حتى لا تأكل الثورة بنيها
محمد محمود
في الرد على د. عشاري
1.
الحياة من الممكن أن تكون قاسية جدا، ومن أقسى لحظاتها عندما ترميك في خلاف مع شخص تجمعك به علاقة صداقة قديمة، وخاصة عندما يصبح هذا الخلاف علنيا وتجد نفسك تعاني معاناة يقول لسان حالها ما قاله طَرَفَة بن العبد: “وظُلمُ ذوي القُربى أشَدُّ مَضَاضةً / على المرء من وَقْع الحُسام المهّنَد”. هذا هو الموقف الذي أجد نفسي فيه الآن بإزاء الصديق عشاري أحمد محمود. لقد ظلّ عشاري في نظري دوما ويظلّ من أميز الأكاديميين والمثقفين السوادنيين. وما يميّز عشاري أنه باحث جاد ومخلص عن الحقيقة ومدافع شجاع وغير هيّاب عنها عندما يجدها أو يعتقد أنه وجدها، ولا ترهبه أي قوة عندما يتصدّى للدفاع عنها لأنه على استعداد لتحّمل أي ثمن وهو يسير ويكافح في دربها.
عندما قرّر عشاري والدكتور سليمان بلدو في عام 1987 الذهاب لمدينة الضعين والتحقيق في المجزرة التي أباد فيها الرزيقات في مارس 1987 أكثر من 2000 من الدينكا وأغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء فإنهما فعلا شيئا لم يفعله أي أكاديمي أو مثقف قبلهما رغم جرائم الإبادة ضد الجنوبيين التي ظلّ الجيش يرتكبها منذ الخمسينيات ضد المواطنين الجنوبيين العزل والجرائم في مناطق التماسّ بين الجنوب والشمال — ذهبا إلى موقع الجريمة، وحقّقا رغم الخطر على حياتهما، ونشرا نتائج تحقيقهما رغم الخطر على حياتهما أيضا. وكان التقرير الذي أصدراه صيحة إيقاظ للرأي العام الشمالي الذي لا يكترث عادة لمآسي الجنوبيين وآلامهم ولا يتفاعل معها. ويومها استهدف الصادق المهدي رئيس الوزراء عشاري وحاول النيل منه بكل الطرق، وأصبح منذ لحظتها هدفا لهجوم الإسلاميين ومثقفي اليمين المعادين للجنوبيين وحركات الهامش. وبالطبع لم يرهب هذا عشاري ولم يفتّ في عضده وظل وفيا لالتزامه المتّسق والدائم بالدفاع عن المسحوقين والمهمّشين والدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وعلى المستوى الشخصي فإن مفاجأة عشاري الكبيرة كانت يوم تسلّمت منه ورقة طويلة عن كتابي نبوة محمد: التاريخ والصناعة. كان هذا في جو ساده ترهيب فكري كثيف وهجوم مسعور على الكتاب يقوده المثقفون الإسلاميون. لم أكن أعلم أن عشاري مهتمّ بالموضوع أصلا، وحتى وإن كان مهتمّا به لم يخطر ببالي أنه سيخرج عن ذلك الإجماع السكوتي بين مثقفي اليسار بعدم نقد الإسلام (وخاصة أن الخوف من الإسلام وسط المثقفين السودانيين وعدم إخضاعه للمساءلة الفكرية والأخلاقية أصبح تقليدا فكريا راسخا). وفاجأتني ورقة عشاري الطويلة بأن تمدّدت وتحوّلت لنصّ بحجم كتابٍ ما لبث أن صدرعن مركز الدراسات النقدية للأديان في لندن في يناير 2016. وما كتبه عشاري يظل حتى الآن أعمق ما كُتب عن كتاب نبوة محمد.
2.
ومقالة عشاري الصادرة بتاريخ 27 نوفمبر 2021 والمعنونة “د. محمد محمود ودفاعه عن حذاء العسكر د. حمدوك” كانت مفاجأة أخرى، وإن كانت ذات طبيعة مختلفة تماما. وما أحزنني وصدمني على المستوى الشخصي أن عشاري الذي كان قد طلب مني في يوم من الأيام أن نقوم بصياغة بيان مشترك نوجهه للشباب كمساهمة منّا في تأصيل وترسيخ بعض القضايا والقيم الأساسية من أجل المساهمة في خدمة قضية التغيير قرّر أن يزيح جانبا كلّ ما يعرفه عن موقفي السياسي والفكري ليرسم لي صورة شائهة وخالية من الإنصاف وكل ذلك بسبب اختلاف تقييمنا لدكتور عبد الله حمدوك وموقفنا منه.
إن تقييمي لحمدوك وموقفي منه (ولابد لكل ثوري في السودان يؤمن بقضية التغيير أن يكون عنده تقييم لحمدوك وموقف منه) يختلف عن موقف عشاري لأنني أرى أن حمدوك جزء أصيل من الثورة وممثلُ المرحلة الانتقالية الذي ارتضته قوى الثورة عندما اختارته رئيسا للوزراء. ولعلني لا أحتاج للقول إن موقفي هذا لا يُلْزِمُني (أو يُلْزِم أي شخص مقتنع به) بأن أتفق مع كلّ ما يقوله أو يفعله حمدوك، إذ من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف معه ونقد وتصويب له. وأنا في نفس الوقت أضع حمدوك ومجموع المرحلة الانتقالية في إطار تعقيد الصورة الكبيرة لواقعنا السياسي وحقيقة أن ثورة ديسمبر ليست بثورة مكتملة. لقد نجح الجيش، عدو الثورة الأكبر وأكبر خطر على حياة المواطن السوداني وحريته، في الالتفاف حول الثورة وقَطَع الطريق عليها. ولقد عنى ذلك ميلاد وتكريس واقعنا الحالي المنقوص الذي فرض فيه العسكريون شراكتهم على المدنيين. هذا هو ما نعاني منه وما ندفع ثمنه الآن ومن ضمنه اتفاق حمدوك الأخير المرّ.
عندما دخل حمدوك بعد الانقلاب في مفاوضاته مع العسكريين وبإشراف الولايات المتحدة خاصة كان مسنودا بشرعيته الداخلية والشرعية الدولية بينما كان العسكريون فاقدين للشرعية ويلهثون ليجدوا رئيس وزراء. كان حمدوك وقتها ملهما للشارع ومحل إجماعه. إلا أن اتفاقه أفقده إجماع الشارع لأنه كان اتفاقا دون طموح المطلب الثوري الجديد للشارع الذي قرّر استكمال ثورته واستبعاد العسكريين. كان تقدير حمدوك مختلفا لأنه رأى أن “الممكن” هو استكمال الفترة الانتقالية واستمرار الشراكة مع العسكريين بكل عثراتها ومعيقاتها ومشاكلها المحتملة. هل ينزع هذا عنه ثوب الثورة ليصبح خائنا ولينحطّ به عشاري إلى “حذاءٍ للعسكر”؟ بالطبع لا. إن موقف حمدوك على التحقيق أقل ثورية وجذرية من الشارع ولكنه لا يعني أنه قد غادر قطار الثورة وفقد بطاقته كثوري. إن الواضح أن حمدوك قد قرّر الانحياز لدور رجل الدولة وقرّر أن يمارس الثورة بالوتيرة التي بدأها — وتيرة العمل الدؤوب لتحقيق ما يمكن تحقيقه فيما تبقّى من فترة انتقالية بوسائل الانتقال، وعَقْد المؤتمر الدستوري، وربما النجاح في استكمال عملية السلام بكسب الحلو وعبد الواحد لصفّها، ووَضْع البلاد في طريق الانتخابات والتحوّل الديمقراطي. وحمدوك يفعل كل هذا بشرعيته كممثل للوجه المدني للثورة، يفعله وهو رمزها بطموحاتها وبما يمكن أن يتحقّق من نجاحات وبما يمكن أن يقع من إخفاقات.
3.
نأتي الآن لخطاب عشاري في مقاله هذا.
إن ما أحزنني وصدمني في هذا الخطاب أنه يتحدّث عما كتبت بعد أن نزع عني سمة الصدق. إنه يكتب عني بعد أن قرر أنني نموذج لتلك الحالة التي يصفها جان بول سارتر بـ “الاعتقاد الفاسد” أو “الخداع الذاتي” (mauvaise fois, bad faith)، وهكذا فأنا حسب حكمه “ذرائعي”، بمعني أنني أنطلق من حالة خدعٍ للذات. والأدهي في حالتي أنني لا أخدع ذاتي فقط وإنما أتوجّه بطاقتي لخدع الآخرين “من منصة العقلانية ذات التعقيد الراقي”، وأصبحُ بالتالي متّهما عنده بأشياء مثل “التدليس”، و”الإخفاء” و”التغافل”، و”الإلهاء” و”عدم التصريح بما أضمره”. ورغم أن هذه حالات كامنة بداخلي إلا أن عشاري يملك تلك القدرة الفذّة على كشف ما تخفي الصدور ليضع يده عليها ويجذبها للخارج ويعرضها على قارئه.
وعشاري في مقاله هذا يجذبه إغراء الإسقاط بنزع الكلام من سياقه وحشره في سياق جديد يصنعه. وهكذا وفي تعليقه على جملتي “وعندما قرّر حمدوك أن يعود ويتحمّل مسئوليته”، والتي أشير فيها لمسئوليته كرئيس للوزراء، فإنه يقفز ليدّعي أنني أتعامل مع حمدوك وكأنه “رب العالمين، يتحكم في مصير الشعب السوداني من وحي مسؤوليته العليا يقرر ما يراه. وهي هذه سمة الرب، الذي يقال إنه يقرر لعبيده … ” ويواصل عشاري ليقدّم أكثر حكم جزمي ونهائي في حقّي وهو أن “حمدوك عند محمد محمود هو الوصي على الشعب السوداني، فمسؤول عنه.” ثم يكشف عشاري الستار عن أصل منطقي الوصائي هذا ليقول إنني وفي تنصيبي لحمدوك وصيا على الشعب اقتبست في واقع الأمر من لغة الجيش والجنجويد الذين أعلنوا تنصيب أنفسهم أوصياء على الشعب. وفي تبرير اقتباسي هذا يقول إنه ورغم أنني “من أعظم المفكرين في السودان” إلا أن اللغة أعوزتني وأعجزتني ولم أجد مخرجا إلا بالاقتباس من لغة الجيش والجنجويد. وهكذا يقسر عشاري جملتي عن قرار حمدوك للعودة لتحمّل مسئولياته قسرا ويعتصرها اعتصارا ليصل لذلك الاستنتاج النهائي والغريب الذي يجعلني تلميذا للجيش والجنجويد أستمدّ تصوراتي وقيمي منهم.
ومنطق عشاري هذا يصل ذروة إجحافه ومفارقته في قوله: “في جميع الأحوال، أقرأ في مقال محمد محمود اعتماده استثنائية حمدوك من القانون الأخلاقي، أن حمدوك بما هو رب العالمين في السودان، يمكنه أن ينحرف عن المعايير الأخلاقية والقانونية … ” وما يسميه عشاري هنا قراءة ليس بقراءة لأن القراءة لابد أن يكون لها أساس في النص تستند عليه أو يبرّرها. بالطبع أنا لم أقل إن حمدوك رب العالمين أو إنه فوق المعايير الأخلاقية ولا أؤمن أصلا بمثل هذه الغثاثة، وهو أمر يعلمه عشاري حقّ العلم. أما لماذا اختار عشاري أن ينسب لي شيئا لم أقله وهو يعلم أنه لا ينسجم مع موقفي الفكري والأخلاقي فهو أمر أجد نفسي حائرا في تفسيره. كيف يفعل عشاري هذا وهو الباحث عن الحقيقة والمدافع عنها؟ هذه مسألة عويصة ليس هذا مكان تقليبها وتأملها.
4.
وكلمة أخيرة أود أن أقولها لعشاري من باب نصح الصديق: رجائي ألا تهبط بلغتك وأنت تكتب عن أعدائك وتحاول تمزيقهم. رجائي أن تربأ بنفسك وتبتعد خاصة عن استخدام المفردات المبتذلة والفاحشة والسوقية (والتي لا أعلم إن كان هناك كاتب آخر غيرك يستخدمها). إن لغتك في نهاية الأمر تعكس احترامك لنفسك واحترامك لقارئك. أنت من أبرز علماء اللغة في السودان وتدرك كل ذلك.
29 نوفمبر 2021
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.
[email protected]