الطبيب والإنسان والخل الوفي

بقلم: أحمد المعتز

 

ارتبطت مهنة الطب تاريخيًا بالأنسنة بحكم ارتباطها بالشفاء والاستشفاء ورفع العبء عن كاهل المرضى بتسكين الألم وتشخيص المرض ثم علاجه.. لكن الطبابة مثلها مثل ثائر المهن لم تكن يومًا معزولة عن المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع البشري فهي تؤثر و تتأثر بالمحيط. ومن المؤكد أن تسليع مهنة الطب وتحويل المستشفيات إلى مناجم تنتج المال الوفير مقابل تقديم العلاج إلى المرضى القادرين على دفع تكاليفه الباهظة أظهرت الفوارق الطبقية الحادة على المستوى الاجتماعي وما نتج بعد ذلك من تغول للقطاع الصحي الخاص على سياسات المنظومة الصحية بأكملها ليلتف حبل المعاناة اليومية حول عنق الذين يعيشون على هامش الحياة حول المدن وفي الأرياف. وفي خضم حالة الاختلاط المفاهيمي وفوضى الأهداف والمنطلقات برزت أسماء في سماء الطب أبت قيمها الإنسانية عليها إلا أن تقاتل جنبًا إلى جنب مع الضعيف والمستضعف ضد شظف العيش مؤمنة بأن الحق في العيش بكرامة قيمة مشتركة للجنس البشري لا يجب أن تكون موضع تفاوض وتنازلات بل هي بداهة متضمنة في الفطرة السليمة لكل حر. على امتداد المعمورة كان هناك من الأطباء من لا يلتحف إلا قناعاته سنستعرض أعمال بعضهم.. بعض الذين أسمعت أعمالهم من به الصمم ونظر الأعمى إلى حسن فعالهم. في الخامس من أغسطس 2020 نعت القارة السمراء ابنتها البارة الطبيبة والناشطة الحقوقية والمجتمعية حواء عبدي عن عمر يناهز ال 73 عاما.. حواء المولودة بمقديشو في 1947 تلقت معظم مراحلها التعليمية قبل أن تشد الرحال إلى كييف لدراسة الطب وعادت إلى بلادها لتكون أول أخصائية نساء و توليد أنشأت مراكز طبية خيرية لمساعدة المحتاجين ولم توقف الحرب الأهلية مشروعها ولا تهديدات الأصوليين بإغلاق مركز نشاطها. المستشفى الخيري الذي أسسته على أرض عائلتها ببدايات متواضعة عام 1983 تطور واتسع ليكون الملاذ الآمن لآلاف الصوماليين إبَّان الحرب الأهلية والجفاف الذي ضرب الصومال في 2011. نالت حواء عبدي العديد من جوائز التكريم من عدة مؤسسات دولية ومنحتها جامعه هارفرد الدكتوراه الفخرية كما رشحت مع ابنتيها قودن وأمينة لنيل جائزة نوبل للسلام. في يوليو 2020 ضجت وسائط التواصل الاجتماعي بنبأ رحيل طبيب الفقراء محمد مشالي.. وهو طبيب مصري ظل لمدة 50 عامًا يعالج الفقراء بمبالغ رمزية ولم يزد أجره عن العشر جنيهات حتى وفاته، مشالي نذر علمه لخدمة المرضى بعد أن رأى بعينه معاناة الفقراء في الحصول على العلاج وبعد أن أوصاه والده بأن لا يفسد أخلاقيات مهنة الطب بالجشع. الملفت للنظر أن وسائل الإعلام تعاملت مع تلك النزعة الإنسانية كشيء استثنائي يندر حدوثه فالطبيب الإنسان أصبح ينظر إليه كالغول والعنقاء والخل الوفي، كائن اسطوري لا يوجد إلا في الحكايات والأساطير وهو أمر تتم صناعته لصالح معايير وقيم أخلاقية أخرى تبشر بانتصار الرأسمالية الحاسم و نهاية التاريخ حسب تعبير فوكوياما.. الطبيب الهندي مانوج كومار كان يعمل كاستشاري للأمراض النفسية بالمملكة المتحدة، قرر العودة إلى الهند وإنشاء منظمة طوعية خيريه تعمل في مجال رعاية مرضى الأمراض النفسية في الريف وفي المناطق التي يتوفر فيها أطباء اخصائيين في هذا المجال. وفي شوارع مدينة بونا بوسط الهند يعالج الطبيب أبيجيت سنوان المشردين والمتسولين دون أجر بل ويدعم المشاريع الصغيرة التي تساعد المتسولين على إيجاد فرص للعمل والعيش الكريم نزعه الأنسنة في سلوك الأفراد قد ترتبط بعوامل التنشئة والخلفيات المرجعية من قيم روحية وأعراف اجتماعية وعوامل ذاتية نابعة من الأفراد أنفسهم لكن من المؤكد أن لتلك النزعة جذورها الفلسفية والتاريخ البشري يؤكد أنها كانت موضع بحث الكثير من الفلاسفة منهم ابو حسان التوحيدي وابن مسكويه والفارابي وإذا استعرضنا ما ذكره ابو حيان التوحيدي في التهذيب والأخلاق وما توصل إليه أبراهام ماسلو بعد بحث طويل سنجد تشابهًا لا تخطئه العين، فلقد ذكر ابو حيان التوحيدي في كتاب التهذيب والأخلاق :ينبغي أن نعلم أن كل إنسان معد لفضيلة فهو إليها أقرب وبالوصول إليها أدرى وبذلك لا تصير سعادة الواحد من الناس غير سعادة الآخر إلا من اتفقت له نفس صافية وطبيعة فائقة فينتهي إلى غايات الأمور وإلى غاية غاياتها، أعني السعادة القصوى التي لا سعادة بعدها (تهذيب الأخلاق ص 84). أما عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو فقد وجد في إشباع الحاجات المادية دافعاً إلى الترقي لإشباع ما هو أسمى، كتب ماسلو: تحقيق الذات لا يجب أن يفهم في حدود الحاجه إلى تحقيق أقصى قدره أو مهارة أو نجاح بالمعنى الشخصي المحدود وإنما هو يشمل تحقيق حاجه الذات إلى السعي نحو قيم وغايات عليا مثل الكشف عن الحقيقة وخلق الجمال وتحقيق النظام وتأكيد العدل. انتهى كلام ماسلو.. بالنظر إلى قسم أبقراط الذي يقسم عليه الأطباء إيذانًا ببدء حياتهم العملية، يتضمن القسم الحفاظ على طهارة المهنة والكثير من القيم التي تؤكد على قدسية وخصوصية المهنة.. هذا القسم صنع في اليونان.. لنا عشم كبير أن رمضان (أبقراط) سيكون أحلى في السودان.. يوما ما.

____
الميدان 3828،، الخميس 19 أغسطس 2021م

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.