حول مبادرة رئيس الوزراء

د. عمر القراي

لابد من الإشادة بمبادرة السيد رئيس الوزراء التي أسماها (الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال.. الطريق إلى الأمام)، وذلك لأنها، من حيث الشكل، تعبر عن اهتمام سيادته بمشاركة الشعب على مبدأ الشفافية، والرجوع للشعب صاحب السيادة الحقيقية. وهي خطوة تبعت خطابه الذي ألقاه قبل أيام، حول الوضع الاقتصادي إنجازاته وتحدياته. وقد كان خطاباً ضافياً، يعتبر أيضاً عملاً موفقاً، إذ لا يجوز أن يحتجب الرئيس عن شعبه في أحلك الأوقات.. على إننا لا نملك إلا أن نقرر أن المبادرة والخطاب، جاءا متأخرين، حتى استفحلت الأزمة، وهددت وحدة وبقاء الحكومة الانتقالية. وأهم ما جاء في الخطاب وفي المبادرة هو إعلان السيد رئيس الوزراء، بأن نجاح الفترة الانتقالية، يتوقف على مواجهة فلول النظام السابق بصورة حاسمة، وتفكيك نظام الإنقاذ دون تردد، ومحاكمة رموزه دون تباطؤ.

لقد كان ينبغي على السيد رئيس الوزراء، أن يقوم بهذه المواجهة، منذ بداية الفترة الانتقالية. كان عليه أن يخرج في أجهزة الإعلام، ويواجه الفلول، ويدينهم، ويؤكد ضرورة القضاء عليهم، وتفكيك نظامهم، يوم حاولوا اغتياله. ويوم هاجموا وزراءه وممثلي حكومته، ويوم تآمروا بإخفاء السلع، وشراء الدولار، ورمي الدقيق في النيل وتصعيد أزمة الخبز، وحرق المحاصيل الزراعية ليفاقموا من الأزمة الاقتصادية. كان ينبغي مواجهتهم يوم تآمروا على إيقاف إصلاح التعليم، وحشد الشباب والأطفال في مظاهرات الزواحف، ينددون فيها بالغلاء الذي افتعلوه.

ولكن السيد رئيس الوزراء آثر الصمت على مواجهتهم، بل لم يكن يرغب في مخاطبة شعبه بخطر تآمر الفلول.. ولعله كان يظن أن سياسة البعد عن الإعلام، وعن التصريحات، وعن مخاطبة الشعب، والعمل بصمت، هو الذي سيحقق الاستقرار.. ولعله أدرك الآن، أنه كان مخطئاً، وأن ذلك الخطأ قد كلف الوطن كثيراً، وأنه يواجه خصماً لا يرعى عهداً ولا ذمة، ولا يدخر وسعاً في تحطيم الوطن، ليعود ويحكم ما تبقى من مواطنيه ..

إن الشعب الذي وقف وراء الحكومة المدنية، ورفع شعار “شكراً حمدوك” ، كان ينتظر من السيد رئيس الوزراء أن يخاطبه بمجرد ظهور بادرة اعتداء المكون العسكري على سلطات الحكومة المدنية، ويطلب منه التفويض الكامل بالشرعية الثورية، لتجاوز كل اتفاق وكل وثيقة، كبلت الحكومة المدنية، وساهمت في تقليص سلطاتها. على كل حال لأن تاتي متأخراً خير من ألا تأتي مطلقاً.

ها هو السيد رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك قد جاء إلى شعبه متأخراً، يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهل سيسير في التنفيذ، ويستمر في التواصل مع الشعب، أم سينتظر توافقات وحوارات الغرف المغلقة والترضيات والمحاصصات التي لا تنتهي، والفلول يجمعون توقيعات المواطنين، ليطالبوا المكون العسكري بالاستيلاء على السلطة، وإضاعة البلاد؟!

لخص السيد رئيس الوزراء الأزمة بقوله (هناك تحديات عديدة تعترض مسار الانتقال أهمها الوضع الاقتصادي والترتيبات الأمنية والعدالة والسيادة الوطنية والعلاقات الخارجية واستكمال السلام والفساد وتعثر إزالة التمكين وبناء المؤسسات يأتي كل ذلك على خلفية من الانقسامات داخل الكتلة الانتقالية وعدم وجود مركز موحد للقرار وغياب الأولويات والتصور المشترك للانتقال) (الديمقراطي 23 يونيو 2021م)

فإذا أردنا أن نبسط هذا القول، فإنه يعني أن بعض الأفراد في المجموعة المكونة لقوى الحرية والتغيير، من الأحزاب والجماعات والنقابات والحركات، لا تتفق حول القضايا الأساسية، التي من أجلها قامت الثورة مثل: تفكيك النظام البائد ومحاكمة رموزه ومصادرة كافة موارد النافذين فيه – تحقيق السلام الشامل الذي لا يستثني فصيلا من حملة السلاح – توفير العيش الكريم للمواطن السوداني بلا صدقات ولا ديون – حفظ أمن المواطن البسيط لا أمن النظام الحاكم.. وخلاصة مبادرة السيد رئيس الوزراء هي أن يسوق هذه الكيانات المتنافرة، ومعها بقية الشعب، إلى الاتفاق حول هذه القضايا حتى يتم تنفيذها.

إن حقيقة الأزمة هي أن عناصر بعض هذه الأحزاب والمجموعات والحركات، التي وصفها السيد رئيس الوزراء بأنها لا تتفق حول القضايا الوطنية، تعلم أنها مطالب الثورة، وأنها رأي الشعب، ولكنها لا تريدها لأن مصالحها وأفكارها، لا زالت مرتبطة بالنظام البائد، وهي إنما تقدم الآن مصالحها الضيقة على مصلحة الوطن. فالذي لا يريد لقادة النظام البائد أن يسلموا للمحكمة الجنائية الدولية، ولا لأموالهم وأملاكهم أن تصادر، لابد أنه صاحب مصالح معهم، مستمرة رغم إدعائه الانضمام للثورة وحكومتها.. والذي لا يريد للشركات الاقتصادية، التابعة للمؤسسة العسكرية، أن تعود أموالها للشعب الذي نهبت منه بواسطة العهد البائد، وقدمت رشوة للعسكريين، لا بد أنه مستفيد مما يجري من فساد، وشراكات اقتصادية مع رموز النظام البائد. والذي يكون عضواً في كيان مدني مثل حزب سياسي، ومع ذلك يريد أن تكون القرارات بيد المكون العسكري، لا يؤمن بالديمقراطية، ويرى مصلحته في التحالف مع نظام عسكري دكتاتوري وهكذا.. وإذا كانت هذه المجموعات الصغيرة، هي صاحبة القرار في الأحزاب الكبيرة، وفي المسارات والحركات، فإن أي تفاوض معهم مضيعة للوقت، لأنهم يعرفون الحق ويريدون الباطل !!

نعم!! إن هناك اتفاقات ومواثيق، تطالب رئيس الوزراء بألا ينفرد بالقرار، وأن يرجع إلى حاضنته السياسية التي تمثلها قوى الحرية والتغيير المتنافرة الآن. ولعل هذا ما عوق رئيس الوزراء، وشل حركته، طوال الوقت الماضي، حتى وصفه الناس بالضعف كما أشار في خطابه.

إن ما يواجه البلد الآن لا يقل من الثورة نفسها، فهي إما أن تموت أو تعود بمستوى جديد!! لهذا يجب أن تنقل وسائل الإعلام، هذا الحوار الهام بين السيد رئيس الوزراء وقوى الحرية والتغيير، وبين قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري، وأن يكون محور الحوار مبادرة السيد رئيس الوزراء، حتى يسمع الشعب رأي من يقف مع مبادئ الثورة، ورأي من يسعى الى إجهاضها.

والوقت عنصر حاسم في هذا الأمر، فإذا تمت محاولة النكوص عن مبادئ الثورة، من قوى داخل الحكومة الانتقالية، أو المجلس العسكري، أو قوى الحرية والتغيير، فإن على رئيس الوزراء أن يخرج للشعب في بيان أكثر وضوحاً وتحديداً، ويطلب منه التفويض ليتجاوز كل الاتفاقات والوثائق، والمجموعات، والأفراد، والمصالح، وينحاز لمصلحة الوطن، مطبقاً لشعارات ثورته، مدعوماً بشعبه صاحب السيادة المطلقة التي تملك تجاوز كل ما عداها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.