صحيفة اليوم التالي وعقدة التفكير بعقلية نخاس الرقيق

د. محمد جلال أحمد هاشم

 

جاء في صحيفة اليوم التالي (19 أغسطس 2021) وفي المينشيت ما يلي: إبعاد محمد جلال هاشم من وفد الحركة المفاوض. وبالطبع، توالت الأسئلة من الأصدقاء يتساءلون عن صحة هذا الخبر الذي أحالت الصحيفة مصادره إلى “شخصيات مطلعة”، دون تسميتها، كما لو أن هذا الخبر من قبيل تلك الأخبار التي يمسُّ تسريبُها الأمن القومي، مما يُضطرُّ معه الصحفيون للتستر على أسماء مصادرهم.
وبالطبع، أيضاً، كان ردي للأصدقاء هو أنني أول مرة أسمع بهذا الخبر. ثم كنت أردف لهم بأن الوفد نفسه في إجازة، وبخلاف 8 أعضاء فقط، أنا واحد منهم، غادر جميع أعضاء الوفد إلى الأراضي المحررة قبل شهر ونصف لحضور اجتماع مجلس التحرير ولم يعودوا حتى الان. ولا أحد حتى الآن يعرف موعد انعقاد المفاوضات.

التفكير بعقلية نخَّاس الرقيق
يا أصدقائي، بخصوص ما أوردته الصحيفة، فهذا هو ما ظللت أكتب عنه وأتكلم لسنوات، وهو ما أسميناه عقدة “التفكير بعقلية نخاس الرقيق”. فهذا التبرير الذي أوردته الصحيفة يفترض في الأساس أن الحركة الشعبية لا تملك قرارها لدرجة أن يأتي شخص متحالف معها كيما يقودها في اتجاه هي لا ترغب في الذهاب إليه. هذا النمط من التفكير ينظر أساسا إلى أهالي جبال النوبة والنيل الأزرق على أنهم مجرد عبيد لا يملكون الحق، أو حتى القدرة، على تحديد ما يريدونه، ذلك لأنهم لا يملكون أي قدرات ذهنية وعقلية. ولهذا هم دائما يحتاجون لشخص (أو أشخاص) من الشمال النيلي كيما يقوموا بواجب التفكير والقيادة. هذه العقدة/العقلية هي البنت الشرعية للأيديولوجيا الإسلاموعروبية التي، حقيقةً، تُمسك برقاب العديد من القطاعات الاجتماعية في السودان، لكن بصورة خاصة الوسط والشمال النيلي. وقد يبلغ سُعار هذه العقدة/العقلية درجة أقرب إلى الجنون؛ فهؤلاء القلة من الشماليين النيليين الذين نجحوا في تحرير أنفسهم من رِبْقة الأيديولوجيا الإسلاموعروبية وآبوا إلى هويتهم الأفريقية السوداء، ما جعلهم ينحازون لمعسكر المهمشين، ينظر إليهم الملتاثون من ضحايا عقدة/عقلية نخَّاس الرقيق على أنهم خونة، ولهذا ينفثون عليهم زُعاف حقدهم وكراهيتهم. وما دروا أنهم لا يكرهون إلا أنفسهم. فهؤلاء هم كارهو ذواتِهم self-haters. هؤلاء هم الأفارقة السوء المستعربون الذين لا يكرهون شيئا كما يكرهون أفريقيا السوداء. ولا يكره نفسه إلا ملتاث ذهبت بعقله وقلبه العُقد.
وقد تعامل هؤلاء الملتاثون بنفس هذه الطريقة مع بعض الشماليين النيليين في الحركة الشعبية في زمن الراحل جون قرنق. وكان هجومهم مركزا على الراحل منصور خالد تحديدا، وهو بالمناسبة صاحب تعبير “التفكير بعقلية نخاس الرقيق” واستخدمها في “ونسة” شخصية معي بجوبا في شهر أكتوبر من عام 2007م، تحديدا في وصف ما رآه على أنه تهجمات من عبدالله علي ابراهيم عليه. فقد كان رأي منصور أن عبدالله لم يتمكن من أن ينظر إلى جون قرنق كشخص له قدراته الفكرية والسياسية على قدم المساواة مع الشماليين، هذا إن لم يكن أعلى منهم. فقد نظر إليه بوصفه مجرد “عبد” دينكاوي لا يفقه شيئا ولا يمكن تصور أنه هو الذي يقف خلف مشروع السودان الجديد. وعليه، لا بد أن هناك شخصية شمالية نيلية هي التي تقف خلف هذا المشروع الفكري والسياسي الضخم. ثم نظر حوله فوجد منصور خالد فكان أن تصور أنه قد وقع على ضالته حيث قرر أن يوجه سهامه نحو الفيل (منصور)، متجاوزا لظله (قرنق). فنسبةً لاستحكام عقدة التفكير بعقلية نخاس الرقيق، بحسب رأى منصور خالد، عجز عبدالله علي إبراهيم كليَّةً عن أن ينظر إلى جون قرنق كإنسان مكتمل الأهلية لقيادة حركة تحرير في مقام الحركة الشعبية؛ فلا تعليم جون قرنق الجامعي في جامعة دار السلام بتنزانيا، وتتلمذه شخصيا على يد أحد أعظم مفكري التحرير في العالم وأفريقيا (والتر رودني)، ولا دراسته فوق الجامعية في أمريكا ونيله درجة الدكتوراة، ولا مجمل خبرته العسكرية والإنسانية بصورة عامة، ساعدت عبدالله علي إبراهيم ليتحرر من عقدة التفكير بعقلية نخاس الرقيق. وقد أمسكت بخناقه لدرجة تسويد الصحائف في منصور، انطلاقا من قناعته الظاهرية بأن منصور خالد قد أصبح يشكل خطرا يهدد السلم الاجتماعي في السودان (بحسب تعبير عبدالله علي ابراهيم). هذا بينما دوافعه ليست سوى عقدة اجتماعية، وما هدد سِلمَه الاجتماعي حقيقةً هو الحركة الشعبية تحت قيادة جون قرنق ورفاقه الجنوبيين الغر الميامين. هذا ما كان من رأى منصور خالد، مجترح تعبير “التفكير بعقلية نخاس الرقيق”، في عبدالله علي إبراهيم.
واليوم، وقد انفصل الجنوب، وعادت حليمة إلى قديمها بدفع الحركة الشعبية لحشرها داخل حذاء المنطقتين، تمهيدا لفصلهما، برز إلى سطح الكتابة الملتاثون المصابون بعقدة التفكير بعقلية نخاس الرقيق الذين لا يرون في عبد العزيز الحلو وعمار آمون وأماني موسى وكوكو جقدول وأنس البدري، وصلاح شعبان، وويبيل جبرين وعادل شالوكا وحبيبة يوسف وأبكر آدم إسماعيل وصديق سلطان وكل باقي الرفيقات والرفاق في جبال النوبة والنيل الأزرق أي شئ من مخايل التفكير والعقلنة السوية، كباقي البشرية، ذلك لأن هؤلاء العنصريين الملتاثين ينظرون إليهم على أنهم مجرد عبيد، ليس إلا. فلا جامعة الخرطوم (كلية الاقتصاد) التي تخرج فيها عبد العزيز الحلو قد ساعدتهم ليروا بعقولهم (لا بعقدهم) ما خصه الله به من القدرات الفكرية والسياسية والقيادية، ولا شفعت لهم سنوات عمله كأحد كبار الموظفين بالإدارة المركزية في الخرطوم حتي يتحرروا من عقدهم. وكذلك لم تشفع لهؤلاء المرضى نفسيَّاً شهادات جامعة الخرطوم التي تخرج فيها كوكو جقدول وأبكر آدم إسماعيل وعادل شالوكا (وغيرهم كثر) حتى يساعدوا أنفسهم ليتحرروا من عقدة التفكير بعقلية نخاس الرقيق.
أما بالعودة لموضوع عضويتي في وفد الحركة التفاوضي، فليعلم هؤلاء الملتاثون الذين يعيشون حياتهم بعقدهم المرضية، لا بعقولهم ولا بقلوبهم، إذ ران عليها ما ران، أن مواقف الحركة الشعبية في المفاوضات لا تصنعها القيادات، بل مواقف الجماهير والشعوب التي على أرضيتها الصلبة تقف الحركة الشعبية. وما دور القيادات إلا التعبير عن هذه المواقف والدفاع عنها. فلا عبد العزيز الحلو ولا جوزيف تُكَّة ولا جقود مكوار ولا عمار آمون ولا غيرهم (دع عنك محمد جلال أو منصور خالد أو محمد يوسف مصطفى أو خلافهم) يمكنهم أن يقودوا هذه الجماهير وشعوب السودان الجديد إذا هم تنكَّبوا عن سواء السبيل وحادوا عن خط النضال الذي روته دماء الشهداء. على هؤلاء الملتاثين الذين يفكرون بعقلية نخاس الرقيق أن يشغِّلوا عقولهم ولو لمرة واحدة (إذا كان ذلك في الإمكان) ثم بعدها فلتعُد عقولُهم إلى سباتها. فقد شهد شهر أكتوبر من عام 2017م كيف انعقد المؤتمر الاستثنائي العام للحركة وفيها تم تحرير الحركة من رئيسها وأمينها العام وقتها، ذلك لتنكُّبهم سواء السبيل. فهل كان ذلك أيضا من تدبير بعض منسوبي الحركة من أبناء الشمال النيلي؟
وليعلموا تماما أن عضويتي بوفد التفاوض ليست بذات خطر، لا لوفد الحركة الشعبية، ولا لمن يجلسون في طاولة المفاوضات المقابلة لوفد الحركة. وليعلموا أنني ومعي أخي وصديقي الرفيق محمد يوسف أحمد المصطفي (وهو متواجد في الخرطوم الآن) الذين قدنا الخط المرِن في جولات التفاوض الأولى، وتلك فرصة تاريخية أضاعها وفد الحكومة ولا يزالون يتباكون عليها حتى الآن (وكم وكم شرحت هذه النقطة بكل التفاصيل، عبر المحاضرات والكتابة، لكن “مين يقنع الحبَّة”؟). إلا أن ما يجب على الجميع أن يعلموه جيدا (هنا لا نعني هؤلاء الملتاثين بأي حال من الأحوال)، هو أن المفاوضين لا يصنعون مواقف التفاوض. فمواقف التفاوض تُصنع خارج طاولة التفاوض، بما في ذلك هامش التنازلات. وما يقوم به المفاوضون هو الدفاع عن هذه المواقف والمناورة، بالاستفادة من هامش التنازلات. ويكمن فن علم التفاوض في أن المفاوض غير المدرَّب وعديم الخبرة، عادةً ما تنبهم في وجهه المسالك ويتوه أثناء عملية التفاوض عن مشارعها الذلولة. فعملية التفاوض تحتاج إلى قدرات ضخمة في استحضار مجمل تفاصيل الموقف التفاوضي، ما يجري التباحث حولها، وما تنتظر دورها. وهذا ما يستدعي أن يكون وفد التفاوض متماسك العضوية، حيث لا يتم تغيير الأعضاء إلا استثناءً. وللحركة الشعبية خبرة طويلة في دروب المفاوضات، وهي في غنيً عن أن يأتي من أقصى المدينة رجلٌ ليقودهم وهو ليس بعضو في الحركة، بل مجرد حليف ويقود تنظيما سياسيا صغيرا في حجمه بدرجة لا تقاس إذا ما قورن بتنظيم الحركة الشعبية.

MJH
جوبا – 19 أغسطس 2021م

تعليق 1
  1. نورين أحمد كبير يقول

    ليتم يعلمون
    أنهم أعلى مقاما مما يلهسون للوصول اليه
    لكنهم بتغييب وعيهم ادمنو الصعود الى اسفل والانحناء

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.