التسوية الدستورية التأسيسية القادمة بين الكتلة المدينية والمؤسسة العسكرية!
عمرو صالح يس!
في هذا اليوم السادس من ديسمبر ٢٠٢١، لست حزينا إلا على الذين أختاروا في هذا المنعطف التاريخي الأحرج من عمر الدولة السودانية الوقوف في الضفة الخاسرة من التاريخ! إذ قطع هذا اليوم وأيام مثله لمّا تأت بعد كل شك في أن معركة الحسم بين الكتلة المدينية ودولة ما بعد الاستعمار قادمة لا محالة!
الإشكال الأكبر أن كثيرين، لم ويبدو أنهم لن، يدركوا بعد مقدار تأسيسية وجذرية ديسمبر؛ ليس بناء على أي شعار أو هتاف أو عاطفة، ولكن بحكم معطيات الواقع التي ستنحى بالكتلة المدينية ما دون ال٣٠ عاما من العمر، (بالذات تلك التي لا تتحمل مسؤوليات اجتماعية)، التي هي الأكثر عددا في ديموغرافيا سودان ٢٠٢١، جبرا نحو خيارات جذرية تحيا دونها أوتموت!
هي دعوة لتجديد تعريف المصلحة لكل القوى التي تقف ضد هذا المسار الجذري باعتبار أنه واقعا محتمل أو حتى قيد التشكل؛ فالثورة في أرض السودان واقعة اجتماعية لا يمكن تجاوزها في أي تحليل رصين للواقع أو محاولة للتنبأ بالمستقبل!
عبر تاريخ السودان، بالتحليل البنيوي، هناك قوتان فقط كان باستمرار لهما القدرة على قلب النظام السياسي في المركز: الجيش كامتداد لمنطق دولة ما بعد الاستعمار عبر الانقلاب، والكتلة المدينية المتضررة من أوضاع ما بعد الاستعمار عبر الثورة.
وتماما كما ينتج النظام الرأسمالي تناقضاته من داخلة عبر مراكمة رأس المال، تنتج دولة ما بعد الاستعمار تناقضاتها من داخلها عبر نيوباترومنيالية النخبة الما بعد استعمارية. حيث يزيد منطق نصف التنمية ونصف التمدن للنخب المسيطرة على جهاز الدولة من حجم الكتلة نصف المتدمنة والمتضررة من المنطق السلطوي والاستخراجي لدولة ما بعد الاستعمار.
نظام الإنقاذ باعتباره النظام الذي يقوم على أعرض خط تقسيم اجتماعي رأسي (خطوط التقسيم الرأسية هي خطوط تقسيم هوياتية ما قبل دولتية أثنية أو ثقافية أو دينية) وهو الخط القائم على الهوية الإسلامية والعربية كان وبلا شك أقدر الأنطمة على حكم دولة ما بعد الاستعمار بمنطقها السلطوي والاستخراجي وقد بلغ بها حدها واستنفد منها كل أغراضها بإنتاجه أكبر كتلة مدينية تضررا من منطق هذه الدولة في عرض البلاد وطولها. فاليوم بفضل نيوميوياترمنيالية الإنقاذ وزبائنتها في الإدارة السياسية للدولة هناك تجمعات حديثة مقاومة لمنطق هذه الدولة في كل محليات السودان؛ وليس أدل على ذلك من أن قارئ إعلان سقوط الإنقاذ دكتور محمد ناجي الأصم هو ابن مؤسسات أنتجتها الإنقاذ نفسها عبر منطقها النيوباترمنيالي والزبائي: منطقها نصف التنموي ونصف التمدني.
بعد الانقاذ لم يعد هناك بالإمكان إطلاقا مكانا للإمعان في منطق هذه الدولة، إذ لا يوجد تحالف ما قبل دولتي مهما بدا عريضا قادر على الهيمنة على الدولة وفق منطق نيوباترمنيوالي مع جهاز سلطتها أو منطق زبائني مع المستفيدين منها. ولعل تقطع السبل هو ما يجعل حارس عرين دولة ما بعد الاستعمار، الفريق البرهان، يتردد في ريبه ويتأرجح في اختيار تحالفاته. هو في هذه الحيرة لأن منطق الدولة التي هو قائم على حراسة عرينها قد بلغ النهايات.
لكل ذلك هناك مصيران أمام هذه الدولة: إما الانهيار الشامل أو التأسيس الكامل انطلاقا من مصالح الكتلة المدينية في الديمقراطية والتنمية! لذلك، فإن أي خطاب سياسي يجذِّر الأسس الوطنية والديمقراطية والتنموية للدولة الجديدة، وحده وليس غيره، سيكون هو الأقدر على شحن عقل وقلب وفعل الكتلة المدينية الثائرة.
كما أن الكتلة المدينية المتضررة من أوضاع ما بعد الاستعمار اليوم هي في الموقف الأقوى على الإطلاق في هذا المعركة على طول تاريخ صراعها مع الغولة ممثلة في قوى دفاع السودان. فهي بفضل استنفاد الانقاذ لمنطق دولة ما بعد الاستعمار أكثر عددا من ذي قبل ووصلت مدنا متاخمة للأرياف بما بمكنها من عقد تحالفات استراتيجية مع قواعد الريف (دون نخبه المستفيدة من أوضاع دولة ما بعد الاستعمار)؛ كما أنها أفضل نوعا لأنها تخلصت، في المركز والهامش، من وصاية النخب السلطوية المعاد إنتاجها وفق منطق دولة ما بعد الاستعمار. فالكتلة المدينية اليوم ولأول مرة في تاريخها تواجه هذه الدولة ورعاياها الأقليميين والدوليين بلا وسيط أو وكيل ما بعد استعماري؛ وكيل مصالحه المعرفة قصدا أو جهلا في وراثة هذه الدولة وليس تجاوزها. فبالأمس فقد أرسلت رسائلها الجذرية في بريد الأمم المتحدة مباشرة ودن وسيط من وكلاء ما بعد الاستعمار. بقي لهذه الكتلة في معركة حسمها الأخيرة مع هذه الدولة خطوة واحدة لا ثانيّ ليها: إنتاج قيادتها العضوية والجماعية عبر مؤسسات الفعل الجمعي فيما بات يعرف في شعارها ووعيها بالبناء القاعدي.
لكل ذلك فهناك مصيران بانتظار هذه الدولة وتلك الكتلة: تسوية دستورية جذرية تأسيسية للدولة السودانية طال انتطارها لستين عاما تنتهي من منطق الدولة الاستعماري مرة وإلى الأبد أو الانهيار الشامل للدولة الاستعمارية!