العدالة والمحاسبة التاريخية (12 – 12)

متوكل عثمان سلامات

 

إعادة هيكلة المؤسسات الوطنية

خروج السودانيين يوم أمس 19/ديسمبر/2020م في ذكرى ثورتهم المجيدة بعد أن دعى لهذه المواكب تجمع المهنيين السودانيين ولجان المقاومة وعدد من التنظيمات المدنية والسياسية مطالبين بتصحيح مسار الثورة وتحقيق العدالة وتشكيل المجلس التشريعي من الثوار ، وذهبت بعضها إلى أنه في حالة الفشل في إنجاز هذه المطالب تسقط الحكومة، هذا الخروج المهيب للثوار والمطالب التي رفعوا شعاراتها يؤكد مدى معرفتهم ووعيهم بالمتاريس التي تحول دون تحقيق أهداف الثورة والتي لا تخرج معظمها عن مسألة إعادة هيكلة المؤسسات الوطنية، وهذا ما يتسق مع ما ظلت الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال تنادي في مواثيقها وتعمل على ضرورة تحقيقه لما لإعادة هيكلة الدولة السودانية ممثلة في مؤسساتها الدور الكبير في تحقيق العدالة للضحايا وإحداث التحول الديمقراطي الحقيقي.
إحداث إعادة هيكلة للمؤسسات الوطنية مسألة ضرورية لما قامت به الدولة المسماة بالوطنية والتي تربعت عليها مجموعات محددة عملت على تخريب المؤسسات الوطنية وإستخدمتها كأدوات لقمع وإضطهاد وإبادة الشعوب السودانية، بعد أن دعمت وشكلت هذه المؤسسات القضائية والتشريعية والتنفيذية نقطة إنطلاق قوي لكل الحكومات نحو إبادة شعوب الهامش وقمع الأحرار، لذا كان من الطبيعي ألا تقف مع ثورات الشعوب السودانية المسلحة أو السلمية التي تطالب بالحرية والعدالة والمساواة والسلام العادل والشامل وعملت على تطويل مُدد ودعم أنظمة الإبادة والتسلط وإستمرار الصراعات.
بعد ثورة ديسمبر 2018م وسقوط النظام الإنقلابي العسكري التسلطي، مازالت بعض هذه المؤسسات متواصلة مع بعض رموز النظام الهالك، ومازال هناك موظفون عموميون موالين للنظام المقبور يعملون في وظائفهم ويقفون ضد التغيير، كما تسيطر الشركات الإستثمارية لنظام الفساد ونهب الموارد على كل أموال الشعوب السودانية و(يكنكش) في مفاصل الدولة الإقتصادية بإسم جيش الشعب، والذي يعمل وبإستمرار ضد ثورته وإرادته ويعمل على إبتزازه ليحكمه عنوة (كبك عديل) من خلال التجويع وإعدام السلع الضرورية، وخلق التفلتات الأمنية والتي إنتقلت هذه الأيام من مستواها المحلي إلى الإقليمي، مع الوضع في الإعتبار دخول عنصر جديد بعد توقيع إتفاق سلام السودان بجوبا مع الجبهة الثورية، ويعلم ضحايا الإنتهاكات الإنسانية قبل الثوار الدور الذي يمكن أن يلعبه هذا العنصر الجديد سواء فيما يتعلق بالعدالة الإنتقالية أو العدالة والمحاسبة التاريخية، ويستمر مسلسل إفتراض عدم الوعي لدى الثوار وضحايا الإنتهاكات. هذا الوضع الإقتصادي المأزوم الذي خلقه المكون العسكري، جعل الثوار الحادبين على التغيير وإعادة الهيكلة يتنافسون على القليل من هذه الموارد من أجل إنجاز مهام الثورة، هذا الوضع يوضح بشكل صريح مدى تورط مؤسسات الدولة والموظفين العاملين بها وخاصة العسكريين والمتعسكرين في عمليات الإنتهاكات الإنسانية والمظالم التاريخية التي مورست على الشعوب السودانية.
لابد من إعادة هيكلة كل المؤسسات الوطنية بمراجعة رؤاها وإختصاصاتها وسلطاتها ومراجعة سجلات الموظفين وإبعاد كل من شارك في الإنتهاكات الإنسانية، وفي المقابل تأهيل الموظفين الذين يجتهدون من أجل السلام والإستقرار، بالتركيز على المؤسسات العسكرية ومؤسسات إنفاذ القانون والسلطة القضائية وتشكيل السلطة التشريعية للإضطلاع بدورها الرقابي والتشريعي والذي سيصطدم بطبيعة الدولة الغير واضحة في الوثيقة الدستورية والتي تتناقض وتتعارض مع واقع الدولة السودانية المتعدد والمتنوع، وفي ذات الوقت تتسق هذه الطبيعة مع القوانين الدينية وسياسات التعريب والأسلمة القائمة، وتخلق مساحة يمكن أن يتسرب من خلاله النظام المباد.
مالم يكون هناك نص في الدستور يصاغ بشكل صريح ودقيق ومحكم يصف طبيعة الدولة بأنها دولة علمانية ديمقراطية تعددية لامركزية تقوم على الفصل التام بين الدين والدولة، فإن الثوار بعد تشكيل المجلس التشريعي سيحاولون تشريع قوانين جديد وتعديل وإلغاء قوانين قديمة تتواءم مع أهداف الثورة، وهنا سيصطدم الثوار بجدال وصراع قانوني عقيم طالما سلطة إصدار القوانين هي لرئيس مجلس السيادة والذي بدوره سوف لن يصدرها بحجة عدم دستوريتها أو غيرها من الحجج والتي ستحيل مشروعات القوانين إلى المحكمة الدستورية بغرض التطويل وتعويق مسيرة الثوار المتجهة نحو إحداث تغيير يقود إلى تحقيق أهداف الثورة، علماً بأن المحكمة الدستورية في ذاتها تحتاج إلى إعادة هيكلة كغيرها من الإدارات الخاصة بوزارة العدل والنائب العام وأجهزة الأمن والمخابرات، حتى يتحقق الإنتقال ويتحقق السلام وسيادة حكم القانون، والذي بدوره سيصعب تحقيقه مالم تتم معالجة مسألة طبيعة الدولة السودانية.
هذا الوضع يجعلنا نتحفظ من الحديث عن مؤسسات إنفاذ العدالة والمحاسبة التاريخية لإرتباطها بإعادة الهيكلة أو الإتفاق عليها.
أما الحكومة الإنتقالية بالرغم من أنها قد أصدرت قانون مفوضية العدالة الإنتقالية والذي سيرد الحديث عنه لاحقاً، إلا أننا نلاحظ أن بعض مكوناتها تعمل على ربط مسألة العدالة الإنتقالية بعملية السلام والإستقرار، وذلك بمساومة تحقيق العدالة للضحايا مقابل التوصل للسلام والإستقرار، والبعض الآخر يعمل من أجل تحقيق العدالة الإنتقالية في فترة الثلاثين سنة الماضية، في تجاهل واضح للإنتهاكات الإنسانية التاريخية.
ختاماً نأمل أن تكون هذه السلسلة من المقالات المتواضعة قد أسهمت ولو قليلاً في إثراء الحوار الإيجابي فيما يتعلق بمعالجة الإنتهاكات الإنسانية بأشكالها المادية والبنيوية والتي ظلت تمارسها الحكومات السودانية ضد شعوبها منذ خروج المستعمر وإلى يومنا هذا.

المراجع:
1- منفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال.
2- كتاب المنهج الدراسي لمستوى الأساس – المعهد القومي للتدريب والتأهيل السياسي والقيادي.
3- الأسس الفلسفية لمفهوم العدالة الإنتقالية – مقاربة أولية – مولاي أحمد مولاي عبدالكريم – أستاذ متعاون في قسم الفلسفة، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة نواكشوط – موريتانيا – مجلة تبيُّن العدد 11/3 – 2015م.
4- فلسفة التشريع في السودان الجديد – متوكل عثمان سلامات.
5- العدالة الإنتقالية والحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية – منشورات الأمم المتحدة – مكتب المفوض السامي – 2014م.
6- المسآءلة الجنائية في العدالة الإنتقالية – القباقبي عبد الإله – إصدارات المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والإقتصادية والسياسية – برلين/ ألمانيا – ص 46.
7- مفهوم العدالة الإنتقالية والشرع الإسلامي – عبدالرحمن الخطيب – باحث في الشئون الإسلامية.
8- تجربة العدالة الإنتقالية في المغرب – عبدالكريم عبداللاوي – تقديم هاني مجلي – مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
9- تاريخ العدالة الإنتقالية ونظريتها – المركز الدولي للعدالة الإنتقالية.
10- أدوات سيادة القانون لدول ما بعد الصراع – لجان الحقيقة – الأمم المتحدة – نيويورك وجنيف 2006م.
11- أدوات سيادة القانون لدول مابعد الصراع – فحص السجلات – إطار تشغيلي – الأمم المتحدة – نيويورك وجنيف 2006م.
12- أدوات سيادة القانون اللازمة للدول الخارجة من الصراعات – برامج جبر الضرر – الأمم المتجدة – نيويورك وجنيف 2006م.
13- دستور الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال لعام 2017م.
14- آليات تنفيذ العدالة الإنتقالية خلال مرحلة الإنتقال السياسي في سوريا – إبراهيم ملكي – برنامج الباحثين الزائرين الدوليين.
15- النوع الإجتماعي ومسار العدالة الإنتقالية في المغرب – المركز الدولي للعدالة الإنتقالية – مؤسسة المستقبل – أيلول/ سبتمبر 2011م.
16- الوصول إلى العدالة في مجال تعزيز وحماية حقوق الشعوب الأصلية – دراسة أعدتها آلية الخبراء المعنية بحقوق الشعوب الأصلية – الأمم المتحدة – الجمعية العامة – مجلس حقوق الإنسان – الدورة الرابعة والعشرون – 30/7/2013م.
17- معالجة إنتهاكات حقوق الإنسان – مقابلة مع نائبة مدير برنامج صناع القرارات الدوليين بالمركز الدولي للعدالة الإنتقالية – المركز الدولي للعدالة الإنتقالية – يناير/ كانون الثاني 2010م.
18- تعزيز أنشطة الأمم المتحدة في مجال سيادة القانون وتنسيقها – تقرير الأمين العام – الأمم المتحدة – الجمعية العامة – الدورة السابعة وستون – 10/ أغسطس/2012م.
19- مؤتمر الحوار الوطني الشامل بدولة اليمن – التقرير النهائي للفترة الأولى لفرق العمل – فريق قضايا ذات بعد وطني والمصالحة الوطنية والعدالة الإنتقالية – 18/مارس إلى 1/ يونيو 2013م.
أوراق :
1- العدالة الإنتقالية وآلياتها الديمقراطية – طارق حسين النعيمي،
2- فلسفة العدالة الإنتقالية في الإسلام – ساسي مبروك – الفجر نيوز 23/مارس/ 2012م،

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.