روزنامة الاسبوع : لِقَاحَاتُ الفُقَرَاء!
كمال الجزولي
الإثنين
إلَى أَيْنْ، يَا حُدَاةَ القَافِلَةْ/ إلَى أَيْنْ؟!/ يَنْسَلُّ وَاحِدُكُمْ مِنْ خَلْفِ وَاحِدِكُم/ فَكَأَنَّ المَوْتَ عُرْسٌ فِي فَضَاءَاتِ النَّشِيجِ القَاحِلَةْ/ وَكَأَنَّ الأُغْنِيَاتِ وَهْيَ تَسْتَدِيْرُ فِي رَمَادِهَا/ لَا تَسْتَدِيْرُ إِلَّا جَذْوَةً لِلانْكِسَارِ، الاحْتِضَارِ، والأَسَى/ أُنْظُرُوا .. تَسَنَّهَ الطَّعَامُ، يَا أَحِبَّتِي/ وَالخُبْزُ، فِي السِّلَالِ، صَارَ يَابِسَا/ وَفِي الجِّرَارِ غَاضَ المَاءْ/ إِلَى أَيْنْ؟!/ نَاءَتْ ظُهُوْرُ الخَيْلِ بِالوُجُوهِ الخُضْرِ/ وَالأَسْمَاءْ/ وَبِالذِّكْرَيَاتِ الآفِلَة!
الثُّلاثاء
اللَّعنة على أوَّل من امتلك فأساً شرخ به وجه الأرض، وقال: «هذه ملكي!»، ثمَّ انطلق، من يومه، يستحلب، مِن جبين كلِّ مَن كان بلا فأس، فائضاً من عرقه، يهيِّئ به بحبوحة الرَّفاه لنفسه، ولأسرته، ولعشيرته، ولسائر طبقته الأقربين، جيلاً بعد جيل، بينما الذين يتلمَّظ كلَّ هذه الهناءة على حساب عرقهم، يتضوَّرون جوعاً، وفاقة، وعوزاً لكلِّ شئ، كلِّ شئ، من اللقمة السَّائغة إلى الماء النَّظيف، ومن المرقد الليِّن، إلى السَّقف الظَّليل، يستهنئ وقبيله بذخ الصَّحَّة والتَّعليم، بينما يشقى أولئك في ضنك الدَّاء والجَّهل، ليته تنصبُّ ألف لعنة على ذكراه الزَّنخة، فقد حاز، مع فأسه الأوَّل ذاك، جنان الدُّنيا، وطيوبها الماتعة، وما يلذُّ للأنفس من أركانها الأربعة، رامياً للبطون الخاوية، من خلف سور جنانه هذي، فضلات اليابس من العناقيد، وبقايا الأعجف من العذوق.
كتبت، ذات روزنامة، أن فيلم مايكل مور الوثائقي «سيكو ـ Sicko»، هزَّني، حدَّ الإفزاع، بأطروحته وافرة البساطة، شديدة التعقيد، حيث خمسون مليون مواطن في الولايات المتَّحدة يسألون الله، صباح مساء، ألا يصيبهم ما يضطرهم للذِّهاب إلى الأطباء، بينما ثمانية عشر مليوناً منهم مرشحون للموت، كونهم، أجمعهم، عاجزين، بسبب الفاقة، وهُم في «جنَّة الحُلم الأمريكي»، عن الحصول على بطاقات تأمين صحِّي! ملايين المرضى الفقراء الذين ليس لهم سوى أن يواصلوا الزَّحف على بطونهم للحصول على تكلفة العلاج المبهظة، دَعْ لقمة العيش لهم ولعيالهم! وحتَّى البعض الذين تتحقَّق لهم «معجزة» الحصول على هذه البطاقات بشقِّ الأنفس، سرعان ما يكتشفون، ساعة الحاجة لاستخدامها، بالكم الهائل من الأمراض التي لا تغطيها (!) أو التي يتبارى ضواري شركات التَّأمين، من المحامين والمستشارين الطبِّيِّين، في إخراجها من نطاق مسؤوليَّة الشَّركات، أو تمكين هذه الشَّركات، بشتَّى الحيل، من الإفلات من التزاماتها القانونيَّة، دَعْ الأخلاقيَّة، بتغطية كلفة العلاج لهؤلاء المساكين! وذاك محض مثال، حتَّى من داخل أمريكا، أعتى إمبراطوريَّات الرَّأسماليَّة العالميَّة، لكلِّ مَن يتوهَّم رجاءً في خيرها!
والآن، مع بدء توزيع اللقاحات المضادَّة لفيروس «كورونا»، والذي يُفترض أن يكون «منصفاً» بين كلِّ دول العالم، بصرف النَّظر عن الجدل العلمي الذي لم ينحسم بعد، حول مدى فائدته من ضرره، خصوصاً لخصوبة الشَّباب، تطلُّ برأسها، هنا أيضاً، مشكلة الفوارق بين فقراء وأثرياء العالم في معايير الرَّأسماليَّة، حيث الأوَّلون مهدَّدون بألا يحصلوا ولو على فتات من اللقاح، لأن الدُّول الغنيَّة، بأنانيَّتها المعتادة، ترغب في «تخزين!» ما يفوق حاجتها منه، وبالفعل جمعت، حتَّى الآن، ما يكفيها 3 مرَّات حتَّى نهاية 2021م، بل جمع بعضها، ككندا، ما يكفي لتلقيح كلِّ مواطن فيها 5 مرَّات، وذلك بحسب إحصاءات «تحالف لقاح الشُّعوب» التي تضمُّ منظمتي «أوكسفام والعفو الدَّوليَّة» إضافة إلى 8 شركات منتجة للِّقاح (موقع «سكاي نيوز»؛ 9 ديسمبر 2020م). ومن هذه الإحصاءات، مثلاً، أن جميع جرعات «لقاح مودرنا»، قد اشترتها دول غنيَّة، كما اشترت، أيضـاً، 96% من جرعات «لقاح فايزر»، علماً بأن موعد طرح اللقاحين ما يزال في رحم الغيب! وبعد هذا كله فإن 53% من الجُّرعات لم يتم حجزها سوى لـ14%، فقط، من سكان العالم، ما جعل «تحالف اللقاحات» ينبِّه إلى أن «الدُّول الفقيرة لن تتمكَّن من تلقيح سوى واحد من كل 10 أشخاص في العام المقبل»، وأن «من بين الدُّول الفقيرة التي سيصلها العلاج متأخرا، 5 دول سجلت 1.5 مليون إصابة بكورونا حتَّى الآن، وهي كينيا وميانمار ونيجيريا وباكستان وأوكرانيا»، وأن «من المرجَّح أن يتمَّ، حتَّى 2021م، تلقيح 18% فقط من سكان العالم، وحتَّى وعد (لقاح أوكسفورد) بتوفيره بنسبة 64% للدُّول النَّامية، لن يكون كافياً لتلقيح سكَّان العالم الثَّالث»، ومن ثمَّ يحتجُّ «التَّحالف» بأن «على الحكومات، وشركات صناعة الأدوية، التَّأكُّد من وجود جرعات لقاح كافية لكلِّ البلدان، وليس، فقط، لتلك التي يمكنها دفع الثَّمن!» (المصدر نفسه).
«تحالف اللقاحات»، ومكوِّناتها المختلفة، منظمات مجتمع مدني، فلا هي شركات رأسماليَّة، ولا هي حكومات رأسماليَّة، ولذا لن يكفي حسن نيَّتها لتوفير ما تحتاجه البلدان النَّامية من مساعدة. بعض هذه المساعدة تتصدَّى لتوفيرها، في الوقت الرَّاهن، دولة صغيرة بمعيار مساحتها التي لا تتجاوز كثيراً الـ 100 كيلومتر مربَّع، وعدد سكاَّنها الذي لا يربو على الـ 11 مليون نسمة، ولكنها، مع ذلك، بطلة، وبطولتها نابعة ليس من محض عاطفة جوفاء، ولكن من واقع ثباتها الأسطوري في مواجهة الحصار الاقتصادي القاسي الذي تفرضه أمريكا عليها، ويكفي دليلاً على هذه القسوة إغلاق مراكز «ويسترن يونيون»، مؤخَّراً، بغرض خنقها، والحيلولة دون إدخال أيِّ دولار إليها! هذه الدَّولة البطلة هي كوبا التي، برغم كلِّ الظروف المعقَّدة التي تحيط بها، وعلى حين تتسابق البرازيل والمكسيك لإتمام صفقات استيراد اللقاحات مع كبريات شركات الأدوية العالميَّة، تتقدَّم هي دول أميركا الجَّنوبيَّة لتسجيل لقاحين واعـدين ضد الفيروس من إنتاجـها، هما Soberana1 وSoberana 2 اللذان يُتوقع نشر النَّتائج النِّهائيَّة لتجاربهما السَّريريَّة في يناير القادم.
ولأن أيَّ لقاح هو، بمعايير الرَّأسماليَّة العالميَّة، سلعة، ولها سعر محدَّد واجب السَّداد (واللي ما معاهوش ما يلزموش!)، فإن شعوب البلدان النَّامية لن تتوفَّر لها اللقاحات من كبريات الشَّركات في سوق هذه المنافسة الرَّأسماليَّة، لأنها ببساطة .. ما معاهاش! إدارة ترامب، مثلاً، أنشأت مشروع «وارب سبيد» بهدف شراء ملايين الجرعات من أيِّ لقاح تثبت فعاليته سريريَّاً، حتى قبل بدء إنتاجه، أي الشراء بالدَّفع المقدَّم! وهذا ما يضع الدُّول الفقيرة في آخر سلم اهتمام شركات الأدويَّة .. أفلا يجعلنا هذا نحني هاماتنا لخطوة كوبا نحو تصنيع اللقاحين، طالما ثبت من سيرتها على صعيد العلاقات الدَّوليَّة أنها لن تضنَّ، على الأقل، بما يغطي بعض احتياجات فقراء العالم؟!
الإجابة ميسورة لمن يعود إلى مَشاهِد الجزء الأخير من وثائقي مايكل مور. فبعد أن فرغ من استقصاء السِّياسات الصِّحِّيَّة ما بين أمريكا، وكندا، وبريطانيا، وفرنسا، اصطحب بعض من أصيبوا بأمراض الصَّدر من متطوعي أنقاض برج التَّجارة العالمي في كارثة الحادي عشر من سبتمبر، في رحلة غير مشروعة على متن زورق إلى كوبا قائلاً: «ظلوا يُدخلون في روعنا، طوال خمسة وأربعين سنة، أنها المكان الأسوأ في العالم، فوجدناها مزوَّدة بأفضل نظام للرعاية الصِّحِّيَّة»! وذهلت مريضة ضمن «البعثة»، لمَّا وجدت أن ما تحتاجه من كشف طبي مجَّانيُّ، أما الدواء فلا يزيد سعره عن 5 سنتات، بينما سعره في أمريكا يتجاوز الـ 120 دولاراً، أي 2.400 ضعفاً، فأجهشت ببكاء يمزِّق نياط القلب، وهي تحزم ما يكفيها منه لثلاث سنوات!
الأربعاء
مساء الثُّلاثاء 24 نوفمبر 2020م قال الأستاذ ماهر أبو الجُّوخ، رئيس إدارة الأخبار والشُّؤون السِّياسيَّة بالتلفزيون القومي، قولين: أوَّلهما أتَّفق معه فيه، تماماً، وهو أن الحزب الشِّيوعي ظلَّ يتحرَّك، دائماَ، منذ ما قبل الاستقلال، ضمن تحالفات سياسيَّة، سواء تكتيكيَّة أو استراتيجيَّة، ولا يعمل، قط، خارجها. أمَّا قوله الآخر بأن الحزب الشِّيوعي كان يعمل، على أيَّام عبُّود، ضمن تحالف واسع لم يغادره قط، حتَّى اندلعت ثورة أكتوبر 1964م، فهذا ما يحتاج إلى تدقيق. فالحزب، في الحقيقة، نشط ضدَّ نظام عبود من خلال تحالفين متواليَين: الأوَّل بقيادة الإمام الصِّديق المهدي، وكان فضفاضاً، بحكم ظرفه التَّاريخي، وهو ظرف تجميع لأوسع القوى الوطنيَّة، وحرمان النِّظام من أيِّ داعم سياسي أو اجتماعي، تمهيداً للانقضاض عليه وهو في أكمل حالات ضعفه. لكن القوى التَّقليديَّة داخل ذلك التَّحالف استصعبت، عام 1963م، خطَّة الإضراب السِّياسي والعصيان المدني التي طرحها الحزب للإطاحة بالنِّظام، فما كان من الحزب إلا أن استأذن حلفاءه، وانسحب فوراً. لكن انسحابه ذاك لم يكن عدميَّاً، بل مبنيَّاً على تقديرات جدليَّة، في المستويين الفكري والسِّياسي، حيث لم يترك الحزب في فراغ، وإنَّما سرعان ما انوجد داخل تحالف آخر هو الذي قاد الثَّورة، عاكساً، في غالبه، سمات الدَّائرة الدِّيموقراطيَّة ذات الوشيجة الأكثر قرباً منه: «جبهة الهيئات»، والتي ما لبثت أن اقتحمت، في مقدِّمة الجَّماهير، أسوار التَّاريخ باقتدار، في ثورة أكتوبر 1964م.
الخميس
ظلَّ الرئيس التُّركي أردوغان يسخر، طوال الوقت، مِمَّا يعتبرها أخطاءً الرَّئيس الفرنسي ماكرون الفادحة، ويعزوها لما يسمِّيه ضعف خبرته السِّياسيَّة! لكنه مالبث، هو نفسه، أن ارتكب، بسبب عدم التَّحسُّب، خطأ لا يُتصوَّر أن يقع فيه دبلوماسي في أوَّل سلم العمل الخارجي! والأغرب هو مصدر الخطأ نفسه المتمثِّل في بيت شِعْر! ففي 10 ديسمبر الجَّاري، وخلال زيارته لأزربيجان لتهنئة رئيسها إلهام علييف بانتصار بلاده في حربها مع أرمينيا، مؤخَّراً، وقف أردوغان في قلب العاصمة باكو يلقي كلمة في الاحتفال العسكري بتلك المناسبة، عندما استخدم، فجأة، بيت شِعْرٍ من قصيدة للشَّاعر الأزري محمَّد إبراهيموف يباهي فيه بانتساب نهر «أرس» إلى أزربيجان، وليس إلى إيران التي تنازعها عليه، ويؤكِّد على قيمته التَّاريخيَّة لدى شعب أذربيجان. هكذا، ورغم أن العلاقات بين إيران وتركيا كانت، قبل ذلك، قد ازدهرت بوجه خاص في عهد أردوغان نفسه، إلا أنها، في إثر تلك الحادثة، شهدت، خلال ساعات، تدهوراً دراماتيكيَّاً، حيث لم تكتف طهران باستدعاء سفير أنقرة لديها، وصبِّ جام غضبها على أمِّ رأسه، بل حمَّلته رسالة قاسية اللهجة، بسبب سلوك أردوغان السِّياسي «التَّدخلي وغير المقبول»، وتشمل تعبيرات عنيفة عن «أن حقبة ادعاءات الإمبراطوريات السَّاعية للحرب والتوسُّع قد انتهت» .. وربَّما تغمز، بذلك، من طرف إلى الاتِّحاد السُّوفييتي الذي كانت أزربيجان إحدى جمهوريَّاته!
الجُّمعة
ملاحظة أوَّليَّة لا غنى عنها لكلِّ من يريد أن يتناول بالتَّعليق، إيجاباً أو سلياً، القانون الذي أصدره الكونغرس الأمريكي باسم «قانون التَّحوُّل الدِّيموقراطي والمساءلة والشَّفافيَّة الماليَّة لعام 2020م»، وهي أن هذا القانون إنَّما يستند، في مشروعيَّته الدَّوليَّة، إلى «إعلان وبرنامج العمل المعتمدين من المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان بفيينا في 25 يونيو 1993م»، حيث ينصُّ البند التَّاسع من تلك الوثيقة الدَّوليَّة الصَّادرة تحت إشراف «المفوَّضيَّة السَّامية لحقوق الإنسان OHCHR»، على أن المؤتمر «يؤكِّد .. من جديد أن البلدان الأقلَّ نموَّاً، والملتزمة بعمليَّة إرساء الديمقراطية والإصلاحات الاقتصاديَّة، وكثير منها في أفريقيا، ينبغي أن تحظى بدعم المجتمع الدَّولي لإنجاح انتقالها إلى الدِّيموقراطيَّة والتَّنمية الاقتصاديَّة».
The World Conference on Human Rights reaffirms that least developed countries committed to the process of democratization and economic reforms, many of which are in Africa, should be supported by the international community in order to succeed in their transition to democracy and economic development.
السَّبت
بعث إلىَّ الأستاذ ميرغني ديشاب، مشكوراً، بالكلمة الآتية، استجابة لدعوة كنت طرحتها في ذيل روزنامة «لاهوت الكباشي»، مرحِّباً بالتَّداخل في المناقشة التي افترعها د. احمد طراوة. قال ديشاب:
[تناول الدُّكتور اعتراض الفريق الكبَّاشي، في ورشة جوبا، علي عبارة «فصل الدِّين عن الدَّولة»، واستبدالها بعبارة «علاقة الدِّين بالدَّولة» التي وصفها الأستاذ كمال الجزولي بأنَّها «لا معني لها». وابتداءً أقول إن الأخوان المسلمين، والحركة الإسلاميَّة، والسَّلفيِّين عموما، يتمسَّكون بتعبير «الحاكميَّة لله»، وأنهم ظلُّ الله في الأرض العاملون علي تطبيق حكمه. وتعبير «الحاكميَّة لله» صدر، ابتداءً، عن أبي الأعلي المودودي، ثم تلقفه سيِّد قطب، فأخذ به الإسلاميُّون، مفسِّرين الآيات الثَّلاث من سورة المائدة: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله ..»، بالأرقام 47/45/44. ولأن قراءتهم محدودة، وكذلك معرفتهم بالعربيَّة، إلا من رحم ربُّك، فإنهم ظنُّوا أنها إنَّما عنت السُّلطة السِّياسيَّة!
اللغويون يأخذون جذر الكلمة من الفعل الثُّلاثي المجرَّد. فلفظ «حاكميَّة» من «حُكْم»، وقواميس اللغة العربيَّة تفسِّر المفردات المشتقَّة عن هذا الفعل في معني فضِّ الخصومات. والمشتقَّات: «يحكم»، «حاكم»، «حكومة»، «محكمة»، «حاكمية» تقع في هذا المعني. وأُثر عن أبي حنيفة أنه أيَّد «تحكيم» سيِّدنا علي الكتاب في موقعة صفِّين بينه وبين معاوية. فاستوقفه الخارجي فاتك الأسدي في الطريق، ودار بينهما الحوار التالي:
فاتك: إستغفر الله يا أبا حنيفة.
أبو حنيفة: من ماذا؟
فاتك: من تأييدك «تحكيم» الكتاب بين علي ومعاوية.
أبو حنيفة: إذن، فأنت تري أن عليا كان مخطئا، وأنا أراه علي صواب، فاجعل بيننا «حكومة».
فنادي فاتك أحد جنوده قائلا: هذا هو «الحكومة» بيننا. فقال أبو حنيفة: ها أنت قبلت «التَّحكيم»، فذهب فاتك مكسوفاً (راجع: سليمان فيَّاض؛ الأئمة الأربعة، دائرة الثَّقافة والفنون/ قطر – ص53 ).
لفظ «حكومة»، إذن، حسب أبي حنيفة، يعني التَّدخُّل بين مختصمين لفضِّ خلافهما بـ «الحكم» لأحدهما، وهو أقرب إلي سلطة القاضي. وإذن، فتفسير الإسلاميِّين لـ «الحاكميَّة» هو تفسير من لا يعرف القرأن ولا العربيَّة!
في موقف السَّقيفة، اختلف الأنصار والمهاجرون أيُّهما تكون له إمارة المؤمنين، فانبري سعد بن عبادة زعيم الأنصار قائلاً: منا أمير ومنكم أمير، ولم يقل منا «حاكم» ومنكم «حاكم». فلفظ «الأمر» من «أمر يأمر»، ومنه لفظ «أمير»، هو الذي يعني السُّلطة السِّياسيَّة. وفي شأن الآيات الثلَّاث من سورة المائدة يذهب المفسرون إلي أنها نزلت في اليهود، وكان لهم قاتل استشاروا فيه النَّبي محمد (ص)، إن قال بالقصاص رفضوا «حكمه»، وإن قال بالدِّيَّة أخذوا بـ «حكمه»، وكانوا يعلمون أن التَّوراة يقول بقتل القاتل، وكان الرسول (ص) علي علم بما في التَّوراة، وقد عرف مكر اليهود الذين أرادوا استدراجه للقول بالدِّيَّة! وكنا عقَّبنا علي كلمة للدكتور يوسف الكودة قال فيها ما معناه «أيُّ نظام يأتي في السُّودان لا بُدَّ أن يستصحب الشَّريعة الإسلاميَّة». وكان سؤالنا الأساسي للدكتور: الشَّريعة بفهم من؟! فالرسول الكريم يقول في الحديث الشَّريف «تنقسم أمَّتي إلي ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النَّار، إلا واحدة». وكلُّ فرقة تظنُّ أنها هي «الفرقة النَّاجية»، أي التي علي صواب من الدين، لكن ذلك في علم الله وحده. وعلي هذا ينبغي ألا يظنَّ «الإخوان المسلمون»، أو «الحركة الإسلاميَّة»، أو «السَّلفيَّة»، أو «السَّلفيَّة الجِّهاديَّة»، أنهم علي صواب من الدِّين، فذلك علمه عند الله تعالي.
لقد عشنا ثلاثين سنة تحت الشَّريعة الإسلامية بفهم الإخوان المسلمين، و«حدس ما حدس»! وليس لعاقل أن ينخدع بشريعة «الأخوان المسلمين»، الآن أو مستقبلاً، لأن الوعي الثَّوري عرفهم جيِّدا كما عرفناهم نحن. ثمَّ فرق كبير بين «علاقة الدِّين بالدَّولة»، و«فصل الدِّين عن الدَّولة»، فالأولي تعني، مباشرة، إقامة الدَّولة الدِّينيَّة، والثَّانية إقامة الدَّولة العلمانيَّة. ولم يأت لفظ «العلمانيَّة» في ألسنة النَّاس، بمدلولاته، إلا في أطار ردِّ الفعل على أفعال نظام البشير. فالأخوان المسلمون، وغيرهم، هم السَّبب الرَّئيس في نشوء الاتِّجاه نحو فصل الدِّين عن الدَّولة.
خيرة العقول كانوا في ورشة جوبا، عندما تصدَّى لهم، بعد غياب كما قيل، الفريق الكباشي، لاستبدال تعبير «فصل الدِّين عن الدَّولة» بـ «علاقة الديِّن بالدَّولة». وليته دخل في نقاش مع تلك العقول المستنيرة ليقف علي بيِّنة، فما كان لائقا أبدا أن يقول ما قال، كأنه يوجِّه أمراً لجنود أدني منه رتبة!]
إنتهت كلمة ديشاب وأعتذر له عن التَّحرير بتصرُّف، راجياً ألا يكون مخلاً ببلاغته المشهودة؛ وما تزال أبواب الرُّوزنامة مشرعة لاستقبال المزيد من المساهمات المستنيرة.
الأحد
ما كادت جيل بايدن، قرينة الرَّئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، تستخدم لقب «دكتورة»، في صفحتها على موقع تويتر، حتَّى انبرى لها الكثيرون بالنَّقد، رغم أنها حائزة على درجتي ماجستير ودرجة دكتوراة! أشهر من انبرى لنقدها جوزيف أبستين، الكاتب الرَّاتب بصحيفة «وول ستريت جورنال»، مقارنا بين درجة الدُّكتوراه في التَّربية التي تحملها، والدَّرجات الفخريَّة التي تمنحها الجَّامعات، عادة، لبعض الشَّخصيَّات، وخلص إلى «أن عبارة د. جيل بايدن تبدو منطوية على احتيال، إن لم تكن عبارة كوميديَّة»! والآن .. مَن مبلغٌ عنِّي المستر أبستين بأرتال «البروفيسيرات» النُّجوم الذين يختالون في منابر الخرطوم؟!
نقلاً عن صحيفة الديمقراطى