تهافت جهود رفض العلمانية(2_2)

د.محمد يوسف احمد المصطفى

 

عوضا عن ذلك فقد طفق أؤلئك الذين أحرجتهم موجات الوعي المفاهيمي العاتية التي ترافقت مع ثورة ديسمبر المجيدة، و هددت بصورة جدية مرتكزات خطابهم السياسي، طفقوا يهمهمون بالدعوة الى ما أسموه الدولة “المدنية” التي صمموها عمدياً لتسلب ما استطاعت قوى الثورة و التغيير التحرري اكتسابه من حريات و حقوق بالقدر الذي أذن لشعبنا اقتحام نادي المجتمعات العصرية المتحضرة. حسناً،، لنختبر في صبر و أناة و موضوعية ملامح وسمات دولتهم المدنية المزعومة التي يطرحونها بمهارة الحواة و احتيال المحتالين و خبث المطففين و المدلسين متوهمين أنهم قد ينقذوا نموذج دولتهم الدينية البغيضة التي باتت ملفوظةً مرفوضةً منكورةً عند كل ذي وجدان سليم و عقل مستنير. و مرة أخرى يتورطون في مأزق تناقض نموذج الدولة المدنية (التي مازالت حبيسة أحلامهم الملتبسة و أذهانهم المشوشة) مع النموذج المثالي للدولة العصرية القائمة على احترام و تعزيز كرامة الانسان و ضمان و تكريس حرياته كما عبرت عنها المواثيق و العهود الدولية كعصارة و محصلة للتجربة الانسانية المحضة، و فوق ذلك جسدتها تجارب ملموسة يتمتع ضمن شروطها الملايين من الناس بمنحة رب العالمين خالقهم و قيوم شئونهم؛ و نعني نعمة الحرية و الكرامة. و أبرز ما يهرفون به كأحد أبرز سمات الدولة المدنية التي يطرحونها بديلاً للدولة العلمانية هو مبدأ سيادة الديمقراطية. و الديمقراطية التي يدعون أنها الميزة الأساسية للدولة المدنية تعني عندهم الأخذ برأي الأغلبية وفقاً للغلبة الميكانيكية. و هذا يمكن، نظرياً، أن يكون مقبولاً و عقلانيا في حالة مجتمع متجانس أحادي المظهر و المخبر. الا أن ذلك سرعان ما يصبح ديكتاتورية الأغلبية و تسيدها على الأقلية في حالة المجتمع التعددي المتنوع. و هنا لا يجدي كثيراً التحجج بضرورة صيانة حق الأغلبية و حمايته من ديكتاتورية الأقلية حيث أن القاعدة هنا هي ليس فرض رؤية الأقلية بقدر ما هو ضمان تمتع الجميع بحقوق انسانية عامة لا يجوز مطلقاً حرمان أي فرد منها سواء ان كان من الأغلبية أو الأقلية.
ان اعمال مبدأ “الغلبة” في ادارة الشأن العام مبدأ تجاوزته التجربة الانسانية المعاصرة. فالبشرية راهناً تحاول جهدها تأسيس مجتمعاتها على “العقد الاجتماعي” التوافقي الذي تتأسس فيه الحقوق و الواجبات على ركائز الأهمية الحيوية لتضامن البشر مع بعضهم البعض باعتبار حقيقة التمايز و الاختلاف بينهم و الشأو البعيد الذي وصلته درجة التخصص في الوظائف المجتمعية الى الحد الذي جعل كل انسان في أشد الحوجة لغيره من الناس الذين يتقنون وظائفاً و يؤدون مهاماً يحتاجها الفرد و لكنه في نفس الوقت ليس مؤهلاً لتنفيذها بنفسه لنفسه بحكم أنه متخصص في وظيفة معينة محددة. و بناءً على ما تقدم فانه يصبح جائزاً اتهام من ينادون بتحكيم رؤية الغالبية بأنهم يغردون خارج سرب تطور الفكر الانساني المعاصر، بل أنهم يضمرون عداءً أصيلاً لفكرة الحرية نفسها و الديمقراطية ذاتها!!
يجتهد أنصار العداء لفكرة العلمانية في اجترار حجج متهافتة تقوم على التدليس أو التلفيق أو الابتذال الرخيص. فالذين تصدوا لتحمل عبء الانتقاص من مقترح الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بضرورة اعتماد العلمانية كأبرز سمة من سمات الدولة السودانية كتجسيد للتغيير الذي اشترعته ثورة ديسمبر المجيدة، يحاولون بلا جدوى فرملة قطار التغيير الاجتماعي و الثقافي و السياسي الذي انطلق بقوة مستهدفاً تجاوز كافة محطات التخلف و الرجعية القائمة على تكريس القهر و الاستغلال و الاستبداد و التحقير و الاذلال، وصولاً الى محطة السودان الجديد الذي يتمتع فيه الكافة بحقهم في أن يعيشوا فوق ثرى وطنهم بحرية و كرامة و يتمتعون بلا أي قيود في أن يكونوا مختلفين و متميزين و كما يشتهون و يرغبون و يشكلون معاً وطناً مزداناً بالتنوع و ثرياً بالتعدد. و نعرض فيما يلي لأبرز تلك المجهودات الفكرية (بزعم حداتها) المستهدفة العلمانية مفهوماً و رؤية.
اتساقاً مع تطور الفكر الانساني و تمثلاً لاستنتاجاته الباهرة، طرحت الحركة الشعبية “علمانية الدولة” كصيغة لضمان عدم استغلال الدين في أنشطة الدولة المتعددة و تحريراً لمعتقدات الناس الدينية من أي اكراه أو تسلط من جانب الدولة. و الحركة بهذا الطرح تعني تماماً ما تقول؛ فهي من جهة معنية و ملزمة بموجب مانفيستو التحرير الذي يوجه نضالها بكونها حركة تحريرية، ملزمة بالعمل بلا هوادة أو كلل من أجل التحرير الناجز لارادة الشعوب السودانية من أي ضغوط تأتي من أي مصدر للهيمنة أو الوصاية أو الاكراه فيما يخص حرياتها في الاعتقاد الديني و الممارسة و الدعوة للمعتقدات و بلا قيود سوى تلك التي تقتضيها اعتبارات السلامة العامة و الصحة المجتمعية. و الدولة ، أي دولة، بفضل احتكارها الضروري لأدوات العنف و الاكراه و سلطة استخدام تلك الأدوات تصبح الطرف الأقوى بكل المقاييس في مواجهة الفرد المجرد من أي سلطة أو سلاح يكون هو الطرف الضعيف المحتاج للحماية من خطر تعدي الدولة على حقه الفطري الثابت في ممارسة حريته في الاعتقاد الديني و التعبير عن ذلك و ممارسته من دون أن يخشى بطش الدولة و سلطانها. لن يتأتى ذلك بغير “علمانية الدولة” بمعنى تجردها التام من أي صبغة دينية قد تؤثر على أدائها العام و تمنع عنها نزعة المحاباة أو العداء لأي فئة دينية معينة في المجتمع وفقاً لمعيار الاعتقاد الديني. و هذا في تقدير الحركة ما يضمن للجميع حقهم الكامل في التدين و العبادة و التفاعل الاجتماعي وفقاً لقناعاتهم الدينية وليس وفقاً لاملاءات الدولة و تفضيلاتها و قهر سلطانها. ان الحركة الشعبية لعلى قناعة عميقة بأن علمانية الدولة تتيح أفضل الشروط لازدهار و نمو و تجسد المعتقدات الدينية و ترسيخ قيمها القائمة على التعامل الطوعي بين البشر وفقاً لأخلاقيات المحبة و الايثار و التراحم و التكافل و الاحترام المتبادل. بالرغم من اصرار الحركة الشعبية على تبيين هذا الموقف و شرحه بلا كلل في كل المنابر، الا ان هناك من يصرون على تقويل الحركة الشعبية ما لم تقله. ماذا يكون التدليس ان لم يكن الادعاء بأن الدعوة لعلمانية الدولة هي الدعوة لتجريد المجتمع من الدين بما يفضي بالضرورة لاشاعة الرذيلة و تغييب الأخلاق و اقصاء الفضيلة و التفكك الأسري و كافة صنوف الموبقات!؟؟؟ حقيقة صدق الذي قال “رمتني بدائها و انسلت”. تتناسل و تتراكم الوثائق التي تثبت أن دعاة الدولة الدينية قد أشاعوا الفساد وأهدروا كرامةالعباد و انتهكوا كافة القيم الحاضة على حفظ الانسان في دمه و ماله و عرضه. ماذا أبقى هؤلاء المدلسون من الموبقات لينشرها غيرهم؟؟؟!
تمتد جهود التزييف و التخليط بهدف الطعن في جدوى نداء الحركة الشعبية لتصميم و اعتماد الدستور العلماني الى مرافئ الدعوة الى مهادنة التيارات المعادية أصلاً للعلمانية بحجة حرمان تلك التيارات من أي حجة تساعدهم في اثارة جماهير الشعب “المتدين” ضد حكومة الثورة الحالية!!! و لعل كل ذي عقل يراقب ما يحدث في السودان يستطيع بسهولة فائقة دحض هذه الفرية الخبيثة و تبيين مقصدها اللئيم و المراوغ المتعمد تزوير الوقائع الماثلة وتزييف ارادة الشعب السوداني. فجماهير الشعب السوداني الثائرة (ربما باستثناء الفلول) قد أكدت بجلاء و قوة و جسارة عمق ايمانها و صلابة تمسكها بموقفها القاطع في رفض الدولة الدينية و لم تفلح آلاف عبوات الغاز المسيل للدموع و لا هروات و خراطيش عصابات الأمن و لا رصاص القناصين و لا التعذيب الوحشي و المهين و القاتل طيلة ما يقارب الستة أشهر من المواجهات اليومية في شوارع و حارات كافة المدن و القرى، لم تفلح في اثناء جموع الثوار و كتل الناشطين في التراجع عن مطلبهم العنيد في الزج بحكومة الدولة الدينية في مزبلة التاريخ # تسقط بس.!! و الشاهد في الأمر أن الأسلوب الأكثر نجاعة في التعامل مع فلول الدولة الدينية و سدنة مشروعها الخائب تقوم ليس على ممالأة عناصرها و استرضاء ناشطيها و شراء صمتهم و هدؤهم بالصمت عن مخازي مشروعهم و فضح عواره، و انما يتحقق درء خطرهم و تفادي شرورهم باستئصال شأفتهم و تفكيك كياناتهم السياسة و الاقتصادية و الأمنية بكل حزم و جدية ووفقاً للقانون. والشعب السوداني قاطبة على دراية تامة بكافة صور و أشكال جرائم الفلول. و لذلك، فان مساءلتهم و محاكمتهم على ما أقترفوا من جرائم و خطايا تمثل مدخلاً سليما و عادلاً لكف عدوانهم على ارادة الشعب و شل امكاناتهم عن العبث بمقدراته. # اي كوز ندوسوا دوس.
تواصلت الحملة المسعورة لؤاد نداء الحركة الشعبية بعلمانية الدولة و قبره تحت ركام غبار كثيف من الترهات و السفسطات المتدثرة بعباءة العلم و المدعية رصانة الموضوعية. في هذا الصدد حاول بعضهم ايهام القراء و الجمهور السوداني بأن ما يطرحه يستند على ضوابط المعالجة الفكرية الموضوعية لمفهوم العلمانية بوصفه مصطلحاً انسانياً انتجته الجهود العقلية للبشر.و أول ما يصدم المطالع لتلك السفسطات جنوحها الموغل في المرواغة و التغبيش الى الحد الذي نزع عنها أي دثار للحكمة و الموضوعية و حتى الرصانة و التماسك!!! الحركة الشعبية تدعو بكل صدق و جدية لصياغة فهم للعلمانية نابع من تجربتنا في هذا السودان و ناتج عن الجهود الحرة للفكر الحر الموضوعي الملتزم بضوابط البحث العلمي الرصينة مع الاستنارة اليقظة بالتراث الانساني بلا عقد او توهمات صمدية لا تقوم عل ساق.

تعليق 1
  1. ادم يقول

    فالعلمانية هو الخيار الوحيد لادارة واقع التعدد والتنوع فلا سبيل للتلفيق والمزايدة من قبل جماعة الهوس الديني

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.