهة أخرى كمساهمة منها في رفع القدرات المحلية. ذلك يعني فعليا أن بعض الموظفين يمكن أن تكون مرتباتهم أعلى من وزراء ووكلاء ومديرين، بل أعلى من المرتب الرسمي لرئيس الوزراء ولأعضاء مجلس السيادة (أتحدث فقط عن المرتب الرسمي من الدولة). ذلك يعني أيضا أن بعض زملاء هؤلاء الموظفين كانوا في رتبة وظيفية متساوية أو موازية لكن مرتباتهم لم تكن كذلك أبدا.

جدير بالذكر أيضا أن هذه القصة ليست خاصة بالسودان وحده، إنما هنالك بعض حالات دول أخرى حصلت وتحصل فيها “ترتيبات” مشابهة، وبحجج مشابهة كذلك.

كيف نفهم سياسة كهذه، في وضع السودان، في فترته الانتقالية التي أتت إثر حراك ثوري شعبي، كانت العدالة الاجتماعية وما زالت إحدى محركاته الكبرى؟ الإجابة على سؤال كهذا ينبغي أن تكون قضية رأي عام.

سأقص القصة الوحيدة التي يمكن أن أتحدث عنها بمسؤولية سرد مباشرة. منذ وصولي لتسلّم الأعمال في المركز وحتى يوم إنهاء مهامي فيه، احتفظت بمدوّنة إلكترونية أوثّق فيها الأحداث والأنشطة الأساسية التي تحصل كل يوم. في 18 أكتوبر 2020، كانت أول زيارة لمندوبين من البنك الدولي (ومعهم مرافقين من وزارة المالية) إلى مركز البحوث والاستشارات الصناعية، وكانت زيارة غير رسمية بغرض التعرف على المركز وقدراته وخططه وأي فرص تعامل مستقبلي لدعم أنشطته ومشاريعه (أو مشاركة المركز في أنشطة ومشاريع أخرى متفق عليها بين البنك والحكومة). في تلك الزيارة تحدثت مع مبعوثي البنك الدولي حديثا متنوعا حول المركز وتاريخه وما نحن بصدده الآن والتحديات الماثلة وكيف ننوي التعامل معها، إلخ. سمعت كذلك من مبعوثي البنك عن آفاق أنشطة مشتركة باعتبار أن الحكومة الانتقالية مهتمة بترفيع القطاع الصناعي وأن المركز سيكون صاحب دور محوري في هذا الأمر. لم يخرج الحديث عن العموميات والتعارف (حيث تعرّفوا هم كذلك على طاقم إدارة المركز وبعض وحداته) ولم تكن فيه أي وعود أو التزامات من الطرفين، على الأقل باعتبار تلك مجرد زيارة أولى. لكن من ضمن ما ذكروه ما أكّد عندي أخبار أن هنالك بعض الموظفين الموزعين في أجهزة الدولة (خاصة مجلس الوزراء) تُدفع رواتبهم بالدولارات، كما جاء الذكر آنفا. أخبروني كذلك أنهم يريدون تعميم هذه المسألة أكثر على عدة وظائف كبيرة وذات فنية عالية في جهاز الدولة، وحجّتهم في ذلك تحفيز الكفاءات وأصحاب “الخبرات الاستثنائية” (أغلبهم من الدياسبورا السودانية وبعضهم من داخل السودان) لكي لا يتركوا وظائف القطاع العام بسبب ضعف الرواتب، كما أن هنالك مقاربة أخرى وهي تثبيت خبراء ومستشارين في وحدات الدولة يتسلمون رواتبهم مباشرة من البنك الدولي ومنظمات خارجية ولا يعتبرون موظفين للدولة إنما أصحاب مهام ومواقع معيّنة (مُستعارين؟) بالاتفاق مع الحكومة.

في ذلك الاجتماع ذكرت لهم أن هذا اتجاه خطير، لأنكم هكذا تحلّون مشكلة مادية لأفراد معدودين وتخلقون مشاكل أكبر على مستوى الدولة والمجتمع؛ منها إحداث هوة اجتماعقتصادية غير مبررة وغير صحية بين زملاء العمل في القطاع العام ما يولد تمايزات حادة لا يمكن أن تقود إلى عواقب إيجابية في إصلاح الإنتاجية والمؤسسية في القطاع العام ككل؛ ومنها التساؤل المشروع حول الحكمة في صرف تلك “المساعدات” بهذه الطريقة بينما يمكن استثمارها لتحسين أوضاع المؤسسات ككل عن طريق تمويل المشاريع أو تحديث بيئة العمل (مثل تحديث معامل وورش مراكز البحوث) أو صيانة المباني، إلخ؛ ومنها طبعا خطورة وجود مصدر مختلف للرواتب داخل القطاع العام بحيث تكون هنالك أسئلة مشروعة عن الولاء، وعن السيادة المحلية، وعن مستوى الاضطرابات السياسية التي يمكن توقعها بسهولة إذا تم قبول ممارسات كهذه على نطاق واسع.

لم يستمر النقاش، بطبيعة الحال، إلى حسم شيء، فقط كان مجرد تبادل معلومات ومناظير، وأنا متأكد أن رأي شخص مثلي ما كان ليشكّل سببا لهم لإعادة النظر في الموضوع، ولا أدري ما جرى بعد ذلك إذ لم أسمع بخصوص هذا الأمر بعدها…. فقط قصة أثبتها هنا للذاكرة العامة، فهي ذات قضية عامة.

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.