خطيئة الحوكمة وذبح الاقتصاد باسم السلام:

معتصم أقرع

 

خطيئة الحوكمة:

عندما تولت هذه الحكومة زمام الأمور، قلنا لها عبر كل القنوات المتاحة أن أهم مشكلة تواجه الوطن هي معدلات التضخم المرتفعة وانه يجب تبني توجه يقوم علي ان ترويض التضخم هو أولوية قصوى من صميم الأمن القومي بناء علي ثلاثة أسباب:

– إن ترويض التضخم شرط مسبق ملزم لنجاح أي إصلاحات اقتصادية. بدون السيطرة على التضخم، جميع الجهود المبذولة لتحسين الاقتصاد في مقام الحرث في البحر المحكوم عليه بالفشل المسبق والمؤكد.

– يؤدي التضخم إلى تآكل الدخل الحقيقي للمواطنين وزيادة معدلات الفقر وتعميق وقعه. علاوة على ذلك، فإن تأثير الفقر علي الشرائح الاجتماعية الأضعف أعلى من تأثيره علي الشرائح الأخرى.

– يقود استمرار التضخم إلى تآكل الدعم السياسي للحكومة ويفتح الباب لمزيد من الاضطرابات الاجتماعية والتشرذم السياسي والانهيار الأمني ويضع مصير الوطن في مهب الريح. الاقتصاد هو عصب السياسة.

لكن بدلاً من محاربة التضخم، فقد فاقمته هذه الحكومة وزادت الطين بلة.

وحين شرعت الحكومة في منتصف العام في رفع المرتبات بدون موارد حقيقية اشاد معظم المعلقين بالقرار وأيدت جميع أطراف الحكم والاحزاب الزيادة سواء علنا أو بالتزام الصمت إلا أنني اختلفت مع القرار من يومه الأول بأقسى الكلمات بحجة انه سوف يشعل نيران التضخم الفالتة اصلا.

وللأسف سكت كبار اقتصاديي الدولة من مستشارين ومدراء وتباهي الوزراء بأن زيادة الرواتب هي أحد الإنجازات العظيمة لحكومة الثورة. ولكن بعد سبعة أشهر أجبرت وزارة المالية علي الاقرار بـما ظللنا نردده طوال الوقت من أن الزيادة الممولة بطباعة النقود هي نقيصة لموظفي الخدمة المدنية واهلاك للاقتصاد الوطني.

فقد ورد في وثيقة الحكومة المعنونة “أسس و قواعد إعداد الموازنة العامة للعام المالي 2021″, الصادرة من وزارة المالية ان “الزيادة الكبيرة في تعويضات العاملين ترتب عليها تحقيق عجز جاري كبير و لم تفلح في إزالة مفارقات الأجور و أدت إلى ظهور تشوهات هيكلية.”

في عام 2020 ، كان التضخم في كل شهر أعلى من الشهر السابق كما يوضح الرسم البياني أدناه. لذا بدلاً من معالجة المشكلة ، فقد ضاعفتها حكومة الثورة ولا تستطيع ان تلقي باللوم علي نظام الإنقاذ فيما يتعلق بارتفاع الأسعار في 2020.

في أكتوبر 2020 ، بلغ التضخم 230٪. ومع ذلك فإن وزارة المالية تقول في وثيقتها الجديدة المعنونة “أسس و قواعد إعداد الموازنة العامة العـام المالـي 2021م ” أن التضخم لعام 2020 بأكمله سيكون في حدود 128 في المائة ، وهذا الرقم يبدو بأنه مبالغ في صغره.

تكرر هذه الحكومة خطيئة كل الدكتاتوريات السابقة وتعيد انتاج هيمنة المساومات السياسية علي الاقتصاد في أسوأ صورها. بمعنى أن الحكومة تتخذ قرارات كبيرة مدفوعة باعتبارات سياسية قصيرة النظر وبدون ان تدرس ما يترتب علي هذه القرارات اقتصاديا وهذا من أسوأ أنواع الحوكمة.

الحكم الرشيد يدرس الآثار الاقتصادية لأي قرار سياسي ويستصحبها ولا يقفز فوقها. ولكن بدلا من ذلك فإن هذه الحكومة تتخذ قرارات بدوافع سياسية ثم تفرض علي السياسة الاقتصادية ان تتكيف مع خياراتها السياسية قصيرة النظر في حين أن الحكم الرشيد يستدعي ان يتكيف القرار السياسي مع حقائق الاقتصاد، لا العكس.

ذبح الاقتصاد باسم السلام:

رغم ان احد اهم اسباب انهيار الاقتصاد وانغلاق آفاق السياسة السودانية هو هيمنة المناورات السياسية علي حقائق الاقتصاد وان الحكم الرشيد يقوم علي تكييف القرار السياسي مع حقائق الاقتصاد, ولكن ما يحدث في أرض الواقع ان من يملك مقاليد الحكم يتخذ قرارات بدوافع سياسية ثم يفرض علي السياسة الاقتصادية أن تتكيف مع قراراته التي اتخذها بدون دراسة مآلاتها الاقتصادية.

ان طغيان السياسي وسيادته علي منطق الاقتصاد هو أحد اهم محاور فشل الحوكمة المزمن العابر للنظم والأزمنة. وفي صحافة اليوم تبرع القيادي بقوى الحرية والتغيير عادل خلف الله بتوفير مثال توضيحي بليغ علي ما ذهبنا إليه من خطيئة الحكم بـهيمنة السياسي علي أرقام الاقتصاد.

فقد أوضح السيد عادل خلف الله ان الحكومة المرتقبة سترفع عدد الوزارات الِي 26 وأقر بأن عدد الوزارات كبير وسيزيد الانفاق [ وبالتالي يعمق من كارثة التمويل بطبع العملة ويفاقم من معدلات التضخم وانهيار سعر الصرف].

وقال عادل “اعترضنا على ذلك داخل الاجتماعات وطالبنا ب13وزارة فقط ولكن تم تغليب رأي الأغلبية”. ولكنه عاد ليبرر القفز فوق منطق الاقتصاد وارقامه بأنه يأتي في إطار زيادة الوفاق الوطني.

ولا أدرى أي نوع من وفاق وطني هذا الذي يأتي علي حساب تأجيج نيران الفشل الاقتصادي.

وفي هذا المنعطف لا نملك إلا ان نتساءل عن صدقية طاقم الحكم الذي جاهد بحماس لرفع الدعم عن السلع الأساسية بدعوى توفير الموارد لتمويل الإنتاج والصحة والتعليم.

ولكن رغم تنفيذ رفع الدعم فانه لم يحدث أي تحسن في تمويل الأنشطة المذكورة ولا حتى تراجع لمعدلات التضخم أو عجز الموازنة.

فقد انعدمت الادوية المنقذة للحياة وأعلن الأطباء النواب الإضراب لأنهم ظلوا يعملون مجانا كأقنان في نظام سخرة خطر علي صحة المواطن – ولا ادري من يريد ان يخضع لجراحة تحت مبضع نائب اخصائي يعمل سخرة بلا مرتب وربما يكون جائع بعد سندوتش فول بائس أو مصاب بالنعاس الشديد بعد وردية طويلة كسائق ترحال.

أما وزارة التربية فقد عجزت عن طباعة الكتاب المدرسي وفشي الجوع في أكثر الأقاليم ثراء بالإمكانيات الزراعية والحيوانية والسمكية.

وفي التبرير لضعف تمويل الصحة والتعليم يتحجج الطاقم الحاكم بضعف الموارد ولكنه الان ينسي هذا الضعف ويرفع عدد الوزارات الِي 26 لشراء رضاء حلفائه الاستراتيجيين من أهل الجبهة الثورية.

ولن يتوقف انفراط الصرف الحكومي عند رفع عدد الوزارات، فالقادم أسوأ ولا يحتاج التوجس الِي شائعات عن وصول حاويات مشحونة بورق طباعة العملة رب رب. فمثلا تضمنت اتفاقية سلام جوبا تعهدا من الحكومة بدفع مبلغ سنوي يبلغ 750 مليون دولار لإرضاء الجبهة الثورية إضافة الِي “تمييز إيجابي” للأقاليم التي تدعي الجبهة تمثيلها تترتب عليها التزامات مالية اخري لا يستهان بها

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.