٩ طويلة : جدل توفير الأمن الانسانى بين المواطن المؤقت والمواطن المستقر

بقلم عثمان نواى

 

” الأمن الإنسانى او البشرى كما تعرفه الأمم المتحدة هو: التحرر من العوز، التحرر من الخوف، وحرية العيش بكرامة” . دليل الأمم المتحدة للامن البشرى.

ان تحليل ظاهرة “التسعة طويلة” او عمليات النهب باستخدام المواتر او غيرها من عمليات السرقة التى انتشرت مؤخرا فى الخرطوم من منظور الضغوط الاقتصادية والفوارق التاريخية للاستبعاد والاقصاء السياسى والاجتماعى لمجموعات كاملة في السودان له أهمية كبيرة في إيجاد حلول حقيقية لا تستدعي القمع الامنى فقط كحل عشوائي سلطوى وفقير الخيال وغير قادر على استيعاب مسببات الأزمة . حيث ان ضغوط الرسملة والانفتاح المستعجل إضافة الى النزاعات والقمع منذ الاستقلال والتى استمرت ما بعد الثورة زادت الخناق على المجتمع السودانى ودون حساسية كافية تجاه تراكمات الضغوط التاريخية على مجتمعات عاشت عقود دون اى نوع من الأمن، لا الغذائي ولا الأمن الاقتصادى ولا الأمن الاجتماعى اى فى حالة غياب كامل لاى من مكونات ” الأمن الإنسانى او البشرى ” كما تعرفه الأمم المتحدة بأنه ” التحرر من العوز، التحرر من الخوف، وحرية العيش بكرامة” .

لقد عاشت العديد من المجتمعات المنسية فى الظلال القاتمة للعاصمة والمدن الكبرى فى السودان لعقود طويلة تمتد لما بعد الاستقلال، وكان يمر افراد تلك المجتمعات فى شوارع الخرطوم وغيرها من المدن الكبرى كاشباح لا يشعر بوجودهم احد ولا يعنون شيئا لا للدولة ولا المجتمع. وكثير منهم يعيش ويموت دون أن يكون له اى ورقة ثبوتية تؤكد مواطنته. فعاشوا حالة ” مواطنة مؤقتة” فى الدولة السودانية ،يتم استدعائهم كمواطنيين عند الحاجة لهم كعمال مأجورين دون حقوق او مقاتلين دون ثمن لدمائهم او أثناء الثورات كجموع للهتاف وملء الشوارع بالكتل البشرية، بينما لا يعنون اى شيء بعد نجاح تلك الثورات، فهم ليسوا سوى أرقام واجساد شكلت جزء من لوحة ثورية “مؤقتة” تنتهى صلاحيتها بسقوط الأنظمة واعتلاء مجموعات معينة للسلطة. ويتم استدعائهم بعد ذلك فى فترات الديمقراطية القصيرة التى تعقب الثورات ” كمواطنيين مؤقتين” من أجل التصويت فى الانتخابات دون امتلاك حق اختيار حقيقي لمن يمثلهم فى السلطة، فهم ليسوا سوى ” نيجرز ،أو مشردين، أو نازحين، أو وافدين او… غيرها من الصفات الأسوأ التى تنزع حقهم فى الوجود كمواطنيين مكتملى الحقوق مما جعلهم غير موجودين من الأساس فى نظر السلطة فكيف سيكون لهم تمثيل فيها! ؟

فى ذات الوقت الذى عاشت فيه مجتمعات سودانية أخرى فى ظل وضعية ” مواطنة مستقرة وكاملة “. حيثت يضمن المجتمع الآمن بغذائه وبقراباته وصلاته الاجتماعية القوية بالسلطة حقوق المواطنة الكاملة ويضمن الوجود بشكل مستمر فى اولويات الدولة. حيث تهتم الدولة بداية بتوفير الأمن له من كل الجوانب، حتى وان فشلت احيانا، ولكنها تشعر على الاقل بالمسؤولية تجاه هذا المواطن المستقر وتخشي ردود فعله فى حال غياب وجود الأمن الغذائى او الأمن الاجتماعى حيث أدى ذلك الاهتمام الى تركيز الخدمات والأمن فى الخرطوم وبعض المدن بينما حرمت منها مناطق واسعة أخرى من السودان. مما ادى الى نزوح الملايين الى الخرطوم وبقية المدن الكبرى بحثا عن بعض حقوق المواطنة الكاملة من أمن وخدمات ،ولكن هؤلاء الملايين ظلوا مجرد “مواطنين مؤقتين” مثل مساكنهم المؤقتة واعمالهم المؤقتة ولم تسمح لهم الدولة ابدا فى زيادة اعبائها فى تحمل مسؤوليتهم كمواطنيين مستقرين مكتملى الحقوق. فاسقطتهم الدولة من حساباتها وتركتهم لمصائرهم يمارسون الحياة البائسة على حافة هاوية الموت، بين الجوع والمرض والجهل والخوف، منزوعى الحقوق المواطنية والكرامة الإنسانية .

ان استدعاء الحلول الأمنية فى محاولة مواجهة ظاهرة ٩ طويلة ،و النداء بحلول قمعية فقط من قبل مجموعات معينة وبل من بعض من المجموعات التى لها تأثير وسلطان اجتماعى وسياسي، و تعتبر نفسها متضررة او فى دائرة الخطر من هذه الظاهرة، هو مظهر آخر لحالة الانفصام داخل بنية المجتمع والدولة السودانية. حيث ينظر البعض الى السودان من خلال تجاربهم الحياتية الضيقة ودوائرهم الاجتماعية وصوالينهم المغلقة وشاشات موبيالاتهم وكمبويتراتهم. فالسودانيين بالنسبة لهؤلاء هم فقط من يصلون لحدود رؤتيهم والذين يلتقون بهم فى ذات الحفلات والمناسبات والكافيهات والندوات الاجتماعية او السياسية. أما خارج تلك الدوائر فلا يوجد بشر اساسا يشاركونهم تراب هذا البلد المشروخ وجدانيا.

من المؤسف ان السودان ظل يعيش خارج مفاهيم الأمن الإنسانى او البشرى بشكل كامل ، فحتى الأمن الذى تم توفيره سابقا لمجموعات ” المواطنين المستقرين” ، هو امن قاصر فقط على ممارسة سطلة العنف وليس أمن شامل للمفهوم الحديث للامن البشرى. حيث تم استخدام سلطة إستخدام العنف من الدولة لتحقيق أمن زائف “مؤقت” عبر استخدام عنف ممنهج ضد مجموعات واسعة من المجتمع وحرمانها من حقوقها فى المواطنة والأمن، من أجل توفير امن سطحى لمجموعات أخرى. حيث ان عدم فهم الأمن الاستراتيجي للدولة الذى يتطلب توفير انواع الأمن السبعة المشار إليها ادناه ، قد أدى ذلك بالبلاد للدخول فى نفق انعدام الأمن البشرى الذى تتوسع دائرته هذه الأيام، ليشعر بانعدام الأمن مجموعات كانت تظن انها آمنة فى ظل الأمن الزائف الذى وفرته لها دولة القمع والعنف خلال عقود طويلة. فقد شعرت بعض المجتمعات السودانية بالامن تحت حماية الدولة، بينما كانت تفر مجتمعات أخرى هاربة من عنف ذات الدولة بداية من الكشات وليس نهاية بقصف الطيران للمدنين. حيث ان عنف الدولة تجاه بعض مواطنيها لا يمكن ابدا ان ينتج الأمن على المدى الطويل، وأن حقق بعض الأمن لفترات مؤقتة لمجموعات معينة . ولكن تأثير ذلك العنف على الدولة ككل يستمر لعقود وما نراه الان هو جزء من ذلك الأثر. فالتجييش والسلاح المنتشر والتنزيح والفقر، إضافة الى سوء الأوضاع الإقتصادية الان لا يمكن أن ينتج سوى ٩ طويلة او ماهو اسوا منها مقبل الايام.

و يفتقد السودان الأمن البشرى بأنواعه السبعة حسب المعايير الدولية ولا يتوفر ذلك الأمن سوى لبعض المواطنين المستقرين بينما يعانى غياب الأمن البشرى المواطنين المؤقتين والشرائح الفقيرة من المواطنين المستقرين، بما يجعل الاغلبية الان خارج دائرة الأمن البشرى فى السودان. وأنواع الأمن البشرى السبعة التى يتوجب على الدولة توفيرها لتحقيق الأمن الاستراتيجي للدولة ولكل المواطنين هى :

الأمن الغذائي ويعني توفير الفرص المادية والمالية للحصول على الغذاء.

– الأمن الصحي ويعني الخلو النسبي من المرض والعدوى.

– الأمن البيئي ويعني الحصول على ما يكفي من الماء الصحي والهواء النظيف والشبكة الأرضية المتماسكة.

– الأمن الشخصي ويتضمن الأمن من العنف والتهديدات البدنية.

– الأمن المجتمعي ويتضمن أمن الهوية الثقافية.

– الأمن السياسي ويتضمن حماية الحقوق الأساسية للإنسان وحياته.

وفى ظل غياب الأمن البشرى لمعظم السودانين، واقتصار دور الدولة على لعب دور الشرطى وعدم الاهتمام بوضع رؤية أمنية استراتيجية شاملة لحل جذور الأزمات، فإن ٩ طويلة وغيرها من الظواهر الاجتماعية والامنية ستستمر وبل ستزداد. وسوف تظل المجموعات المتضررة تطالب بحلول أمنية سطحية تعودت عليها من دولة العنف والقمع، التى تستخدم سلطة العنف تلك لحماية القلة من المواطنين المستقرين باى وسيلة وان كانت استخدام العنف المفرط احيانا ضد مواطنين آخرين. هذا الانفصام فى تعامل الدولة السودانية مع مواطنيها، وغياب رؤيتها للامن الإنسانى من منظور استراتيجي سوف يقود البلاد الى سيناريوهات الفوضي الأمنية ولن يقود ابدا الى الأمان الذى يبحث عنه الجميع. لذلك الحل يكمن فى اتباع مفاهيم الأمن الإنسانى الشامل وتحقيق المساواة فى المواطنة فى منهج الدولة حيث أن الأمن الإنسانى لجميع المواطنين هو الضمان الوحيد لحماية الوطن والشعب السودانى باجمعه .
[email protected]

تعليق 1
  1. محمود ابكر يقول

    استشرت في قضية تخص ثلاثة فتية حكمت ضدهم محكمة جنايات أم درمان وسط وفق قانون الطوارئ بمصادرة المواتر وتغريم كل واحد منهم مبلغ ثلاثمائة ألف جنيه.
    بالرغم من هذا القرار المجحف لمحكمة في ظل حكومة الثورة
    لكن أرى أن هذا المقال يصلح تماما كتابته لدى محكمة الاستئناف ونتمنى من المحاكم الأعلى درجة مراجعة مثل هذه الأحكام المجحفة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.