المسيرة المتعثرة نحو بناء الدولة السودانية (4)
بقلم/ كموكى شالوكا (إدريس النور شالو)
الدستور الاسلامى وتحالف الإسلاموعروبيين (8-4)
نبعت فكرة الدستور الاسلامى فى فترة ما قبل استقلال السودان، فقد برز توجه واضح نحو وضع دستور البلاد على مبادئ الشريعة الإسلامية، اقترن ذلك الناشط بحملة إعلامية قوية وبخاصة بعد صدور صحيفة ” الإخوان المسلمون” في شهر يونيو عام 1956، حينها نشر الأستاذ أحمد صفي الدين مقالات عدة بعنوان” معالم الدستور الإسلامي تناول فيها بإسهاب مفهوم الدستور الإسلامي والأسس التي يقوم عليها والقضايا التي يعالجها كنظام الحكم وشكل الدولة والحقوق الأساسية للأفراد وغيرها من المسائل الدستورية.
بدأ اتصال الحركة الإسلامية بقيادة الهيئات والطوائف الدينية والأحزاب السياسية لتأييد الفكرة في إطار تجمع شعبي شامل يتجاوز التقسيمات الحزبية والولاءات المحدودة وكانت الاستجابة واسعة النطاق . وجّه الإخوان المسلمون وجماعة التبشير الإسلامي والإصلاح الدعوة إلى الهيئات الإسلامية في السودان لعقد اجتماع في دار جماعة التبشير الإسلامي بأم درمان للنظر في أمر الدستور حتى يجئ متفقاً مع إرادة الشعب السوداني المسلم ومستنداً إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم، و حضر الاجتماع ممثلون للهيئات التالية:
اتحادات الختمية، هيئات الأنصار، الإخوان المسلمون، أنصار السنة، خريجو المعهد العلمي، صوت الإسلام، جماعة القرض الحسن، الجمعية الخيرية الإسلامية، جماعة التبشير الإسلامي والإصلاح، مؤتمر الهيئات الإسلامية، نادي أم درمان الثقافي، جماعة المحافظة على القرآن الكريم بأم درمان وشمبات، النادي الثقافي الإسلامي بالخرطوم بحري، جماعة اللواء الأبيض وجماعة السيرة المحمدية. شهد ذلك الاجتماع تأسيس جبهة الدستور الإسلامي وإنتخاب الأستاذ عمر بخيت العوض المحامي عضو المكتب التنفيذي لحركة الإخوان المسلمين في السودان أمينا عاما، وشكلت لجان عدة للقيام بمهام وضع الأهداف العامة للدستور الاسلامى، ولجان للاتصال والدعاية ولجمع المال وغيرها من المهام.
باشرت جبهة الدستور نشاطها على أوسع نطاق لتعبئة الرأي العام السوداني واستنفاره لمناصرة قضية الدستور الإسلامي، فنزلت إلى ميدان الشعب وعملت على تعبئته للمناداة بالدستور الإسلامي و اتخذت التعبئة سبل الاتصال بالأفراد والهيئات والجماعات وقادة الأمة وإقامة الليالي الإسلامية والندوات العلمية والمحاضرات. جري أيضاً الاتصال بالسيدين علي الميرغني و عبد الرحمن المهدي ولقيت فكرة الدستور الإسلامي كل تأييداً وتشجيعاً منهما، وكذلك إتصلت جبهة الدستور بالسيد إسماعيل الأزهري رئيس مجلس الوزراء الذى رحب بالفكرة وجري كذلك الإتصال بأعضاء البرلمان السوداني بمجلسيه.
أثناء الحكم العسكرى الاول (1958-1964) إستخدم نظام عبود الدين لأسلمة وتعريب جنوب السودان ومناطق أخرى من البلاد، فقد قام النظام بالتضييق على نشاط البعثات التبشيرية وقام بإغلاق المدارس التابعة للكنائس، فى تلك الفترة نالت فكرة الدستور الإسلامي تأييدًا قويًا من الأحزاب الكبيرة ودخل قضية الشريعة الإسلامية في قلب صراع الهوية في السودان. ففى 1968 تحالف الصادق المهدي مع جبهة الميثاق الإسلامي في الترويج لمشروع الدستور الإسلامي، فكلاً من الصادق والترابي يعتقد أن المهمة الأولى للحاكمين هى أسلمة الدستور بالإضافة للأهداف السياسية الأخرى والتى يأتى على رأسها القضاء على التيار اليسارى .
إستمرت الأحزاب الشمالية في محاولاتها فرض التوجّه الإسلامي العربي على السودان، وظلّ كلٌ منهما يؤكد ويكرّر ذلك التوجّه. فقد قال الصادق المهدي أمام الجمعية التأسيسية في أكتوبر عام 1966 أن هويّة السودان هي هويّةٌ عربيةٌ وإسلاميةٌ، وأن الأمة السودانية لن تستطيع تعريف هويّتها وتحتفظ بهيبتها وعزِّها، بغير إحياء الإسلام.
بدوره قال الدكتور حسن الترابي أن جنوب السودان يعيش حالة فراغٍ ثقافي لا بُدَّ من ملئها بالعروبة والاسلام. إنضم السيد علي عبد الرحمن نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي إلى ذلك الركب، وأعلن أن السودان بلدٌ عربيٌ إسلاميٌ ومن لا يستطيع أن يتعايش مع هذه الحقيقة فعليه أن يحزم أمتعته ويغادر السودان.
مرة أخرى توطدت علاقات جبهة دعاة الدستور الاسلامى بعد المصالحة الوطنية عام 1977 وتصالح مبعوث الجبهة الوطنية الصادق المهدى فى بورتسودان مع جعفر نميرى بعد تحوّل الاخير الى إمام الاسلام – وكتَب أو كُتُب له – ( النهج الاسلامى لماذا ؟ – النهج الاسلامى كيف ؟). عارض كثيرون من الحركة الاسلامية التصالح مع النميرى، لكن المؤيدين وكان على رأسهم الدكتور حسن الترابى فقد رأوا أن مشاركتهم كانت فرصة للتمكين و بسط فكر الحركة الإسلامية ولأن النظام وعد بتطبيق الشريعة الاسلامية .دخل الترابى فى مؤسسات نظام مايو ولكنه لم يجرؤ على صياغة دستور إسلامى لكنه عمل على بناء نظام إقتصادى قائم الشريعة الاسلامية ممثلة فى الشركات والبنوك الاسلامية، و في عام 1983 أجرى تعديلات على قانون العقوبات أدخل فيه بعض نصوص الحدود و التعازير.
بعد إنفصال جنوب السودان عام 2011، تكونت جبهة دستور إسلامي أخرى من التنظيمات الإسلامية والتي دفعت بوثيقة مشروع دستور اطلقت عليه اسم «دستور دولة السودان الاسلامية» لإعتماده دستوراً دائماً لحكم البلاد. وأُختير زعيم الاخوان المسلمين الصادق عبد الله عبد الماجد أميناً عاماً لجبهة الدستور الاسلامي الذي دعا لتأسيس نظام حكم اسلامي للدولة في كافة جوانب الحياة بجانب التشديد بوضوح للنص على دين الدولة، وأن يكون الشريعة الاسلامية عقيدة ومنهجاً.
وأوضحت جبهة الدستور الاسلامي في بيان: “إن دستور 2005 لم ينص على الشريعة ولم يشر الى دين رئيس الجمهورية ونوابه وشاغلي المناصب الدستورية بجانب الإشتراط في حكم تولي الولاية الكبرى وقصرها على الرجال دون النساء”. وأضاف الامين العام للجبهة موجهاً خطابه إلى كل التيارات الإسلامية بالسودان: “نريد أن نضع أيدينا فوق أيدي بعض لتكون كلمة الله العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وأن هناك تآمر من الأحزاب منذ عام 1968 ضد الشريعة وأن الحكم لن يكون علمانياً ولا رجعة هذه المرة أبداً، وعلى الدولة إقرار حكم الله، وإن لم تقم فإن للشعب كلمة”.
ومن جانب أخر قال الطيب مصطفى، رئيس منبر السلام العادل، إن المسلم الذى يرفض الدستور الإسلامى هو الذى يرفض الصلاة، وأضاف مهدداً: فى حال رفض الحكومة الدستور الإسلامى وتبنيها دستوراً علمانياً، سنواجهها بمعارضة قوية.وقال المراقب العام للإخوان المسلمين، الحبر يوسف نور الدائم، إن كل شخص “يحس بالحرج” من المجاهرة بالشريعة الإسلامية فهو خارج ملة الإسلام.أما الأمين العام للرابطة الشرعية للعلماء والدعاة في السودان مدثر أحمد إسماعيل فدعا إلى حشد الطاقات وتوفير الإمكانات لخدمة برامج جبهة الدستور الإسلامي، وحض التيارات الإسلامية على الصبر في الابتلاء الذي يواجههم بخصوص دعوتهم إلى تحكيم شرع الله حتى ولو أدى إلى خروج أرواحهم منهم.
عاد الاسلاميون الى تحالفهم بعد إستقلال الجنوب لأنهم ورأوا ذلك فرصة لإستعادة سيطرتهم وهميمنتهم لأن ما تبقى من السودان صار دولة إسلامية عربية صرفة ولا مجال بعدها للحديث عن التعدد الدينى أو الثقافى أو”الدغمسة” كما قال الرئيس الخلوع عمر البشير فى القضارف. فى 28 يناير 2014 دعا الرئيس السوداني فى خطاب الوثبة القوى السياسية في البلاد، بما في ذلك أحزاب المعارضة والجماعات المسلحة للانضمام ألى عملية الحوار الوطني. مهّد الدعوة للحوار لعودة السلطة الروحية للاسلاميين ممثلة فى حسن الترابى، وعودة تنظيمات الاسلام السياسي التى إنقسمت وهى المؤتمر الشعبى، حركة الاصلاح الأن، منبر السلام العادل وبذلك تتوحد أجنحة الاسلام السياسى.
تمثلت أهداف الحوار فى التوصل لحل سلمى للصراعات المسلحة فى السودان، التحول الديمقراطى، مخاطبة قضايا الفقر وأخيراً مخاطبة قضايا الهوية و المواطنة. ويرجح ان فكرة الحوار قد تمت بناء على توصية أو إسترشاداً بالورقة الامريكية التى إقترحها معهد السلام الأميركي والتى تؤسس للحوار المقترح فى السودان وقدمها كل من برينستون ليمان وجون تيمن فى١٣ أغسطس ٢٠١٣ .
كونت للحوار لجنة للتنسيق العالي من اربعة عشر شخصاً، سبعة أعضاء من الحكومة وسبعة ممثلين للمعارضة وهى ما عرفت ب لجنة ( 7+7) برئاسة عمر البشير رئيس الجمهورية، وكانت من مهامها تنسيق عمل المؤتمر وتقديم الدعوات للسودانيين. بدأ الحوار فى 2015 بمشاركة 160 من الأحزاب والحركات المسلحة بالإضافة للشخصيات الوطنية، وفى عام 2016، إزداد عدد المشاركين حتى بلغ 221 مشاركاً. انتهت عملية الحوار بعد ثلاثة سنوات من بدايته وصدرت منها توصيات كثيرة جدًّا بلغت (994) فى مجالات السلام و الاقتصاد والهوية، الحريات وشئؤن الحكم.
نتج عن ذلك اعتماد الوثيقة الوطنية للسودان لتكون بمثابة الأساس لوضع دستور جديد. ولكن يلاحظ عدم مشاركة عدد من أحزاب المعارضة الرئيسية سوى أحزاب صغيرة قريبة من الحكومة وتفتقر لتأثير سياسي حقيقي، ووقعت عليها قوى لم تشارك أصلاً فى عملية الحوار. أما الحركات المسلحة الرئيسية بما في ذلك الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان وحركات دارفور أالمسلحة الرئيسية فقد رفضت الانضمام إلى العملية منذ البداية.
كان يؤمل أن تكون عملية الحوار الوطنى شفافة و تحظى بمشاركة شعبية حقيقة، إلاّ أن ذلك لم يحدث فلم يلتزم المؤتمر الوطنى بما نص عليه فى خارطة الطريق التى أعدتها الالية الافريقية رفعية المستوى لتوفير بيئة ملائمة للحوار، والتى اقترحت فيها مناقشة وقف الأعمال العدائية و وصول المساعدات الإنسانية قبل عقد مؤتمر الحوار الوطني. قامت مؤسسة Berghof Foundation الألمانية ، وهى جهة بحثية راسخة بدراسة عدد من الحوارات الوطنية من ضمنها حوار الوثبة السودانى ، فانتهت الى أن العملية تميزت برمتها بعدم الجدوى وعدم التمثيل وغياب الإرادة السياسية والالتزام بالشروط المتفق عليها، بما في ذلك وقف إطلاق النار وإصدار المراسيم الحكومية التي تهدف إلى السماح بنشاط سياسي معارض حر. لذلك كان الحوار غير شامل من حيث التمثيل والجوهر، وبالتالى لم يتحقق أى من الاهداف الاربعة التى ذكرها البشير فى خطاب الوثبة.
لقد كانت الدعوة الى تبنى الدستور الاسلامى بداية الإنقسام للكيان السودانى ذات البنية المركزية والاجتماعية المشوهة، وقد عمل الذين أمسكوا بزمام الحكم بعد خروج الانجليز على تعميق الانقسام وتكريسه بين المناطق و الأعراق التى لم تكن متجانسة إبتداءاً. خفت صوت الذين نادوا بالدستور الاسلامى أثناء الفترة التى أعقبت توقيع إتفاقية السلام الشامل، لكن بعد إنفصال جنوب السودان تجدد الصراع حول ضرورة سن دستور إسلامي يضمن الهيمنة و الحفاظ على إمتيازاتها رغم أتساع دائرة القوى السياسية الذين يرون أن الدولة يجب أن تقف على مسافة واحدة من كل الأديان و المعتقدات.
…… نواصل