الكاتب والصحافي الاستقصائي فتحي الضو: (1) غياب العدالة أعطى إحساساً للذين أمنوا العقوبة فأساءوا الأدب
حوار : مرتضى كوكو – مشاعر دراج
** برز في المشهد السوداني ككاتب وصحفي استقصائي لا يشق له غبار، استطاع إسقاط عرش الإخوان بـ3 كتب كشفت خبايا وأسرار التنظيم الظلامي.
إنه فتحي الضو الذي نحت اسمه بأحرف من نور في فضاءات النضال ضد الأنظمة الدكتاتورية، فدفع الثمن بالبقاء في منفى اختياري بعيداً عن دفء الوطن، ليعود إلى بلاده بمسيرة ظافرة وبعد عقود من الغياب.
جلسنا إلى الضو نقلب صفحاته النضالية، وأسرار تمكنه من اختراق أجهزة الأمن الرسمية والخفية التابعة للحركة الإسلامية السياسية، وضربها في مقتل عبر مؤلفاته الثلاثة ذائعة الصيت، “الخندق، بيت العنكبوت، الطاعون”.
يخلص فتحي الضو في المقابلة، إلى أن تنظيم الإخوان بمثابة أكذوبة كبرى، وعبارة عن “نمر من ورق” لضعفه، وأن هذه الجماعة ليس لها مستقبل في السودان أو البلدان الأخرى، نتيجة لحالة الكراهية العامة التي تشكلت ضد قوى ما يسمى بالإسلام السياسي.
وقال الضو: إن معلومات كتابه “الخندق” دولة الفساد والاستبداد، جاءته من طاولة مدير جهاز المخابرات شخصياً صلاح قوش، والذي وصفه بأنه رجل ساذج وهو “نمر من ورق”، وليس بحجم الهيبة التي حاول أن يصبغها حوله، مضيفاً: “لقد احتقرته لأنه وقع في أخطاء أدت لوصول معلومات خطيرة لي، لا يفعلها طفل مبتدئي”.
وشدد الصحفي المخضرم على أن الحركة الإسلامية إذا عرفت مصادره التي كانت تمده بالمعلومات ستموت كمداً، وتكتشف أنها كانت أكذوبة، معرباً عن سعادته التي جعلت هذا التنظيم يتساقط مثل أوراق الخريف.
وكشف الضو خلال الحوار عن معلومات جديدة حول اختراق نظام الإخوان، وكتاب جديد سوف يصدر قريباً تحت عنوان الطوطم (الصنم)، والذي يوثق للحركة الإسلامية السياسية كأكذوبة كبرى، كما تطرق للعديد من القضايا الخاصة بالثورة والانتقال، ومحاسبة رموز الإخوان. وإلى أهم ما جاء في الحوار:
عودة إلى الوطن بعد سنوات من المنفى الاختياري، صِف لنا شعورك وأنت في السودان بدون إخوان؟
في البدء أشكركم على هذا التواصل، سعيد وأتشرف بإجراء أول حوار مع وسيلة إعلامية عقب وصولي إلى أرض الوطن بعد غيبة طويلة. حقيقة شعور ممزوج بعدة مشاعر، فوجدت بنفسي خليطا بين السعادة والفرح والخوف والقلق، فعندما تجمع كل هذا سوف يعطيك الإحساس الحقيقي الذي أشعر به، خلاصته وجدت نفسي كما أولد من جديد، دفء المشاعر التي وجدتها تجعل هذه السنوات العجاف سواء على المستوى الشخصي أو الوطني تذوب كلها في لحظة تجلٍ.
عموما أنا سعيد بأن أكون وسط الناس، ورؤية الوطن الذي تشكل في مخيلتي بصورة معينة وأنا في قلب هذا الوطن.
* قضيت عُمرك في النضال ضد تنظيم الإخوان إلى أن سقط، إلى أي مدى أنت راضٍ عما حققه التغيير حتى الآن؟
هذا سؤال عريض، لكن في تقديري وباختصار شديد، إن كل ما حدث لم يلامس طموحات الثورة، وإن جاز لي تقييم الحكومة الانتقالية وأيضاً الدكتور عبدالله حمدوك طموحاته متواضعة، كان ينبغي أن يسعى الناس لسقف طموحاتهم، وهو سقف عال جداً يبلغ عنان السماء، فهذه الثورة عظيمة بكل المقاييس، ولا تشعر بعظمتها الحقيقية إلا عندما تكون خارج السودان أكثر من داخله، فبالداخل الأشخاص محاصرون بعدة تحديات، لكن في الخارج الصورة زاهية جداً بالنسبة للثورة، تشكلت في أذهان المجتمع الدولي على المستوى الرسمي والشعبي ومنظمات المجتمع المدني.
ثورة ديسمبر متميزة فكثير من الكتاب وضعوها في مصاف الثورات التاريخية المعروفة في المسيرة الإنسانية، فما كان ينبغي أن تكون بهذه الطموحات المتواضعة. هنالك من يحاول أن يجُر الثورة إلى مطالب بطينية، ولا يتذكر بأنها أسمى وأرفع من ذلك بكثير، الأشياء التي يتحدثون عنها صحيح هي معاناة ومآسٍ يعيشها المواطن بشكل يومي، لكن مهما تعاظمت وطال العهد بها فسوف تنجلي، لذلك أخشى عندما تنجلي نجد أنفسنا موجوعون بالقضايا الكبرى التي لم نستطع ملامستها حتى الآن.
للأسف الشديد، الناس لا يتذكرون أن من جملة 65 عاماً أعقبت استقلال السودان هنالك 52 عاماً دكتاتورية، ودائماً ينحصر التغيير في (التغيير السياسي)، فالدكتاتوريات لها تأثيرات كبرى أكثر من الحيز السياسي، والحديث عن ذلك يطول لأنه أُس المشكلة التي نعيشها الآن. حتى في المشكلة الحالية بعض الناس يحصرون التقييم في مسيرة عامين وبضعة أشهر وهو أبعد من ذلك بكثير.
* ما تقييمك لمستوى وصول العدالة إلى منسوبي الإخوان حتى اللحظة مقارنة بالجرائم التي ارتكبوها؟
كان ينبغي لنا أن نحترم الشعار الخالد للثورة (حرية، سلام، عدالة)، فالشعارات ليست أهازيج تردد، إنما هي برنامج عمل، يتضمن الضلع الثالث العدالة. حقيقة ليس من باب التجني على الحكومة الانتقالية، ولكن حتى الآن العدالة غائبة وتحتاج إلى من يرفع بيدها، قد تكون هناك أسباب يذكرها البعض في تبرير وتفسير غياب العدالة، لكن في تقديري كان ينبغي أن تولى العناية الكافية.
غياب العدالة أعطى إحساساً للذين أمنوا العقوبة فأساءوا الأدب، فالذي أساء الأدب لا يمكن أن تتعامل معه باحترام، لأنه أساء إلى نفسه وللأمة العظيمة، وذلك لن يتم إلا بتفعيل العدالة، نحن لا ننادي بالإقصاء الذي كان يتبعه (الإخوان) في فترة التمكين، لكن المعلوم والطبيعي في التاريخ الإنساني أن الثورات أساساً تندلع لتقصي، تقصي الفاسدين والمجرمين وكل الفئات في المجتمع التي ليست لها علاقة بالثورة.
من المفارقات الغريبة أن ينسى الناس نظام الإخوان البائد عندما صعد إلى السلطة بانقلاب عسكري في 30 يونيو 1989، أذاع ما يسمى البيان رقم 1 الساعة التاسعة صباحاً (بالتوقيت المحلي)، وفي تمام الساعة العاشرة صباحاً أي بعد ساعة واحدة، أصدر ما يسمى المرسوم الدستوري الأول، والذي جمع كل الموبقات التي مُورست على مدى 30 عاماً، إذ حوى ما يسمى بالفصل للصالح العام، حل الأحزاب والاتحادات والنقابات، وحل كل شيء ما عدا وجودهم في سدة السلطة.
حدث كل ذلك بعد ساعة واحدة من الإنقلاب، والآن بعد عامين من نجاح الثورة يتحدث الناس عن ضرورة تنظيف الساحة السودانية من فلول الإخوان، هم يجأرون بالشكوى كأنهم لم يرتكبوا تلك الموبقات، وللأسف الشديد هناك من يسمع لشكواهم، وما كان ينبغي أن يسمع لهم أساساً، وأن تمضي الثورة في خطها الطبيعي لا تلوي على شيء.
وفي تقديري غياب العدالة أدى إلى تعقيدات كثيرة جداً، ولن يستقيم حال الثورة ما لم تعدل مسيرة العدالة؛ الضلع الثالث من شعارات الثورة.
* هل تتفق مع ما ذهب إليه البعض بأن قوى الثورة أضاعت فرصة تاريخية باستغلال شرعيتها واجتثاث الإخوان بضربة واحدة؟
طبعاً هما مدرستان، الأولى كان ينبغي أن يذهب الحس الثوري إلى مداه، ذلك شأن الثورات، فأي ثورة تتبع هدى شعاراتها، إلى أن تصل للغاية المطلوبة. حقيقة حدثت ملابسات ظرفية وقدرية أدت إلى تعقيد المشهد السياسي برمته، فهذه الملابسات محصورة في وضعية المجلس العسكري، الذي كان حتى الدقيقة الأخيرة للتغيير في خندق النظام البائد، وطبيعي جداً لا يمكن أن تغير جلدك بين دقيقة وأخرى.
* مقارنة بجرائهم ما العقاب الذي يستحقه الإخوان؟
كما ذكرت، هم أساءوا الأدب، أعتقد أن هذه الكلمة مع مرارتها، تشكل التوصيف الحقيقي لأزلام الحركة الإسلامية، ولن تجد المسيرة الحالية للعدالة توازي طموحات الشارع السوداني، ما زال البون شاسعاً بين الواقع الذي يعيشه الناس، وبين ما كان يفترض أن يتم من محاكمات ناجزة، تجعل هؤلاء المفسدين لا يتباهون بالسير وسط المجتمع بمنتهى العنجهية.
* لديك 3 كتب على الأقل (الخندق، بيت العنكبوت، الطاعون) كشفت أدق أسرار تنظيم الإخوان وجرائمه، كيف استطعت اختراق هذا التنظيم الذي ظل يباهي بسرية عمله التنظيمي؟
الصورة بدأت تتشكل لدي قبل انقلاب الحركة الإسلامية، فمن قناعتي الشخصية، أن بلداً بهذا التنوع الثقافي مثل السودان لا يمكن أن يُحكم بعقلية انفرادية، هذا البلد ربنا حباه بتنوع ثقافي نادر على مستوى الإنسانية، هناك دول تصنع التنوع صناعة، كالبلد الذي أعيش فيه (الولايات المتحدة الأمريكية) وأوروبا، كندا، لكن في السودان التنوع طبيعي وبثراء عجيب، ولكن للأسف الشديد فشلت هذه النخب السودانية في إدارة هذا التنوع، مما أدى لتعثر الدولة، وفشل ذريع لهذه النخب التي إذا أحسنت إدارة التنوع، كان يمكن للسودان أن يتبوأ مكانة عظمى.
موقفي مبدئي مما يسمى بالحركة الإسلامية، لا أقول عداء ولكن آليت على نفسي ما استطعت، أن أسخر إمكاناتي للوقوف ضد هذا التيار حتى يستعيد السودان عافيته، فظللت في نقد مستمر ودائم للحركة الإسلامية حتى قبل صعودها للسلطة، ودوما كنت أنبه الناس أن هذه الحركة خطر على السودان إلى أن حدث الانقلاب المشؤوم.
على المستوى الشخصي، استمررت في مسيرتي التي آليتها على نفسي بتأليف هذه الكتب، فأنا مهتم بالتوثيق وليس الممارسات الأمنية وليس لي بها غرام، اهتمامي بالتوثيق لأني أعتقد أنها واحدة من مآسينا، أن الذاكرة السودانية غارقة فيما يسمى بالذاكرة الغربالية (نسبة إلى الغربال)، فذاكرتنا ضعيفة لدرجة أن كثيراً من الأحداث والوقائع المهمة تخرج عبر ثقوب الغربال، لهذا ظللنا نعيد في المشكلات التي نعيشها منذ الاستقلال، كما تعلمون هناك ما يسمى بالدائرة الشريرة، انقلاب عسكري، ديمقراطية، ثورة شعبية ثم ديمقراطية معطوبة وتعاد الصورة المألوفة ببلادنا.
اهتمامي بالتوثيق لحد كبير أرضى قناعاتي، ولكن لم يحقق طموحاتي في تمديد هذا الاهتمام حتى يكون هاجساً من هواجس المواطن السوداني، وهذا كان مدخلي في الصحافة الاستقصائية، ومن ثم حدث التحول في كتب نحو الاهتمام بالنواحي الأمنية.
* إذاً كيف استطعت اختراق أجهزة الأمن لتنظيم الإخوان الإرهابي؟
في الواقع أنا ممتن لكل مصادري، وهي متنوعة ومتفرقة وليست مصدرا واحدا، فالكتاب الأول الخندق كان مهتما بالأمن الرسمي، وبيت العنكبوت يختص بالأمن الشعبي، والطاعون متعلق بالأمن الرسمي بعدما حدثت فيه تحولات، فهم سبب وصولي لكل هذه المعلومات.
المصادر قادت نفسها بنفسها، الكتاب الأول، الخندق قدمت كل الضمانات التي يحتاج لها أي مصدر، أهمها المصداقية، والأمر كان يحتاج إلى مخاطرة، لأن النظام الحاكم باطش، واهتماماته بالنواحي الأمنية تفوق كل شيء لدرجة أنه خصص 70% من ميزانية الدولة في ثرائها وفقرها وعلى مدى 30 عاماً لصالح قطاع الأمن والدفاع، مقابل 10.4% تذهب للصحة والتعليم، إجحاف.
كان تحدياً بالنسبة لي أن أخترق هذه الدائرة، وشعرت على المستوى الشخصي إذا استطعت أن تهز جزع الشجرة الأمنية، فسيتساقط عليك النظام كأنه (نمر من ورق)، بالضبط هذا الشعور الذي لازمني عندما ألفت كتاب الخندق.
* هناك من يرجح أن مصادرك من داخل أجهزة أمن الإخوان، ما تعليقك؟
أود توضيح شيء مهم جداً، في إحدى المقابلات عقب الثورة من الذين يقرأون قراءة عجلى فسروا كلمة ذكرتها، سُئلت في المقابلة عن مصادري، وقلت إن الخندق كان مصدري فيه صلاح قوش، وإذا أحسنوا القراءة لفهموا، لأني في المقابلة نفسهاقلت إنني لم أقابل قوش في حياتي، فبالتالي لا يمكن أن يكون هو مصدري، ولكن الحقيقة هي أن مادة الكتاب جاءت منه شخصياً ومن طاولته، فهي لم تأت من مدير مكتبه ولا من جندي المراسلة، مع احترامي للمهنة ولا من ضابط في الأمن.
مادة كتاب الخندق أتتني من صلاح قوش شخصياً، وأنا تعجبت خاصة في ظل الهيبة التي أحيطت به، لكنه رجل في منتهى السذاجة ما جعلني أحتقره، فهو ليس بهذا الجبروت، لكنه محتمٍ بقوة النظام، فمعارفه متواضعة، لأن الأخطاء التي وقع بها وأدت إلى أن أتحصل على هذه المعلومات، لا يقع بها طفل، فهي هزت جهاز الأمن، وقوش شخصياً، وأدت إلى تغييرات فيما بعد بجهاز الأمن، قد لا تكون معلومات الخندق سبباً وحيداً لكنها كانت أحد أسباب التعديلات.
نقلا عن العين الإخبارية