مغامرة في رواية (كمولو- عصر البطولة في جبال النوبة) للكاتب آدم أجري (2 – 3)

د. قاسم نسيم حماد

 

نعود اليوم ونصل ما قُطِع من حديث في مغامرتنا الأولى، حيث انتهينا إلى تناولات آدم أجري الإفريقية واستقصائه لكل أعمال الكجور، نبدأ اليوم وهوا يصف طقس سبر ورق اللوبيا وهو الذي نعرفه بعيد الحصاد، عبَّر عن لحظة البدء بمحمولها النفسي الرهيب، يقول “أتت اللحظة، وساد جو من الصمت المطبق، فُتِّحت الأغراض بحرص وروية، أُخذت أوراق خضراء، غمست في أوانٍ بها سوائل، نُثر بعضها على الأرض ” إنه وصف يتلفع بالرهبة التي يحسَّها ذاك الشعب، فهم أمام عظمة ربهم يهدونه طلع زرعهم، فقمينة هنا الرهبة والرجاء، ثم يترجم لنا آدم أجري دعاءً من أدعية الكجور، وأهمية هذا الدعاء أنه ينفي التصورات التي طالما تصورناها –بقصد أو بغيره-عن ديانات النوبة وعقائدها، قبل فشو الإسلام وانسراب المسيحية فيهم، يقول: “إلهنا رب السماء يا من خلقت، يا من تحفظ النسل، يا من تمدد العمر والرزق كما تشاء، يا من أعاد بنينا وبناتنا من غربة طالت، يا من أنبتَّ بذراً وأزهرت شجراً، وأينعت ثمراً، اليوم نجدد رجاءك وعهدنا بطاعتك وعبادتك ورفع كلمتك، فاحفظ عائلاتنا في أرضها ومنافيها، قوِّها وأمددها عدداً وزد في قاماتها وهاماتها علواً، فأنت الحامي وأنت النصير” المدهش هنا أن الدعاء فرَّق بين الألوهية والربوبية، وهذا مبحث مهم للغاية، ومعقد في تصورات اللاهوتيين، وندر أن نجده في ديانات البدائيين حسب ظني، ونراه بازخاً في الإسلام “قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس” ويمكن أن نتقاربه في غير هذا الموضع، فليس هذه قضيتنا الآن، إنما أوقفنا عليه أجري، لكن نقول فقط أن تصوراتهم للألوهية إذن ليست بدائية، وملاحظة أخرى أن كل ما جاء في الدعاء من معانٍ نجدها في أدياننا هذه، حتى رفع كلمة الله .. لتكون هي العليا، فمن هذه النافذة أوقفنا أجري على معارف تفيد كثيرا أصحاب أنثروبولوجيا الأديان، وتفيدنا في التعرُّف الثقافي.
بث آدم أجري صوراً من حياة النوبة الاجتماعية، لعلها صارت عزيزة المشاهدة، حتى في أوطانها اليوم، بفعل الانزياحات الثقافية، فكأنَّه سعى إلى إحياء ما مات منها، ورتق ما انثلم، فمن ذلك تجسيده لإحدى صور المصافحة والسلام عندهم حين يقول: “بادله تحية العظماء، بسرعة ومهارة، جمعا كفيهما ووضعاها فوق بعضهما بالتبادل، ثم تصافحا باجتماع الكفوف الأربعة، انحنيا ولمس كل منهما ركبة الآخر، ثم أخذا بعضهما بالأحضان”.
حتى خياله كان إفريقيا، وهذا أمرٌ ما كان يستطيعه لولا أنه مكث سنيه الأولى حتى الالتحاق بالجامع في جبال النوبة، وما كان يستطيعه وهو يتلو مناهجنا الدراسية الأحادية، فتعتقله تصورات أحاديتها، لكنه اكتشف هذا فألزم نفسه التفكير بعقل بيئته والتخيل بمخيال أجداده، فاصطنع لكجوره مستقبلاً بذات المخيال، وإلا كان مستقبل الكجور في خياله المُشَكَّل منطمراً، فإنه كان سيحيله الخيال العربي المسلم إلى المحو في شقه السلفي، أو التشيخ في شقه الصوفي، أما أن يبقى ويتطور ويتقعد وتلوثه الحداثة ويصمد ويتذوق فهذا منعدمٌ في مخيالنا العربي المسلم.
الشيء الذي يلحظه أي والج لعالم آدم أجري القصصي أنه تجانب التشبيهات العربية المعروفة، وكدَّ ليتمحل تشبيهاته ورموزه المنتزعة من بيئته، رغم إمساكه بقلم عربي فصيح، يزهو بتضلعه في فرشاته، ورغم أن اللغة العربية تمتلئ بالمعاني الدينية وتضج بالله تعالى، فلا يكاد يخلو منه نصٌّ عربي، حتى جاء في أقوال الجابري ما معناه أن ملاحدة ومسيحي العرب رهينين بالثقافة الإسلامية التي شكلت عقلهم واعقلته، رغم كل ذلك تجانب ذلك كله، فخلت نصوصه من إشارات ومعانٍ دينية، فهذا مشروعه، فهو يجعل كل ذلك من ميراث الثقافة العربية الوافدة على قومه.
الروايات التاريخية ضرب من الروايات، يمتزج فيها التاريخ بالخيال، وهدفها الأسمى تصوير عهد من العهود، أو حدث من الأحداث العظام، بأسلوب سردي سائغ، يعين القارئ استسهال عُسْر التواءات التاريخ، وتلطيف جفافه، والروائي الحاذق يجسِّم تلك الأحداث، ويخلِّد أبطالها فتُحْفر في ذاكرة الأمة، ولا نزال نفتأ نذكر العباسة أخت الرشيد، وعبد الرحمن الداخل، وشجرة الدر، وقد استطاعت بعضها أن تتوهط على دست المجد الأدبي كرائعة تلوتستوي الحرب والسلم، ولعل والتر سكوت هو أول من ابتدع هذا الجنس سنة 1814 في روايته “وايفرلي” ثم عبَّد هذا الطريق ألكساندر دوما، ويقف جورجي زيدان على رأس أصحاب هذا الفن في العالم العربي.
نحن هنا ندخل هذه الرواية في هذا التصنيف، فقد تواضع أكثر النقاد على أنه يمكن أن تدخل الأحداث في الرواية التاريخية إن انقضى على حدوثها عقد أو جيل، إلا أن سعيد يقطين له رأي آخر، فقد جعل كل الفترة التي تلت وقوع العالم العربي في الاستعمار الأوربي معاصرة ولا يصلح أن تصبح رواياتها تاريخية، وهذا نراه تضييقاً فنترك رايه وإن كان له وجاهته، إذ أن تلك الفترة التي جعلها قيداً هي فترة التغييرات الكبرى في العالم العربي من مرحلة إلى مرحلة، وعندنا أن فترة السبعينات وأحداثها وما تلاها هي فترة التغييرات الكبرى في جبال النوبة مكان الرواية، إذن القول الأول أنسب، وبه عملنا.
أوجز التعريفات عن الرواية التاريخية أنها عمل سردي يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيلية حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع متخيلة، أو “أنها نص تخيلي نسج حول وقائع وشخصيات تاريخية” وهذا ما فعله آدم أجري، وكما رأينا في هذه الرواية فإن مادتها التاريخية حاضرة بقوة وأن الراوي استطاع أن يبث فيها الحياة فلا تجمد.
وتتنازع الروايات التاريخية الأمانة العلمية والحاجة الجمالية، وهذا هو ميدان أجري الذي أثبت فيه قدمه، فمن فرط تشدده في الأمانة العلمية حشد الرواية بالوثائق والأوراق، ومن فرط تشدده في الأمانة العلمية عرض الرواية على بعض أبطالها لتأكيد أحداثها، ومنهم تلفون كوكو صاحب أقوى ذاكرة رأيته ، والمعروف بتشدده في رواية التاريخ والأحداث، كل ذلك لم يذهب بجمال العمل، ولعل هذه الرواية حققت بجلاء مقولة توسط الرواية التاريخية بين التاريخ والأدب، فهنا مادة تاريخية صحيحة نسجت بأسلوب أدبي شيق.
لقد وفِّق أجري في اختيار هذا الجنس الأدبي لتحقيق هدفه، فالروايات التاريخية تشهد إقبالاً لكونها الشكل الأنسب الذي يمكن به أن يعبر الأديب عن رؤيته لقضيته وفلسفته وكيفية إحداث التغيير.

نواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.