القطع من خلاف في زمن حكومة الثورة
هالة الكارب
ماذا لو كان معاذ عبد المجيد اسماعيل الفتى اليافع ذي الواحد والعشرين عاماً ابني؟ ماذا لو كان ابن صديقتي او ابن جارتي؟ او اخ لزميلتي في العمل؟ معاذ شاب سوداني يافع يكسب قوت يومه من طبلية صغيرة في السوق المركزي بالخرطوم. طبلية مرصوص عليها بسكويت وحلاوة وحجار بطارية ودبابيس وكل الأشياء الصغيرة المبعثرة في الطبالي التي تكتظ بها أسواقنا المزدحمة بالباحثين عن الرزق ولقمة العيش بشتى الطرق.
في ذات صباح في يونيو 2020 جذب أحد المارة انتباه بعض الصبية المُعدمين، المتسكعين في السوق المركزي إذ كان يحمل تلفون موبايل وحزمة مال صغيرة. قام الصبية بالهجوم علي صاحب الموبايل والمال مستخدمين مطواة وسرقوا المال (35 ألف جنيه) وجهاز الموبايل واختفوا في زحام السوق. وعندما ظهر البوليس لم يجد سوى معاذ جالساً أمام طبليته فتم اعتقاله عنوة واتهامه بجريمة النهب “وفقا لأقواله”.
معاذ وملايين مثله يتحملون بشكل يومي انتهاكات المؤسسة العدلية والبوليس القائمة على الصورة النمطية للسارق في المجتمع السوداني. ذلك التنميط الذي أَسس له النظام القانوني السوداني وتم تصديره إلى الوعي المجتمعي فأصبح للحرامي لون ومظهر. حكمت المحكمة على معاذ بالسجن ثلاثة سنوات دون أن يتم إخباره أن لديه الحق في العون القانوني.
قدمت والدة معاذ طلب تظلم إلى قضاة محكمة الاستئناف، وللمرة الثانية لم يتوفر لمعاذ أي دعم قانوني. فقام قضاة الاستئناف باستخدام المادة 168 من القانون الجنائي، حيث اغتنموا فرصة الدعم السياسي والأخلاقي الذي أوجده قانون التعديلات المتنوعة الصادر في يوليو 2020 للعقوبات اللاإنسانية. ومع ان تلك التعديلات رفعت حد الردة ولكن في نفس الوقت ثبتت العقوبات الحدية الموجودة في قانون الكيزان الجنائي ساري المفعول على نسق: “نحن نرضي الخواجات لكن ما بنزعل الكيزان”. “وعلى هذا الأساس قرر قاضي محكمة الاستئناف أن جريمة معاذ هي “الحرابة” وأرسلوا توصيتهم بالقطع من خلاف إلى قاضى المحكمة الابتدائية الذي حكم على معاذ “بالقطع من الخلاف”، دون حضور محامي او التوضيح لمعاذ حقه القانوني للمرة الثالثة في يونيو 2021.
القطع بالخلاف على شاب بائع في طبلية
السؤال الأول: دعونا نفترض حقيقة ان معاذ سارق، سرق ال 35 ألف جنية سوداني وجهاز الموبايل، هل يستحق مثل هذه العقوبة اللاإنسانية وحد الحرابة “وقيامة قايمة “؟؟
سؤال ثاني: ماذا لو كان معاذ اصلاً من الدامر، او ومن دنقلا او من العمارات ماذا لو كان معاذ إسماعيل من الطائف او الرياض او كان والده دكتور اخصائي وامة استاذة جامعة او مديرة منظمة ودرس الجامعة في أوروبا ماذا لو كان والدة تاجر من امدرمان او موظف اممي وغلط وسرق 35 ألف وموبايل لأي سبب متعلق بانحرافات الحياة وتقلباتها التي تحدث للبشر، تلك الأخطاء التي نرتكبها بسبب الفقر او العنت أو العدم او الضياع او انعدام التوازن النفسي. هل من المعقول أن تكون عقوبة ما يوازي 48 دولار وموبايل القطع من خلاف؟؟
يقبع الان معاذ عبد المجيد اسماعيل في زنزانة المحكومين بالإعدام في سجن كوبر في الخرطوم كنموذج لبؤس الدولة السودانية واستمرار الظلامات التاريخية، مٌكبل بالجنازير في اليدين والارجل بانتظار حكم جائر وانتهاك بشع لحقه كانسان وكمواطن سوداني. ولكن وبالرغم من سوء الحال، نجحت جهود عدد من المحامين من اصحاب الضمير الحي في التواصل معه ومع أسرته وتبنوا قضيته.
السؤال الأهم هنا، كيف تقبل على نفسها حكومة أتت بتضحيات الفقراء والمهمشين وحمت ولا تزال تحمي نفسها بأجسادهم/ هن وطالما اتخذت من تلك الأجساد دروعا بشرية، أن تستمر في نفس الغي والظلم والانتهاكات اللاإنسانية التي ثار ضدها الشعب السوداني مرارا وتكرارا.
يرن الآن في أذني صوت الشهيد محمود محمد طه واضحا وجليا لمن أراد أن يسمع ويتعلم من إرث الاستنارة والوعي في السودان:
“أنا أعلنت رأيي مرارا، في قوانين سبتمبر 1983، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام. أكثر من ذلك، فإنها شوهت الشريعة، وشوهت الإسلام، ونفّرت عنه. يضاف إلى ذلك أنها وضعت، واستغلت، لإرهاب الشعب، وسوقه إلى الاستكانة، عن طريق إذلاله. ثم إنها هددت وحدة البلاد. .. “.الي اخر مقولته الشهيرة .
هوامش:
● سنت هذه العقوبات اللاإنسانية عبر قوانين سبتمبر 1983م هي قوانين أصدرها الديكتاتور جعفر نميري،و قام بموجبها بإعلان الشريعة الإسلامية وتنصيب نفسه إماما على المسلمين. ولقد ساعده في صياغتها وتنفيذها مجموعة من الإسلاميين على رأسهم الدكتور حسن الترابي.
● لم ترض قطاعات واسعة من الشعب السوداني عن تلك القوانين وعارضتها، خصوصا وأنها قد عارضت الدستور وعارضت اتفاقية أديس أبابا التي وقعت بين الشمال والجنوب. وكان أعلى معارضيها صوتا في السودان الأستاذ محمود محمد طه، ولقد أخرج منشورا عارض فيه تلك القوانين وأسماها (قوانين سبتمبر) بدلا عن (قوانين الشريعة الإسلامية) ولقد لاقت هذه التسمية قبولا واسعا وشاعت بين أفراد الشعب. بذات القوانين حوكم الأستاذ محمود محمد طه وقطعت أوصال الكثير من السودانيين بتهمة السرقة أو الحرابة كما استخدمت تلك القوانين في صلب الشهيد الواثق صباح الخير.
● الواثق صباح الخير، من سكان مدينة بحري ، دخل المدرسة وقرأ فيها حتى ثالثة ابتدائي ثم عمل مراسلة في مصلحة الوابورات. تجند في الجيش في مدرسة المشاة في كرري ثم ترك الجيش وعمل في عدد من الأعمال الهامشية. تم صلبة وعمره 22 عاما في يونيو 1984
● في يوم 18 يناير 1985 تم اعدام الشهيد محمود محمد طه بتهمة الردة وكان عمره حينذاك 76 عاما
● في 6أبريل من عام 1985م تمت الإطاحة بالدكتاتور جعفر نميري في أعقاب انتفاضة أبريل 1985.
● في فبراير 2013 قامت حكومة المؤتمر الوطني البائدة بالقطع من خلاف لآدم المثنى البالغ من العمر 30 عاما. وبحسب المحكمة، فقد تورط في عملية سطو مسلح على حدود شمال كردفان وشرق دارفور في عام 2008.
● في يوم 23 يونيو 2021 حكمت محكمة جنايات الامتداد جنوب في الخرطوم برئاسة القاضي” اليسع هاشم” على معاذ عبد المجيد اسماعيل (21 عاماً) وفق توجيهات محكمة الاستئناف بالقطع من الخلاف (حد الحرابة) وفق للمادة 168 “الحرابة” والتي ينص عليها القانون الجنائي السوداني لعام 1991، وذلك عقب طلب الاسترحام المقدم من والدته تخفيف حكم السجن من ثلاثة أعوام بعد إدانته بجريمة نهب مبلغ 38 ألف جنيه سوداني (ما يعادل 48 دولار أمريكي) وجهاز تليفون محمول.
● إن قانون التعديلات المتنوعة الصادر من وزارة العدل في يوليو لعام 2020، أكد على إيقاع العقوبات الحدية والا انسانية كاملة، بل ونصت المادة 170 (المعدلة) على أن يصدر قانون خاص لتحديد نصاب السرقة الحدية. ووفقاً لتصريحات السيد وزير العدل نصر الدين عبد الباري في لقاء تلفزيوني يوم 12 يوليو 2020 حول قانون التعديلات المتنوعة الذي أبقى على العقوبات الحدية صرح قائلا “ما فعلناه فقط واءآمنا القانون الجنائي مع الوثيقة الدستورية، نحن فعلنا ذلك لإحقاق العدالة، العدالة تعني ألا نميز بين الأشخاص على أي أساس من الأسس”، وفي ذات اللقاء برر الوزير إلغاء جريمة الردة من القانون قائلاً بناءًاً على قوله : “جدل قديم حول تجريم الخروج من الإسلام”.
● ومن الملاحظ انتقائية وعشوائية وكسل المشرع السوداني في التعامل مع النصوص الدينية لإلغاء أو تثبيت الجرائم والعقوبات اللاإنسانية. حيث خضعت الحكومة الانتقالية لسطوة الأصولية والتطرف وأغفلت اجتهادات الإصلاح الديني التي هدفت للمواءمة ما بين المعتقدات الدينية ومنظومة حقوق الإنسان شأن غالبية الدول ذات الاغلبية المسلمة والتي خلصت إلى أن أحكام الحدود مرتبطة بسياق زماني واجتماعي محدد، إذ أن تطور البشرية يقتضي التطور في الأحكام، ومثال لذلك تعطيل الأحكام المتعلقة باسترقاق الرجال والنساء.
● إن استمرار الحكومة الانتقالية السودانية في نهج اعتماد العقوبات اللاإنسانية والمهينة كقطع اليد والقطع بخلاف (اليد والقدم) الإعدام والصلب والجلد حداً ، والتلكؤ في إصلاح المنظومات العدلية والامنية يؤكد أن الشعب السوداني لا يزال محكوماً بمنظومة قوانين سبتمبر 1983 أو قوانين” نظام الكيزان “، والتي ثار ضدها الشعب السوداني خلال الأربعين عاما السابقة مرتين ، الأولى في انتفاضة ابريل 1985 و الثانية في ثورة ديسمبر 018 أبريل 019 المجيدة.
مراجع:
وثيقة على المك -الواثق صباح الخير
محاكمة الاستاذ محمود محمد طه ويكيبيديا العربية
بيان صحفي من قوى المجتمع المدني- القطع من خلاف … ارهاب الفقراء والمستضعفين في سودان ما بعد الثورة
قانون التعديلات المتنوعة -مذكرة تحديد موقف
المحلل السياسي كمال كرار يقول لـ( الانتباهة) انه لا يعلم بوجود مستشارين حول حمدوك، وقال ان الية اتخاذ القرار في مجلس الوزراء لديها قنوات معروفة ولا ترضخ للضغوط او اللوبيات وان القرارات التي تصدر تتماشى مع ميثاق الحرية والتغيير.
نقلاً عن صحيفة السياسي