صناعة نقض المواثيق والعهود
محمد فاروق سليمان
الاتفاق الاطاري الذي تقدمت به الحركة الشعبية هُو رؤية متكاملة اكثر منه اتفاق اطاري مبني على اعلان مباديء معني بالدخول في مناقشة القضايا التفصيلية، ليصبح مزيج من اعلان المباديء نفسه ورؤية الحركة للقضايا التفصيلية بناءا علي هذه المباديء.
لا اعتقد ان وفد الحكومة الانتقالية كان مهيئا لهكذا نقاش وفق تجربته القصيرة والمتعثرة في عمليتي تفاوض: الاولى ادت لاتفاق بين الحرية والتغير والمجلس العسكري الانتقالي عبر كلفة اكبر من ان تحتملها الشراكة الحالية دون الالتزام بتحقيق العدالة بعد احداث فض الاعتصام واجهاض الحق في التظاهر الآمن الذي انتزعته الجماهير عبر اعتصام القيادة العامة، وحالة تربص ليس بين الشريكين او داخلهما وحسب، والذي انتهي بتقزيم تحالف الحرية والتغيير الى تحالف بين احزاب اربعة تدعي العملية (practicality) السياسية وفق نهج برغماتي لن تطيقه ثورة بأية حال، ليتجاوز التربص الشريكين الى مؤسسات الدولة وفي مقدمتها اجهزة العدالة واجراءات تفكيك النظام السابق والاصلاح القانوني والمؤسسي، وهيكلة القطاع الامني لتصبح هذه الشراكة عاجزة حتى عن الالتزام بالوثيقة الدستورية التي تاسست عليها! وتجربة التفاوض الثانية في اتفاق جوبا والذي اتى استنساخا لاتفاقات الانظمة الشمولية مع معارضيها يتيح فقط مشاركة في السلطة والثروة ان وجدت!! وليست تعبير عن انتقال انتجته ثورة بعيدا عن هشاشة اتفاقات لم تدم أبداً!!
هناك فرصة عظيمة عبر عملية التفاوض الحالية مع الحركة الشعبية بقيادة الحلو لتصحيح مسار الانتقال وتحقيق مطالب الثورة وتعزيز انتصارها لن تطيقه تجربة الحركة المدنية عبر تمثيلها الحالي، والتي لم تنجح في فهم اي عملية تفاوض دخلت اليها خارج اطار “هندسة الامتيازات”، ولَم تحدث اي اختراق طوال وجودها المستقل كحركة سياسية مدنية، في اي من مراحل العملية السياسية منذ سقوط البشير؛ انتهاءا بتوقيع حمدوك-الحلو في اعلان اديس وليس حصراً، واعتزالها لكل تفاهمات الحركة المدنية غيرها مع الحركة الشعبية ليكون تاييدها او صمتها لاحقا عن اتفاق المباديء الموقع بين البرهان ورئيس الحركة الشعبية في جوبا تناقضا بيِّناً يعكس انعدام كلا الرؤية والمبدئية..
التناقض في موقف الحركة المدنية السياسية التي تتقدم رسميا الان عملية التفاوض مع الحركة الشعبية ليس إرثًا جديدا، ولكن يبدوا اننا امام فصل اسرع ايقاعا في الكشف عن تناقضات العقل السياسي القديم، والذي لا يختلف فيه هذا الحماس ممن هم في السلطة الان في محاولة بائسة لتجاوز مهددات امتيازات السلطة عن نهج الانقاذ التي انتهى انقلابها على السلام في ٨٩ بتوقيعها على اتفاقية السلام الشامل في ٢٠٠٥، بعد ان فرضت على السودان الحرب لعقدين اضافيين كانت كفيلة بتبديد امال الوحدة الوطنية.
الاخطر في هذا المنهج داخل العقل السياسي القديم هو انه كان المدخل الاساسي لصناعة نقض العهود والمواثيق والذي يفسر التناقض بين موقف النخب السياسية وتناقضه حسب موقعها من السلطة وليس مراجعة مواقفها بشكل مبدئي: فهذه الحكومة الانتقالية نسخة من نسق الحكومات الوطنية منذ الاستقلال؛ في قمة ضعفها بتكون عايز تحافظ علي امتيازاتها بالانحناء امام العاصفة، باعتبار اي من استحقاقات السلام والتعاقد الاجتماعي (عاصفة) يجب تمريرها والانقضاض لاحقا على هذه التفاهمات وخيرا فعل القائد عبد العزيز الحلو بوصف عملية التفاوض معها في اطار نهج الحركة الشعبية بالالتزام بالتفاوض كاساس للوصول لتسوية سياسية تضمن مخاطبة جذور الازمة الوطنية متى ما توفرت الارادة عند الحكومات.
اخيرا لفت انتباهي التعاطي الواسع مع اجازة الاربعاء المقترحة كعطلة للاسبوع، والاجوبة التي تبرع الناس بتقديمها والحجج عن كيف يعيش العالم! ولكن الحركة الشعبية وان لم تريد فقد اخبرتكم كيف يعيش الناس تحت ايقاع الانتينوف منذ ثمانينات القرن الماضي في المناطق المحررة، وقبل الحديث عن البورصة وحركة الاقتصاد ونشاط العالم الذي يتقاطع مع بعضه، انتظروا حتى يأتي هذا العالم هناك بغير القنابل ويفتح سوق الاوراق المالية في كاودا..