الفيدرالية أم المركزية القابضة تحديات أثيوبيا الجديدة
عبد العزيز أبو عاقلة
قال هيرودوت قديما : «وكان في إثيوبيا عين ماء تنعش أهلها، ومروج مخضرة يانعة، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وكان الذهب في بلادهم كثيرًا جدًّا، حتى إنهم كانوا يستعملونه في الأشياء الدنيئة كالسلاسل التي يسحبون بها الأسرى.» انتهي.
# اثيوبيا الدولة الإفريقية الوحيدة التي لم يمكث بها الاستعمار الايطالي سوي خمسة أعوام وعلي الرغم من ذلك مرت بمخاطر صعبة ومراحل عسيرة في مسيرة حكامها رغماً عن قدم البلاد تاريخيا وبزوغها لأول مرة كمملكة وامبراطورية موحدة علي يد مؤسسها منليك الثاني عام ١٨٨٩م والذي اتخذ اديس أبابا عاصمة لها .
لم تكن ولادة الجمهورية الإثيوبية يسيرة وسهلة بل لها تاريخ طويل محتشد بالانقسام الاثني والقوميات المتعددة تخلله كثير من المآسي والفواجع والعبر والدروس ، لم تشفع لهم أمجاد وحضارة مملكة اكسوم في القرن الأول الميلادي التي عرفت بأنها كانت من الممالك و الإمبراطوريات العظمي في العالم حينذاك بجانب الإمبراطورية الفارسية والرومانية .بينما كانت أوربا تغرق في الظلام . ولم يشفع لأهلها وجود التابوت المقدس ووصاية الله في ارضها كما تحكي تاريخ الاديان والكتب الكنسية القديمة.
# مهما يكن من تاريخ للأمم صاعداً أم هابطاً اذا ما انعكس تاريخها وتجاربهم الماضية المؤثرة علي حاضرها سيبقي تاريخاً مكتوباً في الكتب لذا يعتبر تاريخ ٤ نوفمبر ٢٠٢٠ وإعلان الحكومة الإثيوبية الحرب علي قادة التغراي باعتبارهم متمردين علي الدولة كما يصفهم رئيس وزراء اثيوبيا ابي احمد مما ترك أثراً وشرخاً عميقاً في الوجدان المجتمعي الاثيوبي وأيقظ شبح بروز الاثنيات من جديد والتي لن تمر علي شعوبها والأجيال القادمة مرور الكرام بل هو تاريخ فاصل بين مرحلتين : مرحلة ابتدأت بثورة نضالية مسلحة من أجل انتزاع الحريات والحقوق المتساوية لتحالف عريض ضد نظام استبدادي احادي ديكتاتوري ذو ايدلوجية متطرفة (منغستو ) وانتهت تلك المرحلة ١٩٩٢ بهزيمة وسقوط نظام الديكتاتورية العسكري .
# وفي مرحلة الفترة الانتقالية التي تلتها توافقت القوميات علي دستور فيدرالي كأحد روافد الحكم اللامركزي اهم ملامحه أن يراعي التنوع لهذه الشعوب ويمنح كل قومية مزيداً من حكم نفسها بنفسها في اقاليمهم التسعة بالإضافة إلي ادارتين حسب تقسيمها بل ترك الباب مفتوحا على بند حق تقرير المصير لأى من أقاليمها المختلفة بنص دستورها ولكن الدستور بالرغم من أنه حقق استقراراً شكلياً من الزمن علي الواقع السياسي لم يتم تفعيله وتنزيله علي الارض بسبب سجنه في الأدراج بالطبلة والمفتاح و قبضة الجبهة الديمقراطية الثورية التي سيطرت علي السلطة كاملة و مفاصل الثروة وأصبحت دولة عميقة لوحدها ، والتي كانت تحكم بقبضة حديدية منذ تسعينيات القرن الماضي، إلا أنها ضعفت عقب مظاهرات بعض القوميات أبرزها قومية الأروما وغيرها التى أطاحت بحكومة رئيس الوزراء السابق، مريام هيلاديسالين .
# وعندما اعتلي السلطة ابي احمد كرئيس وزراء لاثيوبيا ظلت هذه الاشكالية تحدياً قديماً متجدداً واجه كل الحكومات السابقة علي مدي تاريخ اثيوبيا و حاول أن يشرع في بعض الإصلاحات الداخلية أهمها إطلاق العفو العام علي المعتقلين السياسيين وبسط بعض الحريات علي الإعلام والصحافة والحرب علي الفساد فتم إقالة عدد كبير من قيادات التغراي في السلطة من مناصبهم مدنيين وعسكريين .مما جعله يحظى بشعبية داخلية مجتمعية سريعة لشعوب تتوق إلي الحرية والحقوق كما أنه استند علي اعلام ترويجي في خلال سنتين من حكمه .
الا انه اتجه إلي تغيير مظهر ومسار الدستور الفيدرالي والذي هدفه الاسمي أن يتم من خلاله الاندماج الوطني والوحدة الطوعية بشكل شعبي واختياري و الذي توافقت عليه القوميات الإثيوبية بل ذهب إلي أكثر من ذلك بشكل متسارع إلي خلق بديل سياسي وهو تحالف جديد (حزب الازدهار ) بدلا من الجبهة الشعبية الحاكمة مما أشعل الحرب الأخيرة .لان كلا من الطرفين المتحاربين له أهداف مختلفة فالدولة العميقة علي رأسها قادة التغراي يريدون الحفاظ علي امتيازاتهم التاريخية في السلطة والهيمنة علي المناصب وابي احمد يريد تحقيق اندماج وطني شامل فوقي والعبور سريعا من الفيدرالية إلي المركزية القابضة للدولة الإثيوبية. وهذا هو بيت القصيد بحيث لا يمكن خلق اندماج وطني دون رضاء كل القوميات والاثنيات مهما صغر او كبر حجمها الديمغرافي واذا لم تتم مراجعة سريعة للإجراءات والعلاقات بين المركز والأقاليم في المؤسسات والتشريعات وبسط مزيدا من المشاركة الفعلية في السلطة لكل القوميات علي قدم التساوي وفتح الباب للحلول السلمية من خلال ادوات الحوار السياسي الديمقراطي والا سوف ينذر بكارثة جديدة عاجلا او اجلا بالنسبة لاثيوبيا ودول القرن الأفريقي وخاصة أن نماذج الحروب الداخلية في الدولة الواحدة تقول ان السلطة التي تبدأ الحرب لا تستطيع إيقافها بسهولة واسكات صوت البندقية …
عبد العزيز أبو عاقلة
ديسمبر ٢٠٢٠
[email protected]