#هلأتاكحديث_الجنود؟(١-٥)

معاوية الشفيع

قصة في حلقات:

انا – الآن-عريس، أقضي شهر العسل في فندق فخم، -إن كان في السودان فندق يستحق رتبة”الفخامة”-، وذلك بمدينة”كسلا الوريفة، الشاربة من الطيبة ديمة”. رغم ذلك فأنا – وأصدقكم القول-لست سعيداً، وإن كان بينكم – يا من تقرؤوني-من يمنِّي النفس بسرد فرائحي، جميل، فليقلع عن ذلك فوراً، ثم يدخل تحت بطانيته، و”يتمطَّ، ينوم”، فالساعة قد جاوزت الثالثة صباحاً، بتوقيت”جبال التاكا”.
السبب في كوني،(لست سعيداً)، ليس عروستي الجميلة، المطواعة، فلا تقلقوا بشانها، وتشفقوا عليها، وإنما ذكراهُ التي دهمتني، عن توقع مني، وأنا – الآن-ادرك، – بعد فوات الأوان- ان قرار إلتزامي بالوفاء بما اتفقنا عليه-هو، وأنا- كان قراراً كارثياً. كنا قد اتفقنا، علي ان نتزوج في يوم واحد، كلٌّ في بلدته، ثم نلتقي هنا، في فندق هذه المدينة الكبير، في تاريخٍ محدد. كان ذلك قبل رحيله الفاجع، بموت صاخب، إذ أصابته في تلك الحرب-التي لا ناقة لنا فيها ولا عتود-دانةٌ، حوَّلته إلي أشلاء، (فرطقتو، حتة حتة.)، وكأنما كان يدعو الله، ولم يكن “يدوبي”، حين كان ينشد-باستمرار-:
ضاق بَيَّ الصبُر لامِن قرشت اللوبا
كِرهَنِّي البلاد، لا عِن جبال النوبة
يا جِبْنا مالاً، فرَّح أم زينوبة
يا مُتنا موتاً، لا كفن، لا طوبة
كنا جنوداً، متحمسين، في جيش البلاد (الوطني)، جمع بيننا العمل، فصرنا أصدقاء، الصداقة التي تعاهدنا ألا تنتهي أبداً، كان يقول لي: أنت، ك(أهل بدر)، إفعل ما شئت، فقد غفرت لك. فاقول له: ومن تظن نفسك؟! نبي؟؟. ثم نضحك. كان يحب الضحك، لكن ليس امام كل الناس، حيث يبدو صارماً، جاد القسمات. كان ينحدر من إحدي قري السودان، العامرة، حكي لي قصته، ذات ليلة، كنا فيها(سادِّين خدمة)، في منطقة عمليات عسكرية كئيبة، قال، – والليل يخفي إنفعالاته، والريح تذرو كلماته-:
— تعرف-يا دفعة-، أنا (اتيتَّمت) بدري، كان عمري تسعة سنوات، أبوي-الله يرحمو-كان مزارع، توفي شاباً، في “الحواشة”، ضربته، طائرة رش المحاصيل بالمبيد، فقتلته، كانوا – في ذلك الزمان-، يعلنون، عن “مواعيد الرش”، وكان يعلم بها، لكنه تذكر في اللحظات الاخيرة، ان لديه “عجل”، في الحواشة، وكان المزارعون يظنون ان مبيد الحشرات، يسمم الحشائش، لذلك خشي أبي، ان يرعي العجل، الحشيش المسموم، فجري لجلبه للمنزل، في نفس اللحظة التي كانت تمر فيها الطائرة بأكثر إرتفاعاتها، إنخفاضاً. وكان ما كان. كنا خمسة أطفال، اربعة من البنات، وأنا. كنت رابع الترتيب، ثلاث بنات يكبرنني، وتصغرني واحدة… “بلقيس”، كانت الكبري، كانت قد اكملت إمتحانات الشهادة السودانية، وفي انتظار النتيجة، عندما توفي أبي. نجحت بتفوق يؤهلها لدراسة الطب في أعرق جامعات البلد، ومجاناً، لكنها، -حتي- لم تقدم، لها، استخرجت شهادتها، وذهبت إلي (مكتب التعليم) وتعينت معلمة ابتدائي، في منطقتنا. هكذا نهضت بأعباء الاسرة في سن باكرة. “بلقيس” هي من شكلت نظرتي للمرأة، تلك النظرة المليئة، بالإعجاب والإحترام، الذي يقارب التقديس، لكنني-والحق يقال- لم اكف عن الإعتقاد، بأن المراة-مهما بلغت-تظل في حاجة، لحماية رجل. “بلقيس”، اشترطت علي كل من تقدم للزواج بها-وما أكثرهم-ان تظل معنا في القرية، وان تحتفظ بدخلها، لأسرتها، لنا. لا أطيل عليك تزوجت بلقيس من رجل وافق علي شروطها، ثم-بعد الزواج-، إنقلب علي عقبيه، قدم استقالة بإسمها من وزارة التربية، ومررها عبر صديق له هناك، فوجدت نفسها بلا عمل، ولا دخل، حتي كدنا أن نتضور جوعاً.. اكتشفت الأمر، فكان اول ما فعلته، هو ان طالبت زوجها بالطلاق، وعندما رفض، هددته باللجوء إلي المحكمة، ثم ناضلت من أجل حقها المنتهك، متهمةً زوجها وصديقه بالتزوير، وبعد سبعة اشهر كاملة، ساوموها بإعادتها للعمل مع صرف مرتبات الشهور السابقة، علي ان تضرب صفحاً عن قضيتي الطلاق والتزوير، فوافقت علي سحب قضية التزوير، لكنها اصرت علي الطلاق، فنالته، وعادت إلي بيتنا، ليست ملومةً، ولكنها – حتماً- محسورة…

“يتبع”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.