في الرد على صديقي عمرو صالح يس

بقلم: محمد جلال أحمد هاشم

 

(1)
أدناه ما كتبه لي صديقي العزيز عمرو صالح يس:
أستاذي الحبيب،
انت يا دكتور تأسيس الدولة السودانية دا شايف بتجيبو الحرب، كتنبؤ لنظريتك، وتلاميذك “حيفرحوك” يوم ويجيبهو بإذن الله بالاستنارة؛ سنصل للسودان الجديد الذي منيتنا به، وما حدثتنا نفوسنا بالارتحال إليه إلا بعد أن عرفناك، بتفتيت بنى السودان القديم طوبة طوبة: سودان تحالف العسكري والأفندي والطفيلي والشرتاي! سنبدأ الطريق نحو صناعة قاعدة اجتماعية حديثة صلبة هي الأساس المتين لتجاوز سودان ما بعد الاستعمار نحو دولة سودانية حديثة تكون هي الأساس لوحدة جيواستراتيجية أفريقية تقود أفريقيا بأسرها للتحول الصناعي!
محتاج تخت في نظريتك يا دكتور عامل مهم “ربما” يكون مفقود، وهو إنك أضأت الطريق لتلاميذ، وإن فارقوك في الطريق، حتما سيصلوا إلى المبتغى! فالكلة النافذة من روح القدس، تحول الإنسان البسيط من محطة الوقوف على الرصيف إلى كائن ذي مبدأ ورسالة يقف حاملا أحلامه بعالم مختلف في قلب التاريخ!
محبتي ومودتي التي تعلم!
عمرو صالح يس

(2)
ثم أدناه ما كتبته في معرض الرد عليه:
كما تعلم، يا صديقي الحبيب، أنا لم أسقط العامل المدني السلمي في عملية التغيير، وكتاباتي لعشرات السنين عن إرهاصات الثورة الشعبية قبل اندلاعها تشهد بذلك. فقد ظللت أكتب عن الثورة بجانب عملي المستمر للمشاركة في الجهود لتفجيرها منذ شبابي الباكر إلى يومنا هذا. لقد انسلخت سنوات العمر وأنا أتغنى بأناشيد الثورة الشعبية السلمية التي لا تحمل من سلاح بخلاف الهتاف وفروع أشجار النيم. ولا أعتقد أنني أحتاج إلى ذكر الأدلة على ذلك.
ولهذا السبب نفسه ظللت أكتب أيضا عن وجه الاحتمال الآخر المقابل للتغيير السلمي بوصفه أسوأ الاحتمالات. فالدولة العربوفونية التي دشنت الثقافتين العربية والإسلامية الكريمتين، التي تأسست في السودان قبل 500 عام، انحرفت عن الثقافة وانفتاحاتها لتنغلق على الأيديولوجيا الإسلاموعروبية. ولهذا بعدت عن مرافئ الثقافتين العربية والإسلامية السمحتين، هذا بينما لم تتردد في أن تستخدمهما كأسلحة أيديولوجية على مستوى السلطة، هذا بينما كانت هاتان الثقافتان تحققان انتشارهما التثاقفي بهدوء عبر انتشار اللغة العربية العامية بمختلف اللكنات السودانية وانتشار الدين الجديد عبر الإسلام الشعبي. هذا بينما كانت الدولة، عبر وهم الأيديولوجيا الإسلاموعروبية، تهيم كروحٍ تائهة في صحراء الجزيرة العربية بين بطون وأفخاذ القبائل العربية، تبحث لها عن موطئ قدم عبر الوهم واختلاف الأكاذيب وتزييف التاريخ والواقع. وبهذا أصبحت عملية الاستعراب والأسلمة جزءا من علاقات السلطة، وسلاما أيديولوجياً، الأمر الذي دفع كل من يطمح للسلطة إلى أن يختلق له نسبا عربيا ويتصرف بوصفه ملكيا أكثر من الملك نفسه، في عملية تستبطن كراهية الذات، لدرجة من الاستلاب والاغتراب تجعل من هذا الأفريقي الأسود المستعرب مسخا مشوها لإنسان فقد كل مخايل الإنسانية. هذا بدلا من أن يرفع من شأن نفسه بوصفه أفريقيا أسود له لغته بجانب اغتنائه ثقافيا وحضاريا كونه أصبح أيضا عربفونيا.
فمع الاستعمار المصري التركي، شرعت الدولة في ابتناء فقه مذهبي إسلامي لا علاقة له بروح الشعب، ألا وهو الإسلام الأورثوذوكسي، ذلك مقابل الإسلام الشعبي المتصالح مع الثقافات المحلية بما يجعله إسلاما متوطنا. وفي نفس الوقت شرعت الدولة في تأسيس التعليم الحكومي النظامي الذي يُخرِّج أفندية الدولة، لكن ليس قادة المجتمع، وهذه هي طبقة الأفندية التي ستنشر الإسلام الأورثوذوكسي على حساب الإسلام الشعبي الذي يمثل الصيغة المتوطنة والمعبرة عن المجتمع السوداني. هنا اكتملت عناصر الأيديولوجيا الإسلاموعروبية ممثلةً في أربع آليات هي، أولا، آلية الاستعراب (التكالب على الأنساب العربية وادعاء العروبة تبرُّؤا من معرَّة الهوية الأفريقية السوداء)، ثم، ثانيا، آلية الأسلمة (الانحراف عن جادة الدين الإسلامي السوداني المتوطن ممثلاً في الإسلام الشعبي والاتجاه نحو الإسلام الأورثوذوكسي الحكومي الرسمي)، ثم، ثالثا، آلية تأسيس طبقة الأفندية، وهي جرثومة التمركز والتهميش كنتاج مباشر للنظام التعليمي الذي ينزع الأطفال من سياقات القرية السودانية المعافاة ليتحولوا إلى أفندية يخدمون الدولة الاستعمارية ويولونها ولاءهم المطلق في علاقة أشبه بعلاقة العبد وسيده. والطُّعم هنا هو جاه الوظيفة الحكومية. فالطفل النابغة، بموجب درجات تحصيله المدرسي، هو الذي ينال الوظيفة التي تعني ضرورة مغادرته لقريته وربما عدم العودة إليها بالمرة. وهكذا تتدهور القرية (الريف) لتنتعش المدينة (مراكز السلطة) على حساب القرية، لا بوصفها تطورا حضريا، بل بوصفها ثقبا أسود يبتلع مجتمعات الريف عبر ترييف المدينة نفسها. وهكذا تنفصم العلاقة الجدلية البناءة بين الريف والحضر، لتتحول إلى علاقة قاتلة بين مركز يحاول أن يبتلع الهامش إلى أن يبتلع نفسه ويذهب للمحاق إذا ما فعلا نجح في قتل الريف. وهذه ليست مدنية حضارية، بل هي ردة حضارية، ذلك لأن شخصية الأفندي المأزومة جعلته في المدينة أكثر محافظةً بسبب الإسلام الأرثوذكس من جانب، وعدم ثقته في المدينة نفسها لقرويته المستحكمة فيه مقابل تمدينه الزائف. وبهذا نأتي للآلية الرابعة، ألا وهي تهميش دور المرأة. فالمجتمع الذي يهمش دور المرأة سيعاني من شلل نصفي وبالتالي لن يتمكن من أن يخطو نحو التغيير وإحداث النهضة لأنه مجتمع معوَّق. فالمرأة قد تم حبسها في المدينة وحُجرت في البيت تمثلا بصورة الجواري الخُنَّس، هذا بينما رصيفتُها في الريف تعمل جنبا إلى جنب مع الرجل. وزاد الأمر سوءا عندما قامت هذه الأيديولوجيا الإسلاموعروبية بخلق وهم طغى واستحكم، مفادُه أن صورة الجواري الخُنَّس هي الصورة المثلى للمرأة، بما يعني إغواء المرأة الريفية لتعيد إنتاج نفسها على تلك الشاكلة إذا أرادت أن تنتمي لتلك المدنية الزائفة.
وقد استمر هذا الوضع ذو العناصر الأربعة (الاستعراب، الأسلمة، ثم النظام التعليمي الأفندوي، وأخيرا تكريس الاستتباع الذكوري للمرأة وتزييف وعيها وتغبيشه بحيث تنام وتصحو لتبدو أكثر عروبةً مما كانت في أمسها) على هذه الشاكلة حتى اليوم وما أدراك ما هذا اليوم! فالأيديولوجيا الإسلاموعروبية اليوم قد استنفدت كل طاقتها، وتجاوزت زمنها، وآن أوان تفكيكها، وهذا يعني أنها قد بلغت ما أسميه بمرحلة “انهيار الأيديولوجيا” Crash of Ideology، وهي أخطر لحظة في حياة أي أيديولوجيا، لأنها سوف تفضل أن تدمر وتحطم كل مؤسسات المجتمع قبل أن تذهب هي إلى المحاق. ولنا في التاريخ عبرة! فهذا ما فعله نيرون بروما عندما دمرها وأحرقها،، ذلك عندما أيقن أن زمانه قد انتهى. ولهذا قلت كلمتي التي ذهبت في الآفاق، لكن ليس قبل تحريفها لتعني خلاف ما قصدناه. فقد قلت بأننا إذا استمرَّ بنا الحال ونحن نتقاتل ونتحارب، فسوف نقوم بتفكيك السودان طوبة، طوبة؛ ولكننا – نحن دعاة أن تستعيد الدولة لشرط عَلمانيتها – الذين سنُعيد بناء السودان مرة أخرى طوبة، طوبة.
هذا يا صديقي ما ظللت أكتب بشأنه، بوصفه المقابل العنيف لعمليات التغيير السلمي، ودمت!

MJH
جوبا – 30 يونيو 2021م

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.