خواطر حول الحكم المدني..!

بقلم: مرتضى الغالي

 

إذا استطعنا أن الابتعاد عن مزج السياسة بالدين، وحظر استخدام السلاح لحيازة السلطة، ونجحنا في أن نجعل المواطنين سواسية في الحقوق والواجبات، يتمتّعون بفرص مُتساوية في الوظيفة ومقعد الدراسة وفي المسكن والعلاج، وأقمنا حكم القانون ومنعنا التمييز باللون والعرق والمهنة والاعتقاد والخلفية الاجتماعية، ومع صحة التمثيل الحرّ للمجتمع وأفراده في مستويات إدارة الشأن العام وفي مستوى الكيانات السياسية والنقابات والإسهام المجتمعي المدني..الخ؛ فإننا نكون قد أقمنا الحكم الذي نُريد؛ وعند ذلك فليسمِّه أي شخص بما يريد وليقل البعض انه حكم الديمقراطية وليقل آخرون إنها الليبرالية كما يمكن أن يسميه فريق ثالث بأنه “حكم مدني” ويصيح آخرون بأنه حكم علماني! فماذا يضير؟.. وحقوق الناس مُصانة وكرامتهم محفوظة والقضاء هو الفيصل بينهم والقوة الجبرية مُحتكَرَة لجيش له وظيفته المهنية في حماية الحدود والابتعاد عن التدخل في شؤون الحكم لأنها ليست اختصاصه ولا مجال عمله.

لا أدري صِحَّة هذه الرؤية، ولكنها تبدو في ظروفنا الحاضرة أفضل من الاشتباك حول التسميات والمصطلحات، بدلاً عن وضع الخطوط العامة التي نريد لدولتنا أن تنهض عليها.. فلا يكفي أن يقف كل شخص في ربوة ويقول: أريد دولة مدنية، ويقف الآخر في تلة ويقول: لا أقبل بغير دولة علمانية! وذلك لسبب بسيط، وهو أنه ليست هناك (مسطرة قياس) تسري على كل العالم وتشمل جميع معاني الدولة المدنية أو المجتمع العلماني؛ فالأفضل أن نبدأ تجربتنا ونتّجه نحو الحكم الأمثل على قواعد الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية وشروط المواطنة، ونخلق نموذجنا ونسدَّ الثغرات ونزاوج بين المطلوبات وبين الأفكار التي تجد قبولاً أوسع؛ مع مراعاة الرؤى الأخرى ووضع كلِّ ذلك المسار تحت الاختبار المستمر حتى يتم الوصول إلى الرضاء العام أو القواسم الوسطى عن قناعة وليس عن طريق تجاهل ما لا يروق لنا من أصوات (الرأي الآخر).. أو الحكم المسبق على بعض الأفكار.. ذلك لأن التوقف عند المصطلحات يمكن أن يجرفنا بعيداً.. خاصة المصطلحات التي يقع خلافٌ كبيرٌ حول تعريفها مثل الفروق الدقيقة والتصنيفات المُتباينة للعلمانية من حيث معناها العام، ومن حيث خلفيَّتها اللغوية تنسبُ المصطلح إلى العلم وتارة للعالم وتارة إلى علاقة الدين بالمجتمع أو علاقته بالسلطة أو السياسة ..الخ، والجل هو التلاقي أو الاختلاف بين نظريات تسيير الدولة وضمانات حرية الفكر والاعتقاد (وهلمجرا). يُضاف إلى ذلك الفهم الخاطئ الذي وصل إلى كثيرٍ من قطاعات المُجتمع بقصد، من جهات كيانات أو بغير قصد حول العلمانية، وما لحق بمصطلحها من تشويه من بعض المجموعات الدينية والسياسية وصل إلى الجماهير وكأنه قرين الإلحاد ومعاداة الأديان، ولم نسمع أن العلمانية في أشدِّ الأقطار تمسكاً بنهجها منعت المواطنين من ممارسة شعائرهم الدينية.

إن الحكم المدني لا يأتي بكامله (بين يوم وليلة)، وهذا لا يعني أننا يمكن أن نقبل بما دون الحكم المدني.. بل لأن الحكم المدني في جانب منه، هو (ثقافة مجتمعية). ولسوء الحظ، فإن الحكم (غير المدني) هو الذي كان له البقاء الأطول على النطاق المجتمعي والسياسي في بلادنا، وكان الحكم غبر المدني هو طابع السلطة في الفترات الأغلب من عهود السودان وعقوده التي أعقبت الاستقلال، والتي تسلسلت في مصفوفة شمولية بدأت بعد فترة وجيزة من عام الاستقلال 1956 للميلاد، لم تُتِحْ للحكم المدني أن يزدهر، بل لم تسمح حتى بتفتّح براعمه: عامان من الحكم المدني، ثم ستة أعوام من الحكم العسكري، ثم فترة انتقال وحكم مدني لثلاثة أعوام، ثم نظام عسكري لستة عشر عاماً، ثم انتقال وحكم مدني لثلاث سنوات أعقبه حكم عسكري لثلاثين عاماً! وما يلفت النظر أن الحكم المدني في هذه الفترات القليلة التي عاشها لم يكن حكماً مدنياً بالمعني المعياري، بينما كانت فترات الحكم العسكري حكماً شمولياً حقيقياً يقترب من الدرجة الكاملة في تحقيق القهر والاستبداد والطغيان.

كنتُ من بين الذين يقولون إن الاعتصام الذي تمّ في ميدان القيادة، وقاد إلى ثورة ديسمبر، استطاع أن ينعش الآمال في وضع الأسس الركينة للدولة المدنية والحكم المدني.. وقد تكون الرومانسية الثورية هي ما دفعنا إلى اقتران المجتمع المدني بفكرة المدينة الفاضلة التي كانت هاجس الفلاسفة والمفكرين والرواة والعلماء والكتّاب والحالمين على طول التاريخ البشري. هذا ما حاول أن يتصوّره دعاة المدن الفاضلة في التاريخ الإنساني.. وربما سبقت الفكرة جمهورية أفلاطون، وأصبح الناس ينظرون إليها وكأنها (صنو الخيال) ويعتبروها من (غوالي الأمنيات) ثم تتابعت مسيرة المدن الفاضلة عند توماس كامبنيلا في (مدينة الشمس)، وعبد الرحمن الكواكبي الذي يضع ملامحها في كتابه (أم القرى)، ثم فرانسيس بيكون ويسميها (أطلنطس الجديدة)، والقديس أوغسطين الذي يسميها (مدينة الله)، والفارابي الذي يشرح مفهومها في (آراء أهل المدينة الفاضلة)، ثم تتابعت نظرياتها إلى الإنجليزي توماس مور الذي سمّاها (يوتوبيا)، وكانت للروائيين أيضاً مدنهم الفاضلة مثل الطيب صالح وماركيز وشارلس ديكنز وجيمس جويس وديستوفسكي ووليام فوكنر.

كنا نرى المدينة الفاضلة في أيام الاعتصام في ذلك الارتباط الحميم الذي يقوم على الاحترام والتقدير والاقتسام والمشاركة والمناوبة والهمَّة والغيريَّة والإيثار والعلاقات التي تقوم على النبل والطهر والمصافاة والقسمة العادلة للواجبات والمهام والمكافآت.. ما أن يشكو أحد من صداع إلا وتمتد له الأيادي بالعناية والرعاية و(البندول) وما أن يجلس نفرٌ للصلاة إلا ويظلهم آخرون.. ولا أحد ينظر إلى جهوية أو معتقد أو لون أو خلفية اجتماعية.. لقد ذابت الفوارق العرقية والمهنية والنوعية… فتجد الأطفال والآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأحفاد على صعيد واحد توحدهم الوطنية الخالصة والتوثب والثورة والخير العام, إنهم يعيشون في حكم الأسرة الواحدة وكأنهم أبناء أم وأب.. يجمعهم فضاء واحد وقد زالت في (هذا الوطن الصغير) كل أسباب الفرقة و(تابوهات) الطبقة والجهة والجندر والمهنة أو الوظيفة أو التعليم. ولم يسمع أحد طوال الاعتصام بحادثة نشل أو سرقة أو تعدي أو معاداة أو تشاجر أو تحرش لفظي أو جسدي بين ساكني مجتمع الميدان. لقد استطاع اعتصام ميدان القيادة العامة أن يصنع “المدينة الفاضلة” رغم كثافة الحشود وضيق المكان؛ بل رأينا ما يمكن أن يتفوق على أحلام المدن الفاضلة الخيالية؛ إذ يُنادي من يريد جمع بعض المال لغرض أو طعام (العندو يخُت والما عندو يشيل)، هكذا يقتسمون الزاد والتساكن والمعروف، تجمعهم وحدة الهدف ورحابة الخُلق الذي أراد (الإنقاذيون) أن يطفئوه!

في هذه المدينة التي قامت في ميدان الاعتصام لا ملكية خاصة، وفيها يسود (الخير العام) والمساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويتدفق الأنس والتثاقف.. وحيث القلوب مشرعة.. وساحة هذا الميدان الذي يمثل المدينة الفاضلة هي (أنظف ساحة في العاصمة القومية) لأن الموجودين فيها يستشعرون واجب القدوة وسلامة البيئة واحترام الذات.. فهم ينهضون بالمهام معاً ويحرسون ساحتهم معاً ويتعاهدون معاً على مقاومة الطغيان في بلادهم وقطع دابره واستئصال جذوره.. وعندما يفيقون من المهام العملية والوطنية يتزودون بما يستمعون ويتبادلون العلم والمعرفة ويتداولون حول الجهد الذي ينتظرهم لإقالة عثرات بلدهم وحول رسم مستقبله.. ثم في سويعات الاسترواح تزدهر الفنون في الميدان وتتفتح أزاهير الإبداع وتفرد المحبة والحميمية أجنحتها لتظلل الجميع!

… إنها الحالة الواقعية التي تُماثل ما ذكره الطيب صالح من صنع خياله عندما اشتعلت الأفراح فجأة في قلب الصحراء ومن غير تخطيط مسبق بين مجموعات بشرية جمع بينها السفر من غير تعارف في بقعة صحراوية مجهولة من الوطن.. فاصطفت (اللواري) في هيئة دائرية حولهم وسطعت بأنوارها على قلب الدائرة التي ضمتهم واندمج الجميع في محفل كوني نشأ من غير تمهيد وأصبحوا في حلة شعورية واحدة.. فقد أرادوا اختلاس لحظات من الابتهاج والمؤاخاة الحميمة قبل أن يستأنفوا رحلتهم وقبل أن تفرّق بينهم الدروب. هل هذه هي صورة من المدنية الرومانسية التي تحتاج إلى رسم القوانين وإقامة الحدود بين السلطات حتى تكون أصلب بناء وأقوم قيلا؟!

2 تعليقات
  1. نصرالدين أبكر يقول

    مقال يستحق عن مرات عديدة

  2. نصرالدين أبكر يقول

    أقصد هذا مقال ضافي ووافي يستحق عن يقرأ مرات عديدة
    مقال أوجز لنا مشكلة التعايش بطريقة مبسطة وبعيدا عن الفلسفات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.